شرح لوحة

لقد اخترنا بعض الأمثلة لنبيّن أن المحتوى أكثر أهمية بكثير من الموضوع أو الفكرة الرئيسية، وإنه، مهما كان اختيار الموضوع هاماً، فإن محتوى الأثر الفني هو أقل تحديداً بما يصور من الطريقة التي يعتمدها، وإن الفنان، بوعي منه أو بغير وعي، يعبر عن الاتجاهات الاجتماعية لعصره. ولهذا، فإن شرح محتوى لوحة فنية هو، في بعض الأحيان، مسألة صعبة، بحيث ينجم عنه نتائج متناقضة في الغالب. وهذا ما أود توضيحه بمثل، هو الكيفية التي حلل بها جوهانس ر.بشر، "محتوى" لوحة "عاصفة على طليطلة" لألغريكو، فهو يقول:
"إن عاصفة أسطورية الشدة والعنف تتحفز، مجمّعة في الأفق كتلاً من الغيوم مرعبة. وقد بدأ تعكس ظلالها على حواشي المدينة، التي أخذت تشحب وترتجف أمام هذه النهاية للعالم التي بدأت تهددها. فالهضاب الخضراء التي بنيت عليها طليطلة، أخذت أيضاً تتبدل ألواناً، وتصطبغ بلون الطيف الشمسي. وقد سجنت النهر، الجامد أشبه بالمشلول، من هول الرعب الوشيك الانفجار، مكوناً كتلة فاترة مستسلمة حول جزيرة صغيرة، ترزح عارية تحت انعكاس سماء مرعبة. ومسّ العشب والشجر طائف من رعب، ومع ذلك، بقيت جامدة، بلا حركة: إنها لحظة الصمت قبل العاصفة. وقد أصبحت الغيوم في الأفق أكثر اسوداداً؛ لقد جعلنا الفنان نسمع هزيم الرعد المقترب، وجعلنا نحس بالبروق. إنها لعاصفة كونية تهدد، ما في ذلك ريب. وطليطلة ذاتها، ببروجها وقصورها، بجسورها وقناطرها، قد اهتزت حتى أسسها، قبل أن تنفلت العاصفة كلياً من عقالها" وهذه الهزة تمدّنا، في الوقت نفسه، بإحساس الظفر: إن طليطلة سوف تقاوم"!
إن هذا الشرح لرائع متفائل، ولكن شارحاً آخر قادر على تحويل الموضوع من "طليطلة سوف تقاوم"! إلى التساؤل: "هل ستقاوم طليطلة"؟ (الأمر بالنسبة لنا لا يعني طليطلة "الحقيقة" بل يعني أثر فنان تشهد لوحاته لا عن رؤية متفائلة للعالم، بل عن رعب رهيب). فالأحجار، والصخور، والهضاب الخضراء التي ينبغي لها أن تجابه العاصفة، لا تبدو قوية وصامدة. والقوة الأولى التي تهدد المدينة من فوق، هي أيضاً قوة مستترة في جوف الأرض. وليس انعكاس الغيوم هو وحده الذي يضفي على جدران الأحجار وما حولها من مناظر طبيعية، هذا الشحوب الشبحي: فثمة شيء ما شبحي في الأشياء ذاتها. وعندما ننظر إلى هذه اللوحة، يتبادر الى ذهننا قول برشت:
"من هذه المدن لن يبقى
سوى الريح التي عبرتها".
إن مأساة رهيبة على وشك الحدوث. وليست هي بقلب الطبيعة المتفجّر وإنما هي المدينة الصلبة، القوية البنيان من قبل الرجال، وقد تبدت هنا كأنها عرضة لعطب كبير، وهي تحبس أنفاسها في عالم من الأخطار المرعبة فبناء اليوم المهيب ليس سوى قبضة من أنقاض الغد. إن أشياء رهيبة ستحدث. وسيأتي اليوم الذي ستتهدم فيه طليطلة. وربما كان هذا ما يرغب ألغريكو في أن يقوله بتعبيره العظيم المهارة.
إن العنصر المعقد في كل من الشرحين هو ذاتيتهما فالعالم الذي عاش فيه ألغريكو، وما نعلمه عن وضعه الخاص، يبرر وجهة النظر الثانية. وقد تفاديت الإتيان بحجج وشواهد لكي لا أثقل مثالي هذا. ولكن يبدو أن من اللازم الإشارة إلى أية درجة هي صعبة عملية الوصول إلى شروح صحيحة في كل الحالات. فعلينا دائماً أن نتساءل عما كان يرغب الفنان في قوله. ولكن، حتى لو أعطي الجواب (وهذا نادراً جداً) فإن السؤال الثاني سيُطرح، لا محالة، على هذا النحو! لماذا أراد أن يقول هذا القول؟ وإلى أية قوى خارجية وإلى أية تأثيرات خاصة بعصره كان خاضعاً، بوعي منه أم بغير وعي؟ وهل المعنى الذي أراد إدخاله في أثره الفني لا يخفي معنى أكثر عمقاً، واجتماعياً في آخر تحليل، هو أيضاً في تناقض مع رغبة الفنان؟ وإلى أية معايير موضوعية يجب أن يرجع المراقب؟
إن الأثر الفني ليطوف في جو عصر ما، وهو مطبوع بطابع شخصي ما. ولكن، هل يبقى هذا الجو كما هو عقب قرون؟ أفلا يصبح الأثر الفني مختلفاً عما كان في عالم مختلف أيضاً؟ أليس حكم السلام أكثر صحة من حكم المعاصرين ألا يمكن لشيء ما، لم يكن في عصره سوى إرهاص بالمستقبل، أن يصبح، بشكل فجائي ومؤثر، حاضرنا هذا؟ إننا نستطيع أن نناقش موضوعياً الصفة الفنية للوحة ما، لكن معناها يظل خاضعاً لعدة تفسيرات متباينة. لقد كان ثمة ألغريكو في القرن السادس عشر؛ ثم لم يبقَ أي ألغريكو آخر على الإطلاق؛ واليوم، هناك ألغريكو للقرن العشرين. وإننا لنمدّ اليد دائماً نحو من تهمنا معرفته، وأن الأثر الفني ليس أبداً شيئاً قائماً بذاته. فهو دائماً بحاجة إلى تفاعل مع المشاهد. إننا نكتشف معنى الأثر الفني، ولكننا نضفي عليه أيضاً معنى آخر.
ومهما كان معنى اللوحة (وكثير من اللوحات الفنية تخضع لتفسيرات مختلفة في عصور عديدة) فهو دائماً أكثر من مجرد موضوع (مثلاً، غيوم عاصفة تتجمع فوق مدينة). فالفنان الطبيعي النزعة، يستطيع أن يتناول ذات الموضوع، بحيث أن لوحته لا تعني شيئاً سوى عاصفة حقيقية "طبيعية"، على مدينة حقيقية "طبيعية". وليس على المراقب عندئذ إلا أن يعترف بالدقة التي لجأ إليها الفنان في وصفه العاصفة، الأمر الذي يعيد محتوى اللوحة أو معناها إلى درجته الدنيا، أي إلى صفته التشبيهية. إن الأثر الفني يصبح مجرد نقل للطبيعة، منظوراً إليها من الخارج، وهي فارغة من المحتوى، أو من الفكرة، ولا تصبح حقيقة جديدة وهامة من تلقاء نفسها. وقد يحصل أن تكون اللوحة جيدة الرسم، وقد يكون هذا سبب وجودها، ولكن، ما هو المعنى العميق للأثر الفني، إذا اكتفت اللوحة بنقل، أو تسجيل ظاهرات الطبيعة، وعجزت عن الاكتشاف، والجهر، و"مفاجأة الأشياء أثناء عملها"؟ لقد كتب غوته حول "حقيقة وتشابه الآثار الفنية"، متخذاً نقطة البدء، المثل الكلاسيكي الذي رواه زيوكسيس بخصوص لوحة فنية، قال:
"أنتم تتذكرون، بلا ريب، العصافير التي كانت تحط لتنقر حبّات الكرز التي رسمها المعلم الكبير ـ إذن! ألا يعبر هذا عن أن الكرز كان مصوراً بشكل رائع؟
ـ كلا، هذا غير صحيح؛ وهو يؤكد، بالأحرى، أن هواة أكل الكرز أولاء كانوا عصافير دوري حقيقية.
ـ ولكن هذا لا يمنع أن تكون اللوحة رائعة؟
ـ وهل أقص عليك قصة أخرى؟
إنني عادة أحب أن أستمع إلى قصة من أن أستمع إلى تفكير.
ـ كان أحد كبار علماء الطبيعة يملك، في عداد حيواناته، سعداناً، أضاعه ذات يوم، ثم وجده في مكتبته بعد بحث طويل. كان الحيوان جالساً أرضاً وقد نثر حوله الصفحات المصورة من كتاب في العلوم الطبيعية غير مجلد. واقترب العالم مدهوشاً من حذاقة السعدان وجدّه، ولكنه سرعان ما اكتشف، بدهشة بالغة، وغيظ كبير، أن الحيوان الشره، قد أكل كل الجُعلان التي رأى صورها هنا وهناك في الصفحات".
ويبدو أن السعدان الشره قد اكتشف دونما ريب، وبدهشة بالغة، وغيظ كبير" أن الجُعلان الحقيقية تفوق الجعلان المصورة من حيث الطعم والقيمة الغذائية: وبعبارة أخرى، أن الطبيعة هي دائماً "طبيعية" أكثر من الفن، وأن الفن لا يأمل بتحقيق ما تستطيع الطبيعة أن تحققه من هذا القبيل. إذن، لا يمكن أن يكون هدف الفن، وموضوعاته، نقل الطبيعة، ويكون معناه ومحتواه مجرد محاكاة أيضاً.
ولكن، إذا كان من الأهمية بمكان معرفة أن معنى الأثر الفني ومحتواه يتجاوزان الموضوع، فإنه ليس أقل أهمية أن نخص الموضوع بالأهمية التي يستحق. ذلك أن تطور المواضيع في الأدب والفن جديرة بالبحث، لأن اختيار الموضوع يعكس الظروف الاجتماعية، والوعي الاجتماعي في عصر من العصور. فالانتقال من المواضيع الأسطورية إلى المواضيع "الدنيوية" والدخول في عالم الملوك والنبلاء، والعامة، وجعل المواضيع المقدسة علمانية، عن طريق وصف الحياة اليومية في المدينة والريف، واكتشاف كائنات بشرية أثناء العمل بمثابة موضوع فني، واستبدال "التراجيديا النبيلة" بـ "الدراما البورجوازية" كل هذه المواضيع الاجتماعية تشير إلى محتوى جديد، وتتطلب أشكالاً جديدة، كالرواية مثلاً. وهذا التطور ليس محدداً بمعادلات جامدة، ولا يخضع لتعاقب منظم: فالموضوع الجديد في بادئ الأمر، ثم المحتوى الجديد، وأخيراً الشكل الجديد. ذلك أن الأمر يتعلق بمؤثرات متبادلة، مركبة وعديدة، ويُتفق أن يأتي فنانون أمثال جيوتو، أو سرفنتس، فيعجّلون وتيرة هذه العملية، ويقفزون عدة مراحل. إن القدرة الدائمة للمواضيع التقليدية (وخاصة المواضيع الدينية) والتأثير المتمادي لأسلوب قديم، وتباين الظروف الاجتماعية، التكنيكية منها والإيديولوجية، القادرة على كسب العطف أو الوقوع في العدمية موقتاً، والحدث السعيد عند شخصية فنية كبيرة، كل هذه العوامل يمكنها أن تؤخر أو تعجّل التطور، بحيث يمكن أن تنشأ مدلولات وأشكال جديدة، سواء كان ذلك ببطء وبطريقة مؤلمة، عبر العديد من التناقضات، أو بشكل طوعي ومفاجئ. وعندما نحلل أثراً فنياً خاصاً، أو حركة، أو مرحلة فنية، ينبغي لنا أن نحترز من كل رأي مُسبق. ولكن، عندما نتفحص الملامح العامة لتاريخ الفن، من وجهة إجمالية، لابد لنا من الملاحظة أن كل التبدلات التي تطرأ على محتوى الفنون وشكلها، إنما هي، في اللحظة الأخيرة، نتيجة التبدلات الاجتماعية والاقتصادية. فالمحتوى الجديد هو الذي يحدد الأشكال الجديدة في نهاية الأمر.
ليس نادراً أن نرى محتوى جديداً معبراً عنه بأشكال قديمة؛ ولكن، يحصل أن يدمّر هذا المحتوى الأشكال القديمة بعنف يكاد يكون انفجارياً، وينشئ مكانها أشكالاً جديدة. إن الناقد السويسري كونراد فارنر، يذكر الفن المسيحي في المرحلة الأخيرة من العصر القديم، كمثل لمحتوى جديد، يستعير، موقتاً، أشكالاً قديمة. وقد كتب يقول:
"لقد استخدم هذا الفن أشكالاً وثنية قديمة، للتعبير عن محتوى جديد، ليس بوثني. وقد كان على الفنانين المسيحيين أن يستخدموا الأشكال القديمة لكي يصوروا المحتوى الجديد، بأكثر الطرق المباشرة والممكنة، لأن هذه الأشكال تنطبق على طرق للنظر أليفة، وأن أول همّ لدى المسيحيين الأوائل، كان نشر الرسالة المسيحية ما أمكنهم ذلك، بغية خلق عالم جديد. وقد وجب أن تولد وتضمحل أجيال من الفنانين، قبل أن يُصار إلى اكتشاف أشكال جديدة مطابقة للمحتوى الجديد، ذلك لأن الأشكال الجديدة لا يمكن أن تأتي دفعة واحدة، ولا يمكن إصدارها بمرسوم؛ وهذا أيضاً، صحيح بالتالي، بالنسبة للمحتويات الجديدة. ولكن، لنقل كلمتنا بصراحة: إن المحتوى، لا الشكل، هو الذي يتجدد أولاً؛ فالمحتوى هو الذي يولد الشكل، وليس العكس؛ فالمحتوى يجيء في بادىء الأمر، لا نظراً لأهميته وحسب، بل حسب نظام التسلسل التاريخي أيضاً: وهذا صحيح بالنسبة للطبيعة، والمجتمع، فهو اذن صحيح بالنسبة للفنون أيضاً. وحيثما كان الشكل أكثر أهمية من المحتوى، يُلاحظ بأن المحتوى قد أدركه العفاء. ففي أواخر القرون الوسطى، جاء الفن القوطي الفظ؛ وفي عصر الحكم المطلق المحشرج، جاء دور الروكوكو المذوّق، وفي عصر البورجوازية المتعفّنة أقبل التجريد الأجوف".
وليس بمقدور أحد أن ينكر أن المسيحية قد جاءت العالم بأفكار جديدة ولكن، يجب ألا نهمل واقع كون المسيحية في القرون الأولى من عصرنا، كانت متعلقة بالاتجاهات القديمة حتى في محتواها. فقد كانت في عملية مزاحمة مع أديان متجانسة، أمثال مذاهب ميشرا، وإيزيس، وسيرابيس، وأديان تجاوزت الحدود الإقليمية، وحاولت أن تروي عطش الوحدة الدينية في الإمبراطورية الرومانية. فالمسيحية، وخاصة في انتقالتها الاسكندرانية، كانت جد قلقة من أن تنتشر بوصفها حركة قائمة ضمن إطار العالم القديم، وأن تشترك بالفنون والفلسفة القديمة. ولكن كل هذا ليس له سوى علاقة غير مباشرة مع ما نحن بصدده. فالفكرة الأساسية عند فارنر، والتي لا نستطيع إلا أن نوافق عليها، هي أن افكاراً جديدة يمكنها أن تستخدم أشكالاً قديمة لكي تعبر عن نفسها في الآثار الفنية.
لقد رأى الفن القوطي البدائي، كنزاً من أشكال جديدة، ووسائل تعبير جديدة، تنشأ ابتداء من محتوى اجتماعي جديد، ومن نهوض الطبقات الاجتماعية الجديدة. وقد بدأت هذه العملية قبل ذلك بكثير، في نهاية العصر الروماني Romane القديم. فالعالم الروماني والشكلي للنظام الإقطاعي قد تشرب روح الثورة. ونظام الرتبية الجامد، الذي لم يكن يتضمن كائنات بشرية، بل درجات وطوائف، قد تفجّر. والأبهة الشامخة لدى الإقطاعيين المتسنمين العروش، وعند أقدامهم يقبع ولاتهم، والذهب، والبريق البارد، والثياب الحمراء والزرقاء، وحركات الأرستقراطيين المتعالين المرسومة، كل هذا أفسح المجال أمام الواقعية الذهولية في الفن القوطي البدائي وفي الفن الرومني الذي جاء فيما بعد. وقد جاء المسيح المتألم المعذّب، المسيح القريب من الشعب بفقره وبشاعته، ليحل محل السيد الإقطاعي للجيوش السماوية. وجاءت العذراء مريم، حامية المضطهدين والمعذّبين، لتحل محل ملكة السماء المتألقة في بهائها. وفي فن النحت المتأخر، كان أليعازار قد أصبح صورة مركزة، يشهّر بالأغنياء والأقوياء، والشرهين، والمتهالكين على الجسد بصلفه ومعايبه. الكلاب تلحس قروح أليعازار، ولكن الملاك يقترب ويقوده إلى الجنة، بينما الموت والشيطان يدبّران نهاية مفجعة للرجل الغني. وقد صورت ميتة الغني بشكل من فجور منتقم: ثمة شيطان يقتلع روحه من فمه، وآخر يهزأ من كيس نقوده؛ وثمة قفير من مسوخ، وعصافير، وحيتان، وأصلال، تهجم عليه، وتحمل جسده إلى الجحيم. وقد كتب فريدريك هيير في كتابه "مولد أوروبا" يقول:
"وهناك تماثيل أخرى قريبة جداً (عند باب مويساك) تصور عذاب الأغنياء والخطأة الآخرين في الجحيم. فهناك البخيل يتقلب على الأرض، ويمشي على يديه ورجليه كالحيوان؛ وهو مقوس الظهر، وكيس نقوده بقربة؛ فيما أحد الشياطين ذوي الأعضاء البشرية والحيوانية في نفس الوقت، يمزّق جسده بأظافره، على مرأى من شياطين أخرى... والمرأة ذات الأفاعي، العارية، تتدلى من نهديها مع أصلال وضفادع، هي موضوع متواتر في الدعاية لهذا الفن الشعبي، من أجل تجسيد رذيلة الترف".
لقد أدرك فريدريك هيير تماماً، وهو الكاتب المسيحي الكاثوليكي، أن الفن الجديد الذي أخذ يكنس محتوى وشكل التقاليد الإقطاعية، كانت تحدّه التبدلات والهزات الاجتماعية في ذلك العصر. فهناك آلاف من الفلاحين الذين لا أرض لهم، يتحركون ويتحرك معهم كل ضرب من ضروب "التائهين" كالقساوسة الهاربين، والحجاج، والطلاب، وشذاذ الآفاق. إن سلطان المال المتعاظم كان يقوِّض بنية المجتمع الإقطاعي ذاته. وثمة طبقة جديدة، واثقة من نفسها، أخذت تتطور، وهي طبقة سكان المدن، روّاد البورجوازية؛ وهناك فئة اجتماعية جديدة متمثلة بقلّة من النبلاء، أخذت تزداد أهمية؛ وظهر عدد كبير من العمال، متجمعاً لأول مرة، في مشاغل صناعة النسيج البدائية في القرون الوسطى؛ وقد جعلت حركة سكان المدن، وفئة النبلاء القليلة، والفلاحين والبروليتاريين، من التوراة سلاحاً ضد أسياد هذا العالم، وأثارت الهرطقة المناضلة. وقد استدعى أبيلارد وسواه، الروح القدس للإسهام في نضالهم ضد الإكليريكية الإقطاعية، واستنجدوا بالتقاليد القديمة ضد الجمود، وضد سلطان النظام التراتبي. كما أن تأثير الثقافة العربية أسهم في عملية اختمار الأفكار؛ وأخذ جنين الثورة البورجوازية يتململ في احشاء أوروبا المسيحية.
إن خلق أخويات للبناء في المدن، كان أحد أعراض العصر الجديد، وقد أورثت هذه الأخويات أسلوباً جديداً. وربما غالى هيير عندما زعم أن عالم القرون الوسطى الإقطاعي العجوز، قد وجد نفسه ذائباً وأعيد سبكه "في حماسة صليبية حركة البنائين". ولكن معنى هذه الحركة، بوصفها عاملاً في مجرى اجتماعي واسع، لظاهر للعيان. ويلاحظ هيير بأن "الانعطاف الكبير قد ظهر في الآثار الفردية، وفي تباين المواضيع أيضاً".
وهو يقول في مكان آخر:
"في "سان جوليان ـ ان ـ بريود" ثمة بنّاءان يظهران لنا وجهيهما: إنهما وجهان واقعيان في قوتهما، بملامح خشنة وبارزة... وللمرة الأولى في تاريخ أوروبا، تطلب طبقات اجتماعية بأن يُصغى لها، أو بالأحرى، بأن تظهر للعيان، في بادىء الأمر... إن دينامية "شعب" جديد، وجماهير جديدة، تبحث عن تعبير لها. وإليكم الآن كيف وجدنا تصوير مشاهد جموع حقيقية، كالذي نراه في قبو كاتدرائية "كليرمون ـ فران". هناك أناس من عامة الشعب ومن كل الأصناف، كبار وصغار، يتجمعون حول المسيح الذي يقوم بأعجوبة الخبز والسمك. إن أيديهم لممدودة إلى الخبز الذي يعطيهم إياه. وقد رسمت سحناتهم بواقعية صارمة، كما رسمت حركاتهم ووجوههم بأشكال حازمة. والمسيح الطيب، القوي، العطوف، هو هنا "مسيح للشعب... حقيقي...".
وهكذا، بقدر ما استحال الفن الروماني القديم إلى فن قوطي، وبقدر انحدار الإقطاعية الخالصة إلى وضع اجتماعي تتطور فيه البورجوازية باستمرار، دخل محتوى اجتماعي جديد في الفنون، وأعطى أشكالاً جديدة، ووسائل تعبير جديدة، فكان فناً نصف واقعي، ونصف ذهولي. إن عملية دنّيوية الفنون الطويلة قد بدأت: مع أغاني الشعراء الجوّالين، ومع دخول الواقعية الشعبية في الفنون المرئية، ومع أنسنة صورة المسيح، ومجيء الفكر والاحتجاج الفردي إلى إطار الفلسفة المسيحية. فالأسلوب الذي كان قد مجد وجمّل العالم الإقطاعي، معترفاً فقط بالرتبة والنظام، لا بالعلاقات الإنسانية، أصبح متناقضاً مع الحركات والهزات الإقطاعية الجديدة. إن حاجة التعبير لدى الطبقات الجديدة أصبحت تتطلب وسائل جديدة. وإذا ما لاحظنا انتشار الفن القوطي، نرى بأن مناهج واقعية وطبيعية قد استخدمت حيثما بدأ الشعب يلعب دوراً في الفنون التشكيلية. إن مكتشفات الأبحاث الحديثة لتبدو كأنها تشير إلى أن فن المجتمع البدائي اللاطبقي قد بدأ بطريقة طبيعية بدائية؛ ففن التنميق والمنمنمات والتجريد لم يظهرا للعيان إلا في نهاية العصر الحجري، وقد تغلبا في أعقاب جميع أشكال الحكم الارستقراطية، فيما كان الاتجاه المعاكس يجد جذوراً له، بشكل دائم، في الطبقات الشعبية. ففي الفن القوطي، كانت نتائج أول حركة بورجوازية في الفن، ضمن إطار النظام الإقطاعي، جد متناقضة: فمن جهة، هناك واقعية عنيفة متطرفة في جرأتها؛ ومن جهة أخرى، نجد التطلع الورع إلى حياة روحية، لا مادية، وإلى الهروب إلى ما هو أبعد من "وادي الدموع" هذا. إن أبراج الكاتدرائية القوطية المنتصبة نحو اللانهاية، هي بذاتها متناقضة: إنها تعبر عن تحدّ للسماء، وهي في الوقت نفسه تعبر عن رغبة ذهولية في الخلاص. فالطبقات الاجتماعية التي كانت تحلم بالتحرر، كانت مكبلة بقيود النظام الإقطاعي وبتقاليده. وهذا ما يفسّر طابع التناقض العميق في الفن القوطي، الذي بولغ بإطراء شجاعته بقدر ما بولغ في احتقاره، نظراً لتفاهاته "البربرية"... ولكن الفن القوطي، كان قبل كل شيء، يعبر عن أنسنة المواضيع المقدسة، بالرغم من أن هذا العنصر الأساسي قد شوّه جزئياً بواسطة المسوخ الكريهة والشيطانية، وبواسطة نزعة متسامية مشبوبة العاطفة.


إرنست فيشر

ضرورة الفن

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

hiba:

جميل

الجزائر