المجتمع

إن مسألة الشكل والمحتوى في الواقع الاجتماعي، بالرغم من أنها تطرح على مستوى مختلف، وضمن ظروف أكثر تعقيداً مما تطرح في الطبيعة العضوية أو اللاعضوية، إلا أنها ذاتها بشكل أساسي. إن محتوى المجتمع، إنما هو إنتاج الحياة وإعادة إنتاجها، انطلاقاً من مجرد كون الكائنات البشرية ينبغي لها أن تأكل، وتشرب، وتسكن، وتلبس، وعليها أيضاً أن تستخدم بشكل واسع، آلات حديثة، وماكينات وقوى منتجة: وهذا هو التكيّف القصدي للعالم الخارجي بالنسبة للحاجات المادية والنفسية النامية لدى الإنسان. أما الأشكال التي تدور فيها هذه العملية (من تنظيم اجتماعي، ومؤسسات، وقوانين، وأفكار، وأحكام مسبقة) فهي كثيرة التباين. وهي في وقت ما، تنطبق على حالة القوى المنتجة، ثم تدخل في نزاع مع هذه القوى، وتصبح مجمّدة وبالية، وينبغي لها بالضرورة أن تتجدد.
وقد استلفت كارل ماركس الملاحظة في كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" قال:
"إن القوى المادية المنتجة في المجتمع تدخل في مرحلة ما من تطورها في تناقض مع علاقات الإنتاج الموجودة، أو أنها، وهذا ليس سوى التعبير الحقوقي عن تلك العملية، تدخل في تناقض مع علاقات الملكية التي كانت قد تحركت في داخلها حتى ذلك الحين. وبعد أن كانت هذه العلاقات من أشكال تطور القوى المنتجة، تصبح عوائق أمام هذه القوى، وعندئذ يبدأ عصر ثورة اجتماعية".
وقد حذر ماركس وأنجلز من كل تبسيط دوغمائي وآلي لموضوعتهما الأساسية. وفي رسالة إلى جوزيف بلوخ، كتب أنجلز يقول: "إن العامل المحدِّد في التاريخ، حسب المفهوم المادي للتاريخ، هو، في درجته العليا، الإنتاج، وإنتاج الحياة الحقيقية. فلا ماركس، ولا أنا، أكدنا أكثر من ذلك. وإذا ما شوّه أحد هذه القضية، فيما بعد، ليجعلها تقول بأن العامل الاقتصادي هو المحدِّد الوحيد، فهو يحولها إلى عبارة فارغة، مجردة، وتافهة. إن الوضع الاقتصادي هو القاعدة، ولكن مختلف عناصر البناء الفوقي (الأشكال السياسية لنضال الطبقات ونتائجه) والقوانين القائمة، عندما تظفر الطبقة المنتصرة في المعركة الخ... والأشكال الحقوقية، وحتى انعكاسات كل هذه النضالات الحقيقية في ذهن المشتركين بها، والنظريات السياسية، والحقوقية، والفلسفية، والمفاهيم الدينية، وتطورها التالي في نظام جامد، تمارس جميعاً فعلها على مجرى النضالات التاريخية. وفي كثير من الحالات تحدد، بصورة راجحة، الشكل".
وقد كتب أيضاً في رسالة الى ستاركنبورغ يقول: "إن التطور السياسي، والحقوقي، والفلسفي، والديني، والأدبي، والفني الخ... لتستند جميعاً على التطور الاقتصادي. إلا أنها تمارس دور فعل أيضاً فيما بينها، وعلى القاعدة الاقتصادية أيضاً. ولم يعد الأمر كذلك لأن الوضع الاقتصادي هو "العلة" وهي وحدها الناشطة، وكل ما تبقى ليس سوى فعل سلبي. وهناك، على العكس، فعل متبادل على قاعدة الضرورة الاقتصادية التي تتغلب دائماً في خاتمة المطاف".
إن التفاعلات داخل المجتمع هي أكثر تعقيداً بصورة لا متناهية من التي تحصل في الطبيعة العضوية أو اللاعضوية، وإنه لمن العبث أن نحاول في العالم البشري، إيجاد الظروف التي تدير عالم البلوريات. ومع ذلك، فإن قوانين التناقض الجدلي بين اتجاهات الشكل المحافظة، وبين اتجاهات المحتوى الثورية، لتنطبق أيضاً، ومبدئياً، على المجتمع البشري، فتظهر حالات توازن جديدة وثابتة نسبياً، طالما تطابقت علاقات الإنتاج مع قوى الانتاج.
إن المحتوى الاساسي للمجتمع (أي، قوى الإنتاج والكائنات البشرية مع أدواتها، وعلمها النامي حول الإنتاج، مع حاجاتها المادية والروحية) يتعدل ويتطور باستمرار. إلا أن أشكال المجتمع تميل إلى الاستقرار؛ فهي ترمي إلى الانتقال، بوصفها إرثاً، من جيل إلى آخر. والطبقات السائدة، مع جهازها السياسي والإيديولوجي هي التي تتمسك دائماً بالأشكال التقليدية، وتبذل جهوداً جبارة لكي تعطيها طابع شيء ما أبدي، ثابت، ونهائي. والطبقات المسودة هي التي تحثُّ فيها القوى الجديدة للإنتاج الثورة ضد علاقات إنتاج قديمة. إن الطبقات المسودة لا ترى شيئاً مقدساً أو متفوقاً من وجهة أخلاقية في الأشكال التقليدية؛ فهي ترى فيها مجرد عائق للتقدم الإنساني. وإنه لصعب، بالطبع، حتى بالنسبة للطبقات المسودة التخلص من تأثير وسلطة الأشكال التقليدية، التي ترهق كذلك وعي جميع أعضاء المجتمع. إن توليد وعي طبقي سياسي واقتصادي يعارض المفاهيم والاتفاقات السائدة لأمر بالغ الصعوبة.
إن كل طبقة قائدة تشعر بأنها مهددة، تحاول أن تخفي "محتوى" سيطرتها الطبقية، وأن تبدي جهدها لإنقاذ "شكل" بال للمجتمع، وكأنها تدافع عن شيء ما "سرمدي"، منيع، ومشترك بين جميع القيم الإنسانية. ولهذا نجد أن المدافعين عن المجتمع البورجوازي لا يتحدثون اليوم عن المحتوى الرأسمالي لهذا المجتمع، بل عن محتواه الديموقراطي، بالرغم من أن هذا الشكل يقضقض كل مفاصله. وهم يحاولون صرف الانتباه عن النضال التاريخي بين الرأسمالية والاشتراكية، عن طريق تحويله في الأذهان إلى نضال بين "الديموقراطية" وبين "الديكتاتورية". وواقع كون الأشكال الاجتماعية تؤثر على محتوى مجتمع، وعلى محتوى حياة أعضائه، يساعدهم في ذلك. فالطابع الشكلي المحض للديموقراطية البورجوازية واضح تماماً؛ ومع ذلك، فإن أناساً ذاقوا التعذيب تحت السيطرة الفاشية، قد اعتبروا أنه حتى الديموقراطية الشكلية، وواجهة نظام شرعي وسياسي، هما شيء هام، بحيث أن فقدانهما سيجر إلى فقدان محتوى حقيقي. أضف إلى ذلك، إن الصعوبة في تحضير أشكال جديدة على قياس المحتوى الاجتماعي الجديد الناجم عن انتصار الطبقة العاملة، وتحضير ديموقراطية جديدة، لا تكون شكلية، بالتالي، بل حقيقية واشتراكية، تسهل مهمة المدافعين عن الرأسمالية الذين يريدون تحويل تعلقهم بمحتوى اجتماعي شائخ من أجل الدفاع عن أشكال وجود خالية من الشوائب، أشكال يمجدونها كأنها المحتوى الوحيد لحياة جديرة بالإنسانية. وإنني لألحُّ على هذا الواقعة لأشير إلى أي حد هي معقدة عملية التفاعل بين القاعدة والبناء الفوقي، بين المحتوى الاجتماعي والأشكال الاجتماعية، ولكي أذكر القارىء أيضاً بالرجحان الموقت الذي تستطيع الأشكال التقليدية أن تحظى به في ذهن الكثيرين من الناس.
فمن أجل إنقاذ محتوى اجتماعي قديم، تتظاهر الطبقة السائدة بأنها المدافعة عن الأشكال القديمة، علماً بأنها مستعدة دائماً، في اللحظة الحرجة، للتخلي عنها من أجل القيام بديكتاتورية مكشوفة. وهي في الوقت نفسه، تجهد لكي تلقي الشبهة على الأشكال الجديدة (التي لم تبلغ بعد حد النضوج) لكي تقلل من أهمية المحتوى الاجتماعي الجديد. وهكذا يصبح مرتبكاً أكثر فأكثر الأشادة بالمحتوى الاجتماعي الرأسمالي الشائخ أو تبريره، مع كل ما يواكبه من بلايا. ولهذا يدافع المنافحون عن الرأسمالية اليوم "فقط" عن أشكال تعبيرها السياسية والاجتماعية. وهذا الاتجاه إلى إهمال المحتوى، وهذه الطريقة في التنويه بالشكل، كأنه الشيء الأساسي، وحتى الوحيد الجدير بالانتباه، قد أحزن قطاعاً واسعاً من الانتلجنتسيا القلقة في العالم الرأسمالي، وأثار ظاهرة "الشكلية" في حقل الفنون. لكن القضية ليست، في الحقيقة، قضية وسائل التعبير الفنية؛ (ذلك لأن لا شيء يعارض تجربة الوسائل الجديدة) إنها قضية "النزعة الشكلية" الأعمق والأعم، بوصفها ظاهرة نموذجية لشكل اجتماعي لم يبق متآلفاً مع عصره، نموذجية بسبب كونها تمثل طبقة سائدة برغم فقدانها مقومات بقائها.


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق