الزخارف

تشكل الزخارف في الفن ما تشكله البلوريات في الطبيعة. وهذا شكل من أشكال الفن تُستخدم فيه الأشعة الموجهة (وهي نسب تواتر من نوع واحد) وحدها. لقد تطور الفن الزخرفي في بادىء الأمر عند المصريين الذين أعطوا الدليل أيضاً على ذهن عظيم خلاّق، وعلى تفرد ضخم في حقل الرياضيات؛ وقد كان هذا الفن الزخرفي البدائي، من الكمال بحيث أن جميع النماذج الزخرفية التي جاءت في أعقابه، وجدت أصولها في مصر القديمة. وقد لاحظ السر فلندرس بتري، المتخصص البريطاني في دراسة الآثار المصرية، إن من الصعوبة البالغة، إذا لم يكن مستحيلاً، إيجاد شكل زخرفي، ظهر من تلقاء نفسه، ولا يمكن إيجاد أصوله في الأشكال المصرية الأساسية. إن مثل هذا الفن الزخرفي، إنما هو في الظاهر ضرب من الرياضيات البيانية. وقد سبق الأرقام مثلما سبقت الرياضيات الحروف. ويمكن القول بأن هذه الظاهرة كانت تجسيداً للرياضيات في الفن. وتُعني رياضيات المجموعات بالفن الزخرفي مثلما تعنى بالبلوريات، وقد أحصت ذات إمكانيات التنسيق في هذه الحال وتلك. وليس في هذا ما يثير الدهشة. فالأمر الوحيد المثير هو أن الإنسان الجاهل قوانين عالم البلوريات، قد اكتشف مجموع تنسيقات الطبيعة، وأدخلها في الفن الزخرفي. وإذا ما صورنا بُنى بلورية تصويراً فوتوغرافياً، وأضفنا إليها الصور خلال عرضها على مساحة مسطحة، فإننا نحصل على أشكال زخرفية رائعة الجمال، مثل التي نراها في الفن المصري. وفي الحالين، نرى بأن عملية التنظيم قد نجحت بواسطة أشعة موجهة. فالأشعة هذه، هي في الطبيعة، التعبير عن العلاقات الطبيعية بين الذرات. ولكن، ما الذي أغرى الناس بإدخال الأشعة الموجهة في الفن الزخرفي؟ لقد نشأ هذا الإغراء، بدون أدنى ريب، من علم المساحة، أُو الهندسة؛ وإن المتعة التي يهبها النظام للكائنات البشرية، كانت موجودة في هذه المحاولة دونما ريب. غير أن هذه المتعة، هذا الميل إلى أن نجد الأشياء المنظمة "جميلة"، لهما أسباب أكثر عمقاً. ولقد أشرت آنفاً بأن الإيقاع، وترديد ذات المجموعات من الأصوات، قد سهلا الحياة والعمل في مستهل التاريخ الإنساني، وحاولت أيضاً أن أشرح لماذا كان الأمر كذلك. وإني لأحب الآن أن أطرح السؤال التالي: هل الذهن البشري، الذي يعكس "نظام" المجتمع الإنساني، يعكس أيضاً "نظام" الطبيعة؟ إن البلوريات، مثلها مثل الزخارف، تبدو لنا "جميلة، وبقدر ما تكون منسقة، تزيد رؤيتنا لها جمالاً. إن زيادة الجمال هذه، المتناسبة مع زيادة التنسيق، لتطابق الميل الطبيعي في البلوريات لتحقيق درجة من التناسق.
وقد فسر الميتافيزيقيون هذا الميل بأنه "جهد نحو العلاء"، و"رغبة في الشكل". ولكن ما نراه في البلوريات (لا في البلوريات فحسب، بل في الذرات وفي الجزيئات وفي كل المادة) ليس "بجهد" مثالي، أو "رغبة" عجيبة، ولكنه ميل إلى درجة عليا من التوازن والحفاظ على الطاقة. وبقدر ما يكون تناسق البلور كبيراً، تكون طاقته متماسكة، ويكون توازنه أكثر صلابة، أي أنه يكون متماسك البنية صلبها. وما نسميه بتناسق ليس شيئاً آخر سوى التعبير عن حالة طاقة ثابتة بشكل أو بآخر. وإن أكثر الذرات سكوناً هي المكونة من الغازات النادرة، مثل الهليوم، أو الآرغون. إن هذه الذرات هي التي، بالضبط، تملك أعلى درجة من التناسق في طبقاتها الإلكترونية. كما أن البُنى الأكثر سكوناً، في عالم البلوريات، هي التي تملك أعلى درجة من التناسق، أي المندرجة في نطاق الجسم المكعب والمسدس الاضلاع.
وليس ثمة ما يمكن تسميته "الرغبة في الشكل"، وإلا لحقّ لنا حينئذ الادعاء بوجود "الرغبة في استبعاد الشكل" أو "رغبة في فوضى الشكل". ذلك أن هذه المزاعم هي نفسها مزاعم خداعة. ولا يحق لأحد الاسراف في استخدام الكلمات.
قال غوته: "إن فكرة التحول هي هبة من فوق جديرة بالاحترام، ولكنها في الوقت ذاته خطرة. فهي تؤدي إلى غياب الشكل، وهي تدمر العلم، وتذويه. إنها شبيهة بقوة التشتيت والنبذ، وتضيع في اللانهائي، إذا لم نكن مزودين بثقلها الموازن؛ إنني أقصد بهذا سبب التخصيص، والثبات المتصلب لما أصبح واقعاً، كما أقصد بقوة التمركز والجذب، تلك التي لا يمكن، في أعمق جوهرها، أن تكون متضررة من أيما شيء خارجي".
إن غوته، هنا، يعبر بشكل شاعري وفلسفي في آن واحد، عن الميلين الأساسيين والمتناقضين للطبيعة والواقع. وما يسميه بقوة التشتيت، وهو ما كان هيغل يسميه "الدفع" إنما هو ميل جزيئات المادة للهروب إلى المطلق بسرعة ثابتة، وهو الميل الى التبخر والتحلل. وهذا الميل تناقضه قوة التمركز، أي قوة "الجذب" الهيغيلية، أي الميل إلى المشاركة، والتوحد، فتشكيل مجموعات، فتجميع الطاقة. إن هذين الميلين يعملان في كل مادة منظمة ومنسقة، وهما: الاتجاه المحافظ، والثبات المتصلب والأمانة لشكل ما من التنظيم منذ ما يتحقق، والجمود؛ والاتجاه الثوري، والحركة الدائمة، وعدم الإخلاد للراحة، وتبدل الحالة الدائم. فبدون التناقضات الدائمة بين هذين الاتجاهين، وبدون إبطال التناقض الدائم بواسطة حالات التوازن الخاص التي بلغتها المادة والطاقة، فلن يكون ثمة واقع، ذلك لأن الواقع إنما هو مايلي: حالة من توتر مستتر بين الكائن والعدم، حيث يكون الكائن والعدم وهميين، وحيث يكون تفاعلهما المستمر، صيرورتهما، هي الشيء الحقيقي.
إن العلاقة الجدلية بين الشكل وبين المحتوى يمكن أن تلاحظ بدقة فائقة في البلوريات، أي في بنية المادة الصلبة والمنظمة. ما نسميه بالشكل ليس سوى تجمع خاص، وترتيب خاص، وحالة خاصة من توازن المادة؛ إنها التعبير عن الاتجاه المحافظ الأساسي، وعن الاستقرار المؤقت للظروف المادية. ولكن المحتوى يتبدل باستمرار، فهو تارة يتبدل بشكل خفي، وتارة أخرى يتبدل بعنف؛ وهو يدخل في نزاع مع الشكل، فيفجّره، ويخلق أشكالاً جديدة يستقر فيها المحتوى المكيّف من جديد لفترة ما.
إن الشكل هو تجسد حالة التوازن الحاصل في لحظة معينة. والعلامات المميزة المرتبطة بالمحتوى إنما هي الحركة والتبدل. وعليه نستطيع تحديد الشكل بأنه محافظ، وتحديد المحتوى على أنه ثوري، برغم أن هذا التحديد هو بالتأكيد تبسيط للموضوع.


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق