أصول الفن

يكاد الفن أن يكون قديماً قدم الانسان، فهو شكل من أشكال العمل، والعمل هو نشاط خاص بالجنس البشري.
وقد حدد ماركس العمل بهذه العبارات: "عملية العمل...، النشاط الذي هدفه... جعل الأشياء الخارجية ملائمة للحاجات، هو الشرط العام للمبادلات المادية بين الإنسان وبين الطبيعة، وهو ضرورة طبيعية للحياة البشرية، مستقلة بذلك حتى عن سائر أشكالها الاجتماعية أو هي بالأحرى مشتركة أيضاً مع كل هذه الأشكال".
إن الانسان يستولي على الطبيعة عن طريق تحويلها. العمل هو تحويل الطبيعة. والإنسان يحلم أيضاً بممارسة ضرب من السحر على الطبيعة، وبأن يكون قادراً على تغيير الأشياء وإعطائها شكلاً جديداً بوسائل سحرية. وهذا ما يعادل في حقل التخيل ما يعنيه العمل في حقل الواقع. الإنسان هو منذ البدء، ساحر.
الأدوات
لقد أصبح الإنسان إنساناً بفضل الأدوات. ولقد صنع نفسه، أو أنتجها من خلال صنعه، أو إنتاجه للأدوات. ومسألة معرفة أي من الاثنين قد ظهر أولاً، الإنسان أم الأداة، إنما هي مسألة أكاديمية صرف. فليس ثمة أداة بدون إنسان، وليس ثمة إنسان بدون أداة؛ لقد ولدا معاً، وارتبط أحدهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً. فهناك جهاز عضوي حي متطور نسبياً، قد أصبح الإنسانَ من خلال عمله بواسطة أشياء طبيعية. وهذه الأشياء، باستخدامها على هذا النحو، قد أصبحت أدوات. وإليك تعريفاً آخر، لماركس: "إن وسيلة العمل لهي شيء أو مجموعة من الأشياء يقيمها الانسان بينه وبين موضوع عمله كوسائل لنقل نشاطه. فهو يستخدم خصائص ميكانيكية، وفيزيائية، وكيميائية لبعض الأشياء لكي يجعلها تعمل بمثابة قوى تحرك أشياء أخرى، وفقاً لهدفه. وإذا ما ألقينا جانباً مسألة تملك المواد الجاهزة ـ كجني الثمار مثلاً، حيث تكون أعضاء الانسان بمثابة الأداة ـ فإننا نرى بأن الشغيل لا يستولي استيلاءً مباشراً على موضوع عمله، بل على وسيلة عمله. وهكذا يحوّل أشياء خارجية إلى أعضاء لنشاطه الخاص، أعضاء يضيفها إلى أعضاء جسمه، بحيث يطيل حجمه الطبيعي، ... إن استخدام وخلق وسائل العمل، وإن كانت موجودة بصورة بدائية عند بعض أنواع الحيوانات، تميز بدقة العمل البشري. ولهذا عرّف فرانكلن الإنسان قائلاً: الإنسان هو حيوان يصنع الأدوات".
إن الكائن السابق للإنسان، والذي أصبح فيما بعد إنساناً، كان قابلاً لمثل هذا التطور، لأن له عضواً خاصاً، هو اليد التي كان يستطيع أن يتناول بها الأشياء ويمسكها. فاليد هي العضو الأساسي للحضارة، وهي المعلمة الأولى للأنسنة. وليس معنى ذلك أن اليد وحدها هي التي صنعت الإنسان: فالطبيعة وبخاصة الطبيعة العضوية، لا تتضمن مثل هذه العلاقات البسيطة الوحيدة الجانب بين السبب والنتيجة. وإنما هناك مجموعة علاقات معقدة، وصفة جديدة، تنجم دائماً عن مجموعة تأثيرات متبادلة ومتباينة. إن انتقال بعض الأجهزة العضوية إلى مرحلة تسلق الأشجار، ممهدة تطور البصر على حساب حاسة الشم، وتقلص المخطم المسهّل عملية تحوّل في وضع العينين، وميل الكائن الحي، المزود الآن بحاسة أكثر حدة ودقة للنظر في جميع الجهات، وما نتج عن ذلك من انتصاب على قائمتين، وتحرر الأعضاء العليا وزيادة حجم الدماغ بسبب الوقوف، والتغيرات التي طرأت على الطعام وعلى الظروف المتباينة الأخرى، كل ذلك أسهم في خلق الشروط الضرورية لمجيء الإنسان. لكن العضو الحاسم كان اليد. وقد أدرك توما الاكويني أهمية معنى اليد الفريدة فأطلق عليها اسم "عضو الأعضاء". كما أنه عبر عن هذا في تعريفه الإنسان قائلاً: "انما الإنسان عقل ويد!". وإنه لصحيح أن اليد هي التي حررت العقل البشري، وأنتجت الوعي الانساني.
وقد كتب غوردون شيلد في كتابه "قصة الأدوات" يقول: "إن الناس يستطيعون أن يصنعوا أدوات، لأن قوائمهم الأمامية قد تحولت إلى أيدي، ولأنهم بواسطة رؤيتهم الشيء ذاته بالعينين، استطاعوا أن يحددوا المسافات بدقة تامة، ولأن جهازاً عصبياً مرهفاً جداً، وعقلاً مركَّباً قد مكَّناهم من التحكم بحركات اليد والذراع، وبتطويعها بشكل منسَّق لما توجبه الرؤية بالعينين. ولكن ليس بواسطة أية غريزة موروثة تمكّن الناس من صنع الأدوات واستخدامها؛ فذلك، أمر ينبغي أن يتعلموه عن طريق القيام بالتجارب، والمحاولات، والأخطاء".
ان نظام علاقات جديدة بكليتها بين أحد الأنواع وبين العالم بأسره قد نتج عن استخدام الأدوات. وفي أثناء عملية العمل، انقلبت العلاقة الطبيعية للسبب بالنتيجة تقريباً؛ وأصبحت النتيجة المتوقعة، والمنتظرة، مُشرِّع عملية العمل، بشكل "غائية". وهذه العلاقة بين الأحداث التي، تحت مظهر "القصدية" أو "السبب الغائي"، قادت أكثر من فيلسوف إلى حافة الجنون، قد أصبحت طابعاً إنسانياً بنوع خاص. ولكن، ما هي هذه المسألة؟ فلنقرأ من جديد أحد تعريفات ماركس الواضحة: "إن نقطة انطلاقنا هي العمل بشكل يخص الإنسان فقط. إن العنكبوت يقوم بعمليات شبيهة بالتي يقوم بها الحائك، والنحلة تمزج في بنية خلاياها الشمعية براعة أكثر من مهندس. ولكن الذي يميز، منذ البدء، أكثر المهندسين فشلاً عن أكثر النحل خبرة، هو أنه بنى الخلية في رأسه قبل أن يبنيها في القفير. والنتيجة التي يفضي اليها العمل توجد فكرياً في تخيّل الشغيل. فهو إذن لا يحدث تغييراً شكلياً في المواد الطبيعية وحسب، بل هو ينفذ في الوقت نفسه هدفه الخاص، الذي يعيه، والذي يحدد، بمثابة قانون، نمط عمله، وبموجبه ينبغي أن يخضع إرادته".
إن هذا التعريف لطبيعة العمل، عندما يصل بكل تطوره، إلى المرحلة الإنسانية الحقة. ولكن، كان لابد من اجتياز طريق طويل قبل الوصول إلى هذا الشكل النهائي للعمل، وبالتالي، الى هذه الأنسنة النهائية للكائن الذي سبق الإنسان. فالعمل الذي تحدده الغاية التي ينبغي بلوغها (وما ترتب عليه من ميلاد العقل، ونشوء الوعي الذي هو بدء نشأة الانسان) إنما كان نتيجة لعملية تطور جاهدة. فالوجود الواعي يعني النشاط الواعي. والوجود الأول للإنسان كان وجود الحيوان اللَّبون. فالإنسان حيوان لبون، ولكنه بدأ يعمل شيئاً يختلف عن جميع الحيوانات اللَّبون الأخرى. فالحيوان أيضاً يعمل تبعاً "لتجربته"، أي بموجب جهاز انعكاسات محددة؛ وهذا ما نسمّيه بـ "غريزة" الحيوان. أما الجهاز العضوي الذي أصبح الإنسان، فقد اكتسب نوعاً جديداً من التجربة، أدى به إلى نقطة تحوُّل فريدة، وإن كانت قد بدت في بادىء الأمر قليلة الأهمية: أي، الإدراك بأن الطبيعة يمكن استخدامها كوسيلة لتحقيق أهداف الإنسان. إن كل جهاز عضوي بيولوجي هو في حالة تفاعل عضوي مع العالم المحيط به: فهو يعطيه ويأخذ منه، دائماً، شيئاً ما. ولكن هذا التبادل يحصل مباشرة وبدون وسيط. فالعمل الإنساني وحده هو أيْض métobolisme غير مباشر. الوسيلة قد سبقت الغاية؛ والغاية اتضحت باستخدام الوسيلة.
إن الأعضاء البيولوجية لا تستبدل بغيرها. ومؤكد أن تشكيلها هو نتيجة انطباق على ظروف العالم الخارجي، ولكن الحيوان مضطر أن يستخدم الأعضاء التي يملكها، بغية الاستفادة منها على خير وجه، ومع ذلك فإن أداة العمل التي هي خارج الجهاز العضوي قابلة للاستبدال، كما يمكن اطّراح أداة بدائية واستخدام أخرى أكثر فعالية. لكن مسألة الفعالية لا تطرح بالنسبة للعضو الطبيعي: فهو موجود كما هو؛ وعلى الحيوان أن يعيش على النحو الذي تسمح له به أعضاؤه، وأن يتكيف مع العالم بالطريقة التي تكيفت بها أعضاؤه. أما الكائن الذي يستخدم شيئاً غير عضوي بمثابة أداة، فإنه لا يجد ضرورة لتكييف حاجاته وفق تلك الأداة، فهو، على العكس، يكيف الأداة بمقتضى حاجاته. ومسألة الفعالية لا يمكن أن تطرح إلا عقب نشوء هذه الإمكانية.
وعندما اكتشف الإنسان أن بعض الأدوات كانت أقل أو أكثر فائدة من غيرها، وأن ثمة أداة يمكن استبدالها بأخرى، أدى به الأمر، حتماً، إلى اكتشاف آخر، هو أن الأداة التي في حوزته، وهي ناقصة، يمكن جعلها أكثر فعالية، أو بتعبير آخر، ليس من الضروري أن تؤخذ الأداة من الطبيعة مباشرة، وإنما يمكن صنعها. إن اكتشاف فعالية أنجع وأكبر، تتطلب بذاتها مراقبة خاصة للطبيعة. فالحيوانات أيضاً تراقب الطبيعة، والعلل والتأثيرات الطبيعية تنعكس أو تظهر ثانية في دماغ الحيوانات. لكن الطبيعة عند الحيوان، هي حقيقة معطاة، ولا يمكن تغييرها بأي جهد إرادي، شأنها شأن جهازه العضوي ذاته. إن استخدام الوسائل غير العضوية، القابلة للاستبدال والتغيير، هي وحدها التي تسمح بمراقبة الطبيعة في ضوء جديد والتنبؤ بالأحداث واستثارتها.
الأمر يتعلق بجني ثمرة. الحيوان السابق للإنسان يمد إليها يده، لكن ذراعه قصيرة جداً. وبرغم كل محاولاته، فإنه لا يصل إليها. وعقب محاولات متكررة وفاشلة، يضطر إلى التخلي عنها، ويوجه اهتمامه إلى شيء آخر. ولكن، إذا استطاع الحيوان أن يمسك بعصا، فإن ذراعه تزداد طولاً؛ وإذا كانت العصا جد قصيرة، ففي وسعه أن يبحث عن عصا ثانية وثالثة حتى يعثر في النهاية على العصا التي تقوم بالمهمة. فما هو العنصر الجديد في هذه الحال؟ إنه اكتشاف الإمكانيات المتغيرة والقدرة على الاختيار فيما بينها؛ ومن هنا حاسة المقارنة بين أداة وأُخرى، وتحديد فعاليتها سواء كبرت أو صغرت. فباستخدام الأدوات، لم يبق شيء مستحيلاً من وجهة مبدئية. يكفي المرء أن يعثر على الأداة المناسبة لكي يبلغ ما لم يكن إليه سبيل في السابق، أو لينجز ما كان بالأمس مستحيل التحقيق. لقد حصل الإنسان على سيطرة جديدة على الطبيعة، وهذه السيطرة هي حكماً غير محدودة. وبهذا الإكتشاف يكمن أحد مصادر السحر، وبالتالي الفن.
لقد نشأ في دماغ الحيوان اللبون الأعلى تأثير وراثي متبادل بين المركز الذي يشير إلى الغابة (حاجة الجهاز العضوي الى الأغذية اللازمة) وبين المركز الذي يستثيره منظر، أو رائحة قطعة من طعام، كالثمرة مثلاً. إن إثارة أحد هذين المركزين، يؤدي إلى إثارة المركز الآخر. فالجهاز مرتبط فيما بينه بشكل دقيق: وعندما يجوع الحيوان، يبحث عن طعام. وبفضل استخدام العصا (الأداة التي ستسقط الثمرة من الشجرة) نشأت صلة جديدة بين المراكز العصبية. وهذه العملية العصبية الدماغية الجديدة أخذت تتوطد بفضل التكرار الكثير. ففي بادىء الأمر، تجري عملية التطور هذه في اتجاه واحد فقط. إن إثارة مركب "الجوع ـ الثمرة"، تمتد حتى تبلغ المركز الذي، بشكل إجمالي، يتفاعل مستخدماً العصا. الحيوان يرى الثمرة التي يشتهيها ويبحث عن العصا المترافقة في فكره بالثمرة. وهنا، لا نستطيع أن نسمي هذه العملية تفكيراً البتة، ذلك لأن عنصر القصد المميز لعملية العمل (وهو خالق الفكر) لمّا يزل غائباً. وإلى هنا، ليس للعصا، بعد، هدف متمثل بإسقاط الثمرة. العصا هي فقط الأداة التي تتيح ذلك. وهذه العملية الوحيدة الجانب، هذه الآلية المترابطة للمراكز العصبية، قادرة على أن تنعكس، إذا ما ازداد الجهاز دقة عن طريق التكرار المتواتر. وبعبارات أخرى، إن الأمور يمكن أن تجري على هذا النحو: هذه هي العصا، فأين الثمرة التي يمكن أن تسقطها؟
أما العصا (الأداة) فتصبح، على هذا النحو، نقطة الانطلاق. الوسيلة هي الآن في خدمة الغاية المتمثلة باسقاط الثمرة. العصا ليست هنا مجرد عصا؛ لقد أُضيف اليها شيء جديد بشكل سحري: أصبحت لها وظيفة، وهي تشكل الآن مضمونها الأساسي. وهكذا، تثير الأداة اهتماماً متزايداً؛ وتخضع لتحليل مدى قدرتها أو عجزها في تحقيق دورها؛ وتطرح مسألة ما إذا كان من الممكن جعلها أكثر فائدة، وفاعلية، وكفاية، وما إذا كان بالإمكان إدخال تغييرات عليها، لكي تؤدي دورها بشكل أفضل. فالاختبار العفوي (أو التفكير بالأيدي الذي يسبق كل تفكير بما في الكلمة من معنى) يبدأ الآن بالتحول تدريجياً إلى تفكير واع. إن هذا الانقلاب في العملية الدماغية هو بداية ما نسميه بالعمل، بالوجود الواعي، والفعل الواعي، وتوقع النتيجة عن طريق النشاط الدماغي. إن كل فكرة ليست سوى شكل مختصر لتجربة منتقلة من الأيدي إلى الدماغ، فالتجارب العديدة السابقة قد كفت عن أن تكون "ذاكرة"، لتصبح من "التجربة". إن ثمة مثالاً آخر يمكن أن يوضح هذه الفكرة. لقد كتب غوردون شيلد في كتابه "قصة الأدوات" يقول:
"إن أقدم الأدوات الباقية، أو الأدوات الظرّانية éolithique المصنوعة من الحجر؛ والأدوات التي كان يستخدمها إنسان بكين، كانت مصنوعة من الصوان، وكان يجمعها ويحملها إلى كهفه بترو. وكان البعض منها يكاد يكون مشغولاً بشكل اصطناعي ليلبي بشكل أفضل متطلبات الانسان البدائي. وحتى هذه الأدوات، لم تكن قائمة على نمط واحد، ومع ذلك فقد استطاعت أن تقوم بوظائف عديدة. ولدينا بالفعل انطباع على أنه كلما نشأت الحاجة إلى أداة، كان الإنسان يأخذ قطعة حجر ملائمة فيكيفها تكييفاً طفيفاً لكي تلائم حاجته الآنية. ومن هنا يمكن تسمية هذه الأدوات بأنها أدوات ظرفية...
وقد ظهرت في أعقابها الأدوات ذات الشكل الواحد. ومن بين العدد الهائل لمختلف أدوات المناسبة، ذات الأشكال المتباينة، والمتبقية من العصور الحجرية القديمة، ثمة شكلان أو ثلاثة أشكال تبرز وتتكرر، مع تنويعات طفيفة جداً، في أنحاء عديدة من أوروبا الغربية، وأفريقيا، وآسيا الجنوبية؛ وقد حاول صانعوها بوضوح نقل نموذج موحد الشكل ومعترف به".
وهذا يكشف لنا شيئاً بالغ الأهمية. فالإنسان، أو الكائن السابق للإنسان، اكتشف منذ البداية، وأثناء جمعه الأشياء، أن قطعة الحجر ذات الحافة المشحوذة مثلاً، يمكن أن تحمل محل الأسنان والأظافر في تمزيق الفريسة وتقطيعها، أو سحقها. إن حصاة متوفرة تصبح أداة مناسبة، ولا تلبث أن ترمى بعد أن تؤدي وظيفتها الموقتة. فالقردة الشبيهة بالانسان تستخدم أيضاً أدوات مناسبة أحياناً. وبفضل الاستخدامات المتكررة، نشأت في الدماغ رابطة وثيقة بين الحصاة وبين استخدامها؛ وبدأ المخلوق الموشك أن يصبح إنساناً، في جمع هذه الأحجار الشديدة المنفعة، برغم أنه لم تنشأ بعد أية وظيفة محددة، أو أية غاية ملموسة لكل من هذه الأحجار. فالأحجار هي أدوات لجميع الاستعمالات التي يمكن تجربتها في كل حالة، ويبحث عن استخداماتها المحددة. وقد نشأ عن هذه التجارب المتكررة والمتنوعة (عن هذا التفكير بالأيدي) شيئان: بالدرجة الأولى، اكتشف أن الأحجار ذات الشكل الخاص هي أكثر منفعة من غيرها، أي أن بالإمكان الاختيار من بين عطايا الطبيعة العرضية، الصفة القصدية التي أصبحت على هذا النحو سائدة أكثر فأكثر؛ وبالدرجة الثانية: اكتشاف أنه ليس من الضروري انتظار تلك العطايا، لأن بالإمكان تصحيح الطبيعة. إن الماء، والمناخ، وعناصر الطبيعة الأخرى يمكنها أن تشكل حجراً، وتجعله سهل الاستخدام. وعندما بدأ الكائن الموشك أن يصبح إنساناً، في تناول الأشياء الطبيعية "بيده"، وأخذ يستخدمها كأدوات، اكتشفت يداه النشيطتان أنه يستطيع أن يشكل الحجر ويغيره بنفسه، وقد علم ابتداء من هذا الاكتشاف، أن قطعة الصوان تحوي في ذاتها صفة ملازمة لها وقدرة على أن تصبح قاطعة، وبالتالي، أداة نافعة.
وليس في هذه العفوية ما هو عجيب إطلاقاً: ليس في ذلك "قدرة" يتمتع بها الحجر، وليست ناجمة عن وعي خلاق كما هي حال "بالاس أثينا" التي انبثقت من وعي خلاق. بل على العكس، فالوعي الخلاق قد ظهر كنتيجة لاحقة للاكتشاف اليدوي بأن الأحجار يمكن كسرها وتقطيعها وشحذها وتشكيلها على هذه الصورة أو تلك. فشكل الفأس، مثلاً، الذي تنتجه الطبيعة من حين لآخر، كان نافعاً في عدد من الشاطات؛ وهكذا، بدأ الانسان شيئاً فشيئاً، ينقل عن الطبيعة. وفي إنتاجه الأدوات على هذا النحو، لم يكن مستجيباً لـ "فكرة خلاقة": وإنما كان مكتفياً بالتقليد فقط، وكانت نماذجه أحجاراً عثر عليها من قبل، واختبر فائدتها بالتجربة. لقد كان ينتج أدواته على أساس من خبرته بالطبيعة. وما كان في ذهنه، في هذه المرحلة الإنتاجية البدائية، لم يكن نتيجة لفكرة ما؛ فهو لم يكن ينفذ تصميماً، وما كان يراه أمامه، كان فأساً جد واقعية، وهو يسعى إلى صنع غيرها على غرارها. فهو لم يكن لينفذ فكرة، وإنما كان يقلد أداة. ولم يبتعد عن النموذج الطبيعي إلا ببطء. وباستخدامه الأداة، وبتجديد تجاربه بها باستمرار، تمكن من أن يجعلها أكثر فائدة، وأكثر فعالية. فالفعالية هي أقدم من البحث عن غاية؛ وبالأحرى اليد، لا الدماغ، هي التي توغلت في عالم الاكتشاف. ويكفي أن نراقب طفلاً يسعى في فك عقدة: إنه لا "يفكر" بل يجرب، وهو لا يتبين إلا شيئاً فشيئاً وبتجربة يديه، كيفية ربط العقدة وأفضل الطرق لحلها.
إن توقع نتيجة (تحديد غاية لعملية عمل) لا تنشأ إلا بعد تجربة يدوية مركزة. وهي تنجم عن العودات المستمرة في الإنتاج الطبيعي وفي المحاولات المتعددة التي تتفاوت نجاحاً وفشلاً. إن فكرة الغاية لا تنشأ من التطلع الى الأمام، بل من النظر إلى الوراء. وقد تطور النشاط الواعي، والكائن الواعي في غمرة العمل. ولم تنشأ الغاية الواضحة التي تجعل لكل أداة شكلاً محدداً، وطابعاً مميزاً إلا في مرحلة لاحقة. وقد احتاج الانسان إلى الكثير من الوقت لكي يرتفع إلى ما فوق الطبيعة، ويجابهها بوصفه خلاّقاً.
وإليكم ما حصل من تغير في هذا الوقت. لم يعد دماغه يعكس الأشياء بشكل حرفي: ففي أعقاب تجربة العمل، استطاع أن يعكس أيضاً القوانين الطبيعية، وأن يأخذ في الحسبان العلاقات السببية. (لقد أصبح قادراً، مثلاً، على معرفة أن الطاقة العضلية يمكن أن تنقل الى الأداة، ومنها بالتالي، إلى موضوع العمل، أو إلى أن الاحتكاك يولد الحرارة). لقد حل الإنسان محل الطبيعة. ولم يعد ينتظر ما تمنحه إياه: أصبح يرغمها، تدريجياً، لتقدم له ما يريد. لقد جعل من الطبيعة، أكثر فأكثر، خادماً له. وبنتيجة ازدياد فائدة أدواته، وازدياد طابعها الخاص، والملاءمة بينها وبين اليد البشرية وقوانين الطبيعة، ونتيجة لازدياد طابعها الإنساني، تمكن من أن يخلق أشياء لم تكن موجودة في الطبيعة. وشيئاً فشيئاً أخذت الأداة تفقد وجه الشبه مع كل أداة طبيعية. وأزالت وظيفة الأداة شبهها الأساسي بالطبيعة، ومع ازدياد فعاليتها أصبحت الغاية منها متزايدة الأهمية (أي التوقع العقلي لما يمكن أن تفعله) ولم يكن هذا التحول في طبيعة العمل ممكناً إلا عندما بلغ العمل درجة من التطور عالية نسبياً.
اللغة
لقد كان التطور نحو العمل يتطلب منظومة جديدة من وسائل التعبير والاتصال، تتجاوز بكثير تلك الإشارات البدائية القليلة، التي يعرفها في عالم الحيوان. ولكن العمل لم يتطلب مثل هذه المنظومة من وسائل الاتصال وحسب، بل كان يساعد على نموها أيضاً. إن لدى الحيوانات القليل مما تريد تبادله فيما بينها. إن تخاطبها غريزي: وهي منظومة بدائية من الإشارات المعلنة للخطر، والرغبة في الجماع، الخ.... وفي العمل وحده، ومن خلاله، تجد الكائنات الحية الكثير مما يقوله أحدها للآخر. لقد نشأت اللغة يوم نشأت الأدوات.
وفي عديد من النظريات حول مناشىء اللغة، يُغفل الدور الهام الذي لعبه العمل والأدوات، أو يقلّ تقدير قيمته. حتى هيردر، الذي كشف بدراساته الثورية وقائع على جانب كبير من الأهمية، ودحض بقوة نظرية "الأصل الإلهي" للغة، لم يدرك مدلول العمل في نشأة اللغة. وباستباقه نتائج الأبحاث التي أُجريت فيما بعد، فإليكم كيف يصف إدراكه لإنسان ما قبل التاريخ: "ظهر الإنسان في العالم: فيا للمحيط الذي اهتاج على الفور حواليه! ولكم احتاج من الجهد لكي يتعلم كيف يميّز بين الأشياء ليعرف حواسه المختلفة، وليعتمد فقط على هذه الحواس التي عرفها!".
لقد توقّع هيردر ما كان على العلم أن يثبته فيما بعد، وهو أن إنسان ما قبل التاريخ كان ينظر إلى العالم كشيء غير محدد المعالم، وأنه احتاج أن يتعلم كيف يفصل، ويميّز، ويختار الأشياء الأساسية لحياته الخاصة، من بين مظاهر العالم العديدة والمعقدة، وذلك لكي يقيم التوازن اللازم بينه وبين العالم، وهو ساكنه. ويقول هيردر بحق:
"حتى في مرحلته الحيوانية، كانت للإنسان لغة. فكل المشاعر المتوحشة والعنيفة، وكل أحاسيس جسده بالألم، وكل عواطفه العارمة، كان يعبّر عنها تعبيراً مباشراً، عن طريق الصيحات والأصوات الوحشية المبهمة".
إن هذه الوسائل الحيوانية في التعبير، هي بدون شك عنصر من عناصر اللغة: "ومازالت هناك آثار لتلك الأصوات الطبيعية، تتردد في جميع اللغات البدائية". ومع ذلك، فقد أدرك هيردر أن هذه الأصوات الطبيعية ليست "الجذور الحقيقية" للغة، وإنما هي "العصارات التي كانت تغذي جذورها".
إن اللغة ليست أداة لتعبير بقدر ما هي وسيلة للاتصال. وقد ألِف الانسان الأشياء بالتدريج، "وأطلق عليها أسماء مأخوذة من الطبيعة، يحاكي فيها أصواتها بقدر ما يستطيع... وكان ذلك ضرباً من الإيماء، يتآزر فيه الجسم والحركات".
لقد كانت اللغة البدائية مجموعة كلمات، وتنغيمات موسيقية، وحركات محاكاة. وبهذا يقول هيردر:
"تكوَّنت مفردات اللغة الأولى ابتداء من الأصوات الموجودة في الطبيعة. وكانت فكرة الموضوع ذاتها، مازالت معلقة بين الفعل وبين الفاعل: كان على الصوت أن يدل على الموضوع، مثلما الموضوع ينتج الصوت؛ وهكذا أضحت الكلمة أسماء، وأصبحت الأسماء كلمات...".
لم يكن الانسان البدائي، بعد، يميّز بوضوح بين نشاطه وبين الموضوع الذي يرتبط به؛ كان الاثنان يكوّنان وحدة غير محدّدة. وبرغم كون الكلمة أصبحت رمزاً (ولم تبقَ مجرد تعبير بسيط أو محاكاة) فقد بقيت متضمنة مجموعة كبيرة من المفاهيم؛ ولم يتم الوصول إلى التجريد الخالص إلا تدريجياً.
"كانت الموضوعات الحسية توصف بشكل حسي؛ وما أكثر الجوانب والمظاهر التي كان يمكن أن توصف بها!. ولهذا كانت اللغة زاخرة بالكلمات الخيالية الجامحة، والشاذة وضعف التعبير، وكانت مليئة بما يخرج على القواعد والقياس. وكانت الصور تنقل بشكل صور، كلما أمكن ذلك، وبهذه الطريقة تكوّنت ثروة من الاستعارات، والمجازات، والأسماء الحسية".
وقد ذكر هيردر أن العرب كان لديهم خمسون كلمة للدلالة على الأسد، ومائتان للثعبان، وثمانون للعسل، وأكثر من ألف كلمة للسيف. وبعبارات أخرى، لم تكن الأسماء الحسية قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات. وقد سأل بسخرية أولئك الذين يعتقدون "بالأصل الديني" للغة، فقال: "لماذا أوجد الله مفردات لا ضرورة لها؟". ويضيف قائلاً: "إن اللغة البدائية غنية لأنها فقيرة: لم يكن لدى مبتكريها أي تصميم، ولهذا لم يكن يسعهم الاقتصاد. فهل يمكن أن يعتبر الله مبدع أشد اللغات تخلفاً؟". ويقول أخيراً: "كانت اللغة تملك لغة حية. كان فهرست الحركات الواسع ينظم، بهذا المعنى، الإيقاع والحدود التي تتضمن الكلمات المحكية، وكان غنى معاني المفردات الضخم يقوم مقام القاعدة اللغوية".
وبمقدار ما كانت خبرة الانسان في ازدياد، كانت تزيد معرفته بالأشياء من وجهات متباينة، وكان على لغته أن تزداد غنى. وبمقدار ما كانت تجاربه وخصائصه الجديدة تتجدد في ذهنه، كانت لغته تزداد رسوخاً وطلاقة. وبمقدار ما كان يميز ويصنّف، كانت لغته تزداد تنظيماً.
لقد طوّر ألكسندر فون همبولد وأوضح مكتشفات هيردر الثورية، وإن كان قد أضفى على أفكار هيردر المادية والجدلية مسحة مثالية ميتافيزيقية. وقد أعلن همبولد أن اللغة كانت صورة ورمزاً في الوقت نفسه، وهي ليست تماماً مجرّد نتيجة الانطباع الذي ينشأ عن الموضوعات، ولا هي تماماً نتيجة الإرادة الاعتباطية لذات المتكلم".
وقد لاحظ أيضاً بوضوح مماثل، أن الفكر لم يكن متعلقاً باللغة بوجه عام وحسب، وإنما كان إلى حد ما محدداً بكل اصطلاح تعبيري واضح أيضاً. وهذا ما يذكر بملاحظة لغوته، إذ يقول: "إن اللغة تخلق الناس أكثر مما يخلق الناس اللغة". وقد توصل همبولد أيضاً، في إصراره على أهمية التلفظ، (الذي بدونه يوجد تعبير لا لغة) إلى نتيجة توشك أن تكون صوفية، فهو يقول: "لكي يتمكن المرء من أن يفهم، ولو كلمة واحدة، حق الفهم، (أن يفهمها لا بصفة كونها مجرد حافز حسي وحسب، بل كصوت ملفوظ يحدد مفهوماً أيضاً) يجب أن تكون اللغة كلها حاضرة في ذهنه. لا يمكن فصل أي عنصر من عناصر اللغة. فكل عنصر منها يظهر بوصفه جزءاً من الكل. ولذا كان من الطبيعي الافتراض بأن اللغة تشكلت تدريجياً، فإن ابتكارها الحقيقي لم يمكن أن يحدث في لحظة واحدة. فالإنسان ليس الإنسان إلا باللغة، ولكن، لكي يبتكر اللغة ينبغي له أن يكون قد أصبح إنساناً".
إننا لنستطيع أن نوافق على هذا الرأي ضمن المقدار الذي يعلن فيه أن إنسان ما قبل التاريخ كان ينظر إلى العالم ككل غير محدد المعالم، وقد خلق اللغة، ابتداء منه، فلذة فلذة، لكن الحل الجدلي للمسألة (المسألة القائلة بأن الإنسان لم يصبح إنساناً إلا بظهور اللغة والعمل، بحيث لا يمكن أن يقال بأن أحد هذين الشيئين جاء قبل الآخر) قد فات همبولد. وقد اكتفى بالإشارة إلى العملية الجدلية، وبإلباسها عبارات مثالية. فهو يقول: "إن العلاقة المتبادلة بين الفكر والعمل، تعني أن اللغات ليست حقاً وسائل لتقديم حقيقة معروفة سابقاً، وإنما هي بالأحرى، أدوات لاكتشاف حقيقة مازالت مجهولة".
وفي عداد النظريات اللغوية العديدة التي صيغت منذ عصر همبولد، أود أن أشير إلى نظرية "موثنر"، ذلك لأنها جذابة. لقد أعلن "موثنر" أن اللغة نشأت من "الأصوات المنعكسة"؛ ولكنه يضيف قائلاً بأن المحاكاة كانت أيضاً عنصراً أساسياً في اللغة. وليست الأصوات البشرية المنعكسة وحدها (كالفرح، والألم، والدهشة وغيرها) بل الأصوات الطبيعية الأخرى هي التي تحاكيها اللغة. وفي الوقت نفسه، لا ينبغي النظر إلى اللغة على أنها مجرد محاكاة، إذ لابد أيضاً أن تكون اللغة منطوقة على أساس المقاطع، أي ينبغي أن تصبح رمزاً لا يحمل غير شبه بعيد "اصطلاحي" للموضوع المعني، وذلك حتى في الحالة التي تحاكي فيها اللغة الأصوات الواقعية. إن لفظة مماثلة للصوت هي في الواقع أعمال استعارات ومجازات. وفي هذه الاستعارات يوجد غالباً مطابقة عجيبة مع الموضوعات الحقيقية، بحيث أنها تستدعي البرق، والرعد، والموت، الخ...، "وهذا، أو ما يضارعه، هو الذي ينبغي أن يكون قد شكل المرحلة التكوينية للغة، كما يقول موثنر، "الجذور الأسطورية للغة، التي حدثونا عنها".
إن طبيعة اللغة المزدوجة، باعتبارها وسيلة الاتصال والتعبير، وصورة للواقع ورمزاً له، وبصفتها إدراكاً "حسيّاً" للموضوع وتجريداً له، كانت دائماً مسألة خاصة بالشعر، الذي يميزها عن النثر اليومي. فالرغبة في العودة إلى منابع اللغة ملازمة للشعر. وقد كتب شيللر يقول: "إن اللغة تعبّر عن جميع الأشياء بتعابير العقل، ولكن الشاعر مطلوب منه أن يعبر عن الأشياء جميعاً بتعابير التخيل؛ الشعر يتطلب الرؤية، أما اللغة فلا تقدم سوى المدركات. ومعنى ذلك أن الكلمة تجرد الشيء الذي يفترض أن تمثله من طبيعته المحسوسة والفردية، وتدخل عليه خاصة من خصائصها، وطابعاً عاماً غريباً عنه؛ ولهذا لا يمكن التوصل إلى تمثيل الموضوع بحرية، أو يُصار إلى العزوف عن تمثيله اطلاقاً، ويُقتصر على وصفه فقط". عند كل الشعراء ثمة تطلع إلى لغة مبتكرة، و"سحرية".
وفي سياق كلام يختلف تماماً عن قول موثنر، الذي كان يعتقد بأن أصل اللغة هو "الأصوات المنعكسة"، يعرّف بافلوف اللغة بأنها منظومة أفعال شرطية، وإشارات مشروطة. فالأصوات المنعكسة عند موثنر، هي وسائل بدائية مبهمة للتعبير عن الفرح، والألم وغيرهما. أما الإنعكاسات المشروطة عند بافلوف، فهي أحداث تقع داخل الأجهزة العصبية الحية، وتطابق بأحداث تقع في تتابع منتظم في العالم الخارجي: وكمثال على ذلك، الكلب الذي يسيل لعابه عندما يسمع دقة الجرس، التي أصبحت إشارة تدل على حلول موعد الطعام. فالكلمة هنا هي إشارة، واللغة جهاز من الإشارات متطور تطوراً عالياً. وفي مجال مناقشته التنويم المغناطيسي، كتب بافلوف يقول: "إن الكلمة بالنسبة للكائن البشري، تعتبر انعكاساً مشروطاً وحقيقياً، شأنها في ذلك شأن جميع المحرضات المشروطة المشتركة بين الإنسان وبين الحيوان، ولكن الكلمة تعتبر محرضاً أكثر أهمية وشمولاً من أي محرض آخر؛ والواقع، أنه لا يوجد في عالم الحيوان منشط يمكن أن يُقارن، ولو من بعيد، بالكلمة الإنسانية، سواء من الناحية الكمية أو الكيفية... إن هذا النطاق الواسع، والمضمون الغني للعالم يفسر مدى اتساع وتباين النشاطات التي يمكن الإيحاء بها إلى شخص مُنوّم، وهي نشاطات تستطيع أن تتناول العالم الخارجي والداخلي لذلك الشخص على السواء".
فبدون العمل (بدون خبرته في استخدام الأدوات) لم يكن ليتاح للانسان أبداً أن يجعل من اللغة محاكاة للطبيعة، ومنظومة من الإشارات المعدّة لكي تمثل النشاطات والموضوعات، أي: التجريد. ولقد خلق الإنسان كلمات ملفوظة ومتمايز بعضها عن البعض، لا لمجرد أنه كائن قادر على الألم والفرح والدهشة وحسب، بل لأنه أيضاً كائن يعمل.
إن اللغة والإيماء لمرتبط أحدهما بالآخر أوثق ارتباط. وقد استنتج "بوخر" من ذلك أن الكلام وُلد من نشاطات منعكسة عن أعضاء صوتية، ترافق الجهود العضلية التي يتطلبها استخدام الأدوات. وعندما بدأت الأيدي تتحرك، أخذت الأعضاء الصوتية تتلفظ وتتجانس حتى تأتي اللحظة التي يتناول فيها الوعي الناشىء هذه الأفعال المنعكسة، ويجعل منها جهازاً للاتصال. وهذه النظرية تؤكد أهمية عملية العمل الجماعي، التي لم يكن ممكناً بدونها أن تتشكل اللغة المنظمة، من إشارات بدائية، وصيحات المضاجعة، أو الخوف، التي كانت المادة الأولى للغة. إن الإشارة التي يقوم بها الحيوان، للدلالة على حدوث تغيير في العالم المجاور له، تحولت إلى "انعكاس لغوي للعمل". وعلى هذا النحو، تحددت نقطة التحول بين التكيف السلبي إزاء الطبيعة، وبين التحويل النشيط للطبيعة ذاتها.
إنه ليستحيل التمييز بين مئات الأدوات مما يسمى "بالأدوات الظرفية" المتعددة الأنواع، بوضع رمز خاص لكل منها؛ أما إذا ظهرت بعض الأدوات المتشابهة، فعندئذ يصبح الرمز الخاص (أو النعت أو الاسم) ممكناً وضرورياً. وعندما يعيد المرء صنع أداة وحيدة الشكل، مراراً لا تحصى، فإن شيئاً ما جديداً كل الجدة ينتج عن عمله هذا. إن كل النسخ المصنوعة لكي تتشابه، تتضمن ذات النموذج الأولي؛ وهذا النموذج يتجدد باستمرار، من حيث وظيفته، وشكله، واستخدامه. ثمه فؤوس كثيرة، ومع ذلك فليس هناك سوى فأس واحدة. ويستطيع المرء أن يستخدم أي فأس منها، بدلاً من الفأس الأصلية، لأنها جميعاً تخدم الغرض ذاته، وتحدث النتيجة نفسها، وهي متشابهة أو متماثلة في وظيفتها. إن الإنسان ليرغب دائماً في خلق هذه الأدوات، لا سواها؛ ولا أهمية لنموذج الفأس الخاص التي يستخدمها. وهكذا، فإن عملية التجريد الأولى، والقوة الإدراكية الأولى قد نتجت عن الأدوات ذاتها، وعن طريق هذه الأدوات تمكن إنسان ما قبل التاريخ من "تجريد" الخاصة المشتركة بين الفؤوس الفردية المتعددة، وبذلك خلق "مفهوم" الفأس. وهو لم يكن يدرك ما يفعل. ولكنه مع ذلك، كان يخلق مدرَكاً (مفهوماً) Concept.
المحاكاة
لقد جعل الإنسان أداة ثانية تشبه الأداة الأولى، وبذلك أنتج أداة جديدة، لا تقل عن الأولى فائدة أو قيمة. وهكذا منحت المحاكاة الانسان سلطاناً على الأشياء. فالحجر الذي كان في السابق دون فائدة، اكتسب قيمة، لأن الإنسان استطاع أن يعطيه شكل أداة، وأن يجعله في خدمته. وفي عملية المحاكاة هذه شيء من السحر. فهي تمنحه وسيلة للسيطرة على الطبيعة. ثم تأتي تجارب أخرى، فتؤكد هذا الاكتشاف الغريب. وإذا ما قلد المرء حيواناً، واتخذ شكلاً كشكله، أو أطلق صوتاً كصوته، فإنه يستطيع أن يجذبه إليه، ويستدرجه إلى مسافة أقرب، وعندئذ تقع الفريسة بين يديه بصورة أسهل. وهنا أيضاً، نجد أن التشابه سلاح قوة وسحر. فالغريزة البدائية للنوع، تضيف أيضاً قوة أكبر إلى هذا الاكتشاف. وهذه الغريزة تجعل جميع الحيوانات مرتابة إزاء كل من يخرج من أفرادها عن المظهر المألوف، كالغرائب وسائر أنواع المخلوقات العجيبة. فهي ترى فيها، من وجهة غريزية، أفراداً متمردة على القطيع. ويجب قتلها أو طردها خارج الجماعة الطبيعية. وهكذا فإن للمجانسة معنى عاماً، وإن إنسان ما قبل التاريخ، المتمرّس الآن في المقارنة، واختيار ونقل الأدوات، أخذ يعلق أهمية بالغة على كل أشكال المجانسة.
وعبر مساره صعداً، بين الموازنة والاختيار، تمكن الانسان من الوصول إلى وفرة متزايدة من التجريدات. وقد بدأ يطلق اسماً واحداً على مجموعات كاملة من الأشياء التي تتصل به. ومن طبيعة مثل هذه التجريدات أنها كثيراً (إذا لم يكن دائماً) ما تعبّر عن رابطة أو علاقة حقيقية. فكل الأدوات التي من نوع معين، ناجمة على ما نذكر، عن الأداة الأولى، التي كانت شبيهة بها أو نسخة عنها. وهذا ينطبق على كثير من التجريدات الأخرى: كالذئب والتفاحة الخ... فالطبيعة تنعكس في علاقات مكتشفة حديثاً. والدماغ لم يعد يعكس كل أداة بوصفها شيئاً فريداً، كما أنه لم يعد يعكس كل صَدَفة بوصفها شيئاً فريداً أيضاً. لقد أعد كل رمز للإشارة إلى كل الأدوات، وكل الأصداف وكل الأشياء، وكل الكائنات الحية التي هي من نوع واحد. وهذه العملية من التركيز والتصنيف في اللغة تسهل على الإنسان، بشكل حر مطرد، الاتصال بالعالم الخارجي الذي يشترك فيه مع جميع الناس الآخرين.
والأمر على غرار ذلك بالنسبة لسائر عمليات التطور وخاصة بالنسبة لحركة العمل الاجتماعي. فالجماعة الإنسانية الناشئة، قد كررت هذه العملية خلال مئات عديدة من السنين. وقد وجدت، بشكل لا شعوري، رمز (وسيلة تعبير) لهذا النشاط الجماعي. ويمكننا أن نفترض بأن هذا الرمز قد استخلص من عملية العمل ذاتها، وأنه يعكس نوعاً من الضبط الإيقاعي. فقد كان هذا الرمز يشير إلى نشاط خاص ارتبط به إلى الحد الذي يجعل رؤيته، أو سماع صوته، ينشّطان على الفور جميع المراكز العصبية، حيث يتسجل هذا النشاط. لقد كانت لمثل هذه الرموز أهمية هائلة بالنسبة للانسان البدائي؛ كانت لها وظيفة تنظيمية داخل الفريق، أو الجماعة العاملة، لأنها كانت تعبر عن الشيء ذاته لكافة أعضائها.
إن عملية العمل الجماعي تتطلب إيقاع عمل يُنسّقها. ويساند هذا الإيقاع ترتيل جماعي ملفوظ إلى حد ما. ومثل هذه التراتيل، سواء كانت "Heave -O- oh" الإنكليزية، أو "Horuck" الألمانية، أو "E-ueh-nyem" الروسية، فهي ضرورية لإنجاز العمل بطريقة إيقاعية. ففي مثل هذه اللازمات التي يتصل بها سحر ما، يساند الفرد الروح الجماعي، حتى إذا كان يعمل خارج الجماعة. وقد رأى جورج طومسون (الذي لم أطلع، مع الأسف، على كتابه الرائع: "دراسات في المجتمع الإغريقي القديم، إنسان ايجن ما قبل التاريخ" إلا بعد أن أصبح كتابي هذا ماثلاً للطبع، بحيث لا يسعني إلا الإشارة إليه إشارة عابرة) في أغاني العمل القديمة إنها مزيج من لازمة (أي الترتيل الجماعي الموحد) ومن ارتجال فردي. وهو يستشهد بأغنية سجلها المبشر السويسري "جونود"، تمثل صبياً من أبناء قبيلة "تونغا" يعمل في تكسير الحجارة على طريق إفريقيّة، من أجل أسياده الأوروبيين، ويغنّي:
"باهي شاني ـ سا، أيهي!
باكو هي هلوفا، أيهي!
بانوا ما خوفي، أيهي!
بانغا هي نجيكي، أيهي!".
 
"إنهم يسيئون معاملتنا، أيهي!
إنهم قساة علينا، أيهي!
ويشربون قهوتهم، أيهي!
ولا يسقوننا أبداً، أيهي!".
إن الرموز الكلامية الأولى لعمليات العمل (وهي أنغام ترتيلية تشكل إيقاعاً منطبقاً على الجماعة) كانت على الأرجح، في الوقت نفسه، إشارات قيادة معدة لتحريك الجماعة (تماماً كما تحدث صيحة التحذير ردة فعل سلبية مباشرة، كهروب القطيع مثلاً). وهكذا كانت السلطة تُختزن في كل وسيلة لغوية للتعبير، وهي في آن واحد سلطة على الإنسان وعلى الطبيعة.
ولم تكن المسألة بالنسبة لإنسان ما قبل التاريخ مسألة اعتقاد بأن الكلمات تشكل أداة قوية: بل كانت هذه الكلمات تعزز، في الواقع، سيطرته على الواقع. ولم تسمح اللغة بالتمكن من تنسيق النشاط الإنساني بطريقة ذكية وحسب، ووصف التجربة ونقلها، وبالتالي، زيادة فعالية العمل، ولكنها أيضاً سمحت بالتمييز بين الأشياء، عن طريق ربطها بأسماء محددة، وعن طريق انتزاعها من غُفلية الطبيعة الحامية، وجعلها تحت سيطرة الانسان. فإذا ما حززتُ شجرة تنبت في غابة، فمعنى ذلك أن الشجرة هذه مقضي عليها. ذلك أنه بإمكاني أن أشير إلى أحدهم بالذهاب إلى الغابة واقتطاع الشجرة التي عنيتها. فهو يعرفها من ذلك الحزّ. وكذلك الاسم الذي يطلق على الشيء: إنه يجعل الشيء معيّناً، متميزاً عن الأشياء الأخرى، ومدفوعاً به إلى يدي الإنسان. فهناك تطور متصل بين صنع الأدوات وبين تعيينها وامتلاكها (بواسطة حزّ مثلاً، أو سلسلة منها، أو بواسطة زينة بدائية) ومن ثم منحها اسماً تُعرَف به، وتصبح بذلك خاضعة لتصرُّف كلٍ من أعضاء الجماعة.
إن الأداة الموحدة الشكل قد أُعيد صنعها بالمحاكاة التي كانت تميزها بواسطة ضرب من السحر، عن غيرها من الأحجار الأخرى، التي لم تكن حتى ذلك الحين خاضعة إلا لسلطان الطبيعة. ويمكن الافتراض بأن وسائل التعبير اللغوية الأولى، لم تكن أيضاً سوى محاكاة. كانت الكلمة معتبرة، في بادىء الأمر على أنها مماثلة للشيء ذاته. تلك كانت وسيلة لحيازة الشيء، وفهمه، والسيطرة عليه. وإننا لندرك بأن جميع الأجناس البدائية تقريباً، كانت تعتقد أنها عندما تسمي شيئاً ما، على وجه التخصيص، أو شخصاً، أو شيطاناً، تمارس عليه سلطاناً (أو أنها تتصدى لعداوتها السحرية). وقد حُفظت هذه الفكرة في العديد من الحكايات الشعبية: ويكفي أن نذكر رومبلستلكتسين الماكر، وصيحته الظافرة:
"إني لسعيد لأن أحداً لا يعرف
أني أُدعى رومبلستلكتسين!".
لقد كانت وسيلة التعبير (الإيماءة، والصورة، والصوت، والكلمة) أداة، شأنها شأن الفأس أو السكين. كانت فقط وسيلة أخرى لبسط سيطرة الإنسان على الطبيعة. وعلى هذا النحو، برز إلى الوجود كائن جديد، عن طريق استخدامه الأدوات، وعن طريق عملية العمل الجماعي. وهذا الكائن، الإنسان، هو أول من واجه الطبيعة كلها، بوصفه ذاتاً نشيطة. ولكن، قبل أن يصبح الانسان ذاتاً بالقياس نفسه، كانت الطبيعة قد أصبحت موضوعاً بالنسبة إليه. والشيء في الطبيعة لا يصبح موضوعاً، إلا عندما يصبح موضوعاً للعمل أو أداة له. وعلاقة الذات بالموضوع لا تنشأ إلا بالعمل.
إن الانفصال التدريجي بين الإنسان والطبيعة التي لا يزال من مخلوقاتها رغم أنه يواجهها كخالق باستمرار، قد أدى إلى نشوء إحدى أهم قضايا الوجود الإنساني. وإن الحديث عن "الطبيعة المزدوجة" للإنسان لحديث معقول تماماً. ذلك أن الانسان، باستمرار انتمائه إلى الطبيعة، قد أوجد "طبيعة مضادة" أو "طبيعة عليا"، وخلق بعمله نوعاً جديداً من الواقع: خلق واقعاً حسّياً وفوق الحسّي معاً، وفي الوقت نفسه.
وليس الواقع أبداً مجرّد تراكم وحدات منفصلة، تقوم بدون روابط تشدها بعضاً لبعض. فكل شيء مادي مرتبط بكل الأشياء المادية الأخرى، وثمة بين الأشياء علاقات متعددة واسعة جداً. وهي علاقات واقعية، كالأشياء المادية ذاتها, ولا يتشكل الواقع إلا في علاقات الأشياء المتبادلة. وبقدر ما تزداد هذه العلاقات غنى وتركيباً، تزداد الطبيعة غنى وتركيباً أيضاً. ولنأخذ على سبيل المثال شيئاً من نتاج العمل. فما هو هذا الشيء؟ إنه بعبارات الواقع الميكانيكي، ليس سوى "كتلة" تنجذب نحو "كتل" أخرى (الكتلة نفسها هي أيضاً التعبير الذي يعني علاقة). وبعبارات الواقع الفيزيائي، فإن هذا الشيء هو جزء من مادة صلبة مركبة تركيباً خاصاً من ذرات وقسيمات خاضعة لقواعد خاصة بهذه القسيمات. وبعبارات الواقع الإنساني والاجتماعي، فهو يعني أداة، وموضوعاً ذا قيمة استعمالية، إذا بودل بشيء آخر اكتسب قيمة تبادلية. إن العلاقات الجديدة بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان وأشباهه من البشر، قد أفعمت في هذا الجزء من المادة، وأضفي عليها مضمون جديد، وصفة جديدة، لم يكونا لها من قبل. وهكذا فإن الإنسان الكائن العامل هو خالق واقع جديد وطبيعة متفوقة، أعجب نتاج لها هو العقل. فالكائن العامل يرتقي بالعمل، ليصبح كائناً مفكراً؛ فالفكر (أي العقل) هو النتيجة الضرورية للتفاعل غير المباشر الذي يحصل بين الإنسان والطبيعة.
إن الإنسان ليحول العالم بعمله، كالساحر: فقطعة الخشب، والعظمة والصوان، تتخذ شكلاً يشبه نموذجاً معيناً، وعلى هذا النحو يصبح ذلك النموذج ذاته؛ وكذلك الأشياء المادية، فهي تتحول إلى رموز وأسماء، ومدركات concepts والإنسان ذاته يتحول من حيوان إلى إنسان.
إن هذا السحر الموجود في جذر الوجود الانساني ذاته، والذي يخلق في الوقت نفسه إحساساً بالعجز ووعياً بالقدرة، وخوفاً من الطبيعة مع القدرة على السيطرة عليها، إنما هو الجوهر ذاته لكل فن. وصانع الأدوات الأول، عندما أعطى الحجر شكلاً جديداً لكي يجعله في خدمته، إنما كان هو الفنان الأول. وأول من أطلق على الشيء اسماً كان أيضاً فناناً عظيماً، عندما ميز الشيء عن متاهة الطبيعة، وروّضه بواسطة رمز، ثم سلم هذا الشيء الذي خلقته اللغة، إلى غيره من الناس كأداة تمنحهم القدرة. والمنظم الأول، الذي نظم عملية العمل بواسطة الغناء الإيقاعي، وزاد بذلك من قوة الإنسان الجماعية، كان فناناً نبوياً. والصياد الأول الذي تنكر في هيئة حيوان، وتمكن بفضل هذا التماثل مع فريسته، من زيادة حصيلة الصيد، والرجل الأول الذي وضع في العصر الحجري علامة كل أداة، أو سلاح، بحزّ أو حلية خاصة، ورئيس القبيلة الذي بسط جلد حيوان على كتلة من الصخر أو على جذع شجرة لكي يجذب إليه حيوانات النوع الواحد، جميع هؤلاء الرجال أصبحوا أسلاف الفن.
قدرة السحر
إن الاكتشاف المثير لواقع كون الأشياء الطبيعية يمكن تحويلها إلى أدوات قادرة على التأثير في العالم الخارجي وتحويله، كان من المحتم أن يفضي إلى فكرة أخرى في ذهن الإنسان البدائي، الذي كان يجرّب باستمرار، ويستيقظ على التفكير ببطء: في أن فكرة إمكانية تحقيق المستحيل بواسطة أدوات سحرية، وأن الطبيعة يمكن أن "تُسحر" دون حاجة إلى جهد العمل. ولمّا كان الإنسان الأول متأثراً بأهمية التقليد والمحاكاة الهائلة، فقد استنتج أنه ما دامت هذه الأشياء المتشابهة متطابقة، فإن سلطانه على الطبيعة يمكن، بهذه الوسيلة، أن لا يقف عند حد. وهذه القدرة الجديدة على التحكم بالأشياء والسيطرة عليها، وحفز النشاط الاجتماعي، والتسبب بالأحداث بواسطة الرموز، والصور، والكلمات، أدت به إلى الاعتقاد بأن قدرة اللغة السحرية لا تحد. وبوصفه منذهلاً بقوة الإرادة التي تتوقع، وتحدِث أشياء لم توجد بعد، وليس لها وجود إلا في الذهن، فقد كان عليه أن ينسب إلى أفعال الإرادة قوة هائلة القدرة وغير محدودة.
وفي كتاب "روث بنديكت": أسس الحضارة، ثمة مثال واضح عن هذا الاعتقاد الذي مفاده أن المحاكاة يجب أن تخلق القوة. إن ساحراً من جزيرة دوبو يريد أن يُصاب أحد أعدائه بمرض عُضال. تقول روث:
"ولكي تحدث الرقية مفعولها، نجد الساحر يقلد سلفاً مرحلة الاحتضار من المرض الذي يبتلي به الشخص المعني. فيتمرغ على الأرض، ويصيح متشنجاً بشدة. وبذلك وحده، وعقب تقليد دقيق لنتائجه، تستطيع الرقية السحرية أن تفعل فعلها". ونقرأ في مكان تال من الكتاب: "إن الرقى ذاتها تكاد تكون صريحة صراحة العمل الذي يرافقها... وهذه هي التعويذة التي تستخدم في إحداث مرض "الغنغوزا"، هذا المرض الوبيل الذي يفترس اللحم، مثلما يلتهم الغراب الأقرن، الذي أطلق اسمه على هذا المرض، جذوع الأشجار بمنقاره الكبير الذي يمزق كل شيء:
"الغراب الأقرن، الساكن في سيغا سيغا
في قمة شجرة لوانا
يقطع، يقطع
يمزق
ابتداء من الأنف
من الصدغين
من الحلق
من الردف
من جذور اللسان
من الرقبة
من السرة
من القذال
من الكلى
من الأمعاء
إنه يمزق
ولا يكف عن التمزيق.
الغراب الأقرن، الساكن توكوكو
في قمة شجرة لوانا.
الضحية تنحني وتتلوى
تنحني وتمسك ظهرها
تنحني معقودة الذراعين أمامها
تنحني، ويداها على كليتيها
تنحني ورأسها بين يديها
تنحني منثنية
متأوهة، صائحة.
إنها تقفز هناك
وتقفز هنا بسرعة فائقة".
لقد كان الفن أداة سحرية، وقد ساعد الإنسانَ على السيطرة على الطبيعة، وعلى تطوير علاقات اجتماعية. إلا أنه سيكون من الخطأ، على كل حال، تفسير أصول الفن بهذا العنصر وحده. إن كل عنصر نوعي جديد هو نتيجة مجموعة علاقات جديدة، يمكن أن تكون أحياناً بالغة التعقيد. وربما كان لجاذبية الأشياء اللماعة والبراقة، والمشعّة (لا بالنسبة للكائنات البشرية، بل بالنسبة للحيوانات أيضاً) ولجاذبية الضوء الخارقة، دورها جميعاً في نشوء الفن. وربما كانت من حوافزه أيضاً المغريات الجنسية (الألوان الصارخة، الروائح الحادة، الجلود والريش الرائع الجمال في الطير والحيوان، والجواهر والملابس الفاخرة، وعبارات وإشارات الغزل الفتانة عند الناس). وربما لعبت دوراً حافزاً للنشاط، بالنسبة إليه: إيقاعات الطبيعة العضوية وغير العضوية (مثل نبضات القلب، والتنفس، والعلاقات الجنسية) والقفلة الإيقاعية للعمليات أو العناصر الشكلية وما ينجم عنها من لذة، وبخاصة إيقاعات العمل، كان لها دائماً دور هام. إن الحركة الإيقاعية تساعد العمل، وتنسق الجهد، وتربط الفرد بفئة اجتماعية. وكل انقطاع في الإيقاع، إنما هو ممجوج، لأنه يحدث خللاً في عمليات الحياة والعمل؛ وهكذا نجد الإيقاع متمثلاً في الفنون، بوصفه تكراراً لعنصر ثابت، وبوصفه تناسباً وتناظراً symetrie. وأخيراً، من العناصر الأساسية في الفنون ذلك العنصر الذي تشكله الرهبة، وما يوحي بالرعب، وبما يظن أنه يمنح الإنسان قوة تجاه العدو. والظاهر أن وظيفة الفن الحاسمة كانت في أن يمارس سلطاناً ما: على الطبيعة، وعلى عدو ما، وعلى شريك جنسي (على المعشوق)، وعلى الواقع، وعلى تدعيم الجماعة البشرية. فالفن، في فجر الإنسانية، لم تكن تربطه "بالجمال" سوى علاقة واهية، ولم تكن له أية علاقة بالرغبة الجمالية. لقد كان أداة سحرية، أو سلاحاً سحرياً لدى الجماعة البشرية في نضالها من أجل البقاء.
وإنه لمن الخطأ السخرية من خرافات الإنسان البدائي، أو من محاولاته لترويض الطبيعة، عن طريق المحاكاة، والتقليد (التشبه بمظاهر الطبيعة)، وبقدرة الصور واللغة، والسحر، والحركة الإيقاعية الجماعية وغيرها. ولا شك في أن الإنسان، وهو في أول شروعه في ملاحظة قوانين الطبيعة، واكتشاف العلاقة السببية، وتشييد عالم "واع" مؤلف من رموز اجتماعية، وكلمات، ومدركات، ومصطلحات، إنه توصل إلى استنتاجات خاطئة عديدة، وتاه في المماثلة، وإنه كان يصوغ كثيراً من الأفكار المغلوطة من أساسها (ومازال معظمها قائماً في لغتنا وفلسفتنا بشكل أو بآخر). ومع ذلك، فهو في خلقه الفن، اكتشف وسيلة حقيقية لزيادة قدرته، وإغناء حياته. لقد أدت الرقصات القبلية الشديدة الاحتدام، قبل الصيد، إلى زيادة شعور القبيلة بقوتها فعلاً؛ كما أن رسوم الحرب وصيحاتها كانت تؤدي فعلاً إلى زيادة المحارب عزماً وبث الذعر لدى العدو. وكانت رسوم الحيوانات في الكهوف تساهم فعلاً في منح الصياد الشعور بالطمأنينة والتفوق على طريدته. وكانت الاحتفالات الدينية، بشعائرها الدقيقة، تساهم فعلاً في ترسيخ خبرة اجتماعية لدى كل فرد من أفراد القبيلة، وتدمج كل فرد في مجموع القبيلة. فالإنسان، وهو الكائن الضعيف في مواجهة طبيعة خطرة، مجهولة، رهيبة، قد وجد في السحر عوناً كبيراً له على تطوره ونموه.
وشيئاً فشيئاً، وبصورة غير منظورة انقسم السحر إلى دين وعلم وفن. وتبدلت الوظيفة الإيمائية تدريجياً: ابتداء بالمحاكاة التي كانت معدة لاكتساب قوة سحرية، تمكنت تدريجياً من أن تجعل الاحتفالات التمثيلية تحل محل القرابين الدموية. وما أغنية الغراب الأقرن في جزيرة دوبو، التي أشرت إليها، إلا من السحر الخالص. ولكن، عندما نجد أن بعض القبائل الأصلية في أستراليا تتظاهر بأنها تستعد للقيام بعملية انتقام دموي، يكون هدفها في الواقع، إراحة الموتى بواسطة الإيماء، وهذا ما يشكل انتقالاً نحو الدراما ونحو العمل الفني. وثمة مثل آخر: زنوج دجانما حين يقطعون شجرة. إنهم يدعون الشجرة هذه أنها أخت الانسان الذي تنبت في أرضه. ويمثلون الاستعدادات لقطع الشجرة، على أنها أعمال تحضيرية لحفلة زفاف الأخت. وعشية عملية القطع، يقدمون إليها اللبن، والبيرة، والعسل، وهم يقولون: "مانا موفو" (أيتها الابنة الراحلة) يا أختي، إنني أمنحك زوجاً، وسيقترن بك يا ابنتي". وعند قطع الشجرة، يطلق صاحبها تأوهات: "لقد سلبتموني أختي". إن الانتقال من السحر إلى الفن ظاهر هنا تماماً. الشجرة هي جسم حي، وعندما تسقط، يستعد أفراد القبيلة لحفلة قيامتها، على نحو ما يُعتقد بأن الموت ميلاد جديد للفرد المتحدر من جسد الجماعة الأمومي. وهذا عرض دقيق التوازن بين الاحتفال الرسمي وبين اللعبة الفنية؛ والحزن الذي يتظاهر به مالك الشجرة، يحمل أصداء من الخوف القديم واللعنات السحرية. وقد تم الاحتفاظ بطقس الشعائر هذه في الدراما.
إن التماثل السحري بين الانسان والأرض، كان أيضاً في أساس العادة الواسعة الانتشار وهي التضحية بالملك. وقد أثبت فريزر أن النظام الملكي إنما نشأ بالدرجة الأولى من سحر الخصوبة. ففي نيجيريا لم يكن الملوك، أول الأمر، سوى شركاء الملكة. وكان لابد للملكات من أن يحملن لكي تعطي الأرض ثمارها. وبعدما يؤدي الرجال (المعتبرون ممثلين لإله القمر على الأرض) واجبهم، تقوم النساء بقتلهم، وكان الحثّيون يريقون دم الملك المقتول في الحقول، أما لحمه فتأكله الجنيّات (وهن وصيفات الملكة) اللواتي يتقنعن بأقنعة تمثل رؤوس كلاب، أو جياد، أو خنازير. وعندما حصل التحول من عصر الأمومة إلى عصر الأبوة، استولى الملك، تدريجياً، على سلطات الملكة، وصار يرتدي ثياباً نسائية، ويضع أثداء اصطناعية، ويمثل الملكة. وأصبحت رعيته تستبدله، كضحية، بنائبه، إلى أن استُبدل نائب الملك بحيوانات. وأصبح الواقع أسطورة؛ وتحول الطقس السحري إلى شعار ديني، وأخيراً تحول السحر نفسه إلى الفن.
إن الفن لم يكن نتاجاً فردياً، بل جماعياً، برغم أن السمات الفردية الأولى قد بدأت تظهر في خَفَر، من خلال شخص الساحر. وكان المجتمع البدائي يمثل طرازاً مكثفاً وثيق الترابط من الروح الجماعية. ولم يكن هناك ما هو أشد هولاً من أن يطرد إنسان خارج الجماعة، ويبقى وحيداً؛ فالانفصال عن الفئة أو القبيلة، كان يعني الموت بالنسبة للفرد. أما الجماعة فكانت تعني الحياة ومحتواها. وكان الفن، بكل أشكاله (اللغة، الرقص، الأغاني الإيقاعية، الطقوس السحرية) يشكل النشاط الاجتماعي في أجلى صوره وأبدعها، والنشاط المشترك بين الجميع الذي يرفع الجميع فوق الطبيعة، وفوق العالم الحيواني. ولم يفقد الفن أبداً هذا الطابع الجماعي فقداناً تاماً حتى بعد انقضاء زمن طويل على انهيار الجماعة البدائية، وحلول مجتمع من طبقات وأفراد محلها.
الفن والمجتمع الطبقي
في أعقاب اكتشافات باشوفن ومورغان، قام ماركس وأنجلز بتحليل عوامل انهيار المجتمع القبلي الجماعي، والنهوض التدريجي لقوى الإنتاج، وتقسيم العمل بشكل مطرد، ونشأة التجارة على أساس المقايضة والانتقال إلى السلطة البطريركية وبدايات الملكية الخاصة والطبقات الاجتماعية والدولة. ومنذ ذلك الحين، قام علماء كثيرون جداً بدراسة كل تفصيل من تفاصيل هذه العملية على أساس المواد الوفيرة. ويتمتع كتاب جورج طومسون "أسخيلوس وأثينا، ودراسات في المجتمع الإغريقي القديم" بأهمية كبرى في هذا الميدان. ففي اليونان القديمة، أدت زيادة إنتاجية العمل المتزايدة إلى خلق وضع تمَّ بواسطته قبول الحرفيين، والعمال "الذين يعملون من أجل الجماعة" كقسم من هذه الجماعة التي كانت تتألف من الرئيس، وقدامى المنتجين، وزرّاع الأرض. وكان للرئيس حق التصرف بفوائض المنتجات الزراعية. وقد جمع الرؤساء ضريبة منتظمة. فتطور تبادل السلع بشكل لا يكاد يحس انطلاقاً من العلاقات الأخوية بين القبائل. وأصبحت للهدايا المتبادلة قيمة المقايضة. وكان الرؤساء والحرفيون أول من حطم روابط العشيرة. وأصبح الأولون ملاكاً للأرض، ونظَّم الآخرون أنفسهم في هيئات مهنية. وتحولت القرية القبلية إلى دولة مدينية (نسبة إلى المدينة) يحكمها الملاكون العقاريون. وكان ذلك بداية المجتمع المؤلف من طبقات.
وكما كان السحر مطابقاً لشعور الإنسان بالاتحاد مع الطبيعة، وبوحدة جميع الموجودات (وهي وحدة تقتضيها العشيرة)، كذلك أصبح الفن تعبيراً عن بداية الاستلاب alienation. وكانت العشيرة الطوطمية تمثل كلية شاملة. وكان طوطم العشيرة رمزها الخالد، رمز الجماعة الخالدة التي يخرج منها الفرد، وإليها يعود. وكانت وحدة البنية structure الاجتماعية هذه على غرار العالم المحيط. فنظام العالم كان يلائم نظام المجتمع. وثمة أجناس بشرية تطلق على الوحدة الاجتماعية الدنيا اسم "البطن". والجماعية الاجتماعية هي وحدة الأحياء والأموات. وقد كتب الأب "فان وينغ" في كتابه "دراسات عن باكونغو" يقول:
"إن العشيرة، أو السلالة، هي التي تملك الأرض المشاعية. لكن العشيرة، أو السلالة، ليست الأحياء وحدهم، وإنما هي أيضاً، وبالدرجة الأولى "الباكولو" أي: الأموات... إن العشيرة، والأرض التي تشغلها، تشكلان شيئاً مشتركاً، غير قابل للتجزئة، وكل ذلك هو تحت سيطرة الباكولو ـ أي الأسلاف الموتى ـ.
وقد كتب ج. سترهلو بخصوص قبيلتي "أراندا" و"لوريتجا" من قبائل أستراليا الوسطى، يقول:
"منذ ما تعلم امرأة بأنها حامل، أي بأن "رتابا" (وهو طوطم) قد دخلها، يتوجه جد الطفل المنتظر إلى شجرة من أشجار "المولغا"، ويقطع جزءاً صغيراً من "التجورونجا" (وهو جسم الطوطم السري المتخفي الذي يربط الفرد بأسلافه وبالكون) ويحفر عليه بسن من أسنان السناجب الأليفة، رموزاً متصلة بالطوطم، أو بالطوطم السلف. فالطوطم، والطوطم السلف، والطوطم الخلف (الذي يجسِّده ممارس الطقوس بما يرتديه من حلي وأقنعة) تتمثل جميعاً في أغاني "التجورونجا"، ككائن موحد فريد..."
إن الوحدة الكاملة بين الإنسان والحيوان، والنبات، والحجر، والنبع، والحياة والموت، وبين الجماعة والفرد، إنما هي باكورة جميع الطقوس السحرية.
وبمقدار ما كانت الكائنات البشرية تنفصل عن الطبيعة بصورة مطردة، وبمقدار ما كانت تضمحل وحدة القبيلة الأصلية نتيجة لتقسيم العمل ونشوء الملكية الخاصة، كان يختل التوازن القائم بين الفرد والعالم الخارجي أكثر فأكثر. وقد نشأت عن غياب الانسجام مع العالم الخارجي ضروب الهستيريا، ورعدات الغيبوبة والوجد، ونوبات الجنون. وفي إحدى رسائله من السجن بتاريخ 15 شباط 1932 كتب المفكر الايطالي الماركسي الكبير أنطونيو غرامشي يقول إن طريقة التحليل النفسي، لا يمكن أن تطبق بشكل مفيد، إلا على العناصر الاجتماعية التي يصفها الأدب الرومنطيقي بأنها "مهانة، ومعذبة..." والتي هي أكثر عدداً وتنوعاً بكثير مما تظهر عادة. وأنا أقصد هؤلاء الناس الذين تشد بخناقهم تناقضات عالمنا الحديدي (بصرف النظر عن عالمنا الراهن. ذلك لأنه كان لكل عصر معاصرة تتعارض مع ماضيه)، والذين لا يستطيعون بوسائلهم الخاصة أن يفسروا هذه التناقضات، وبالتالي، السيطرة عليها وبلوغ حالة من صفاء البصيرة والطمأنينة الخلقية الجديدتين، أي بلوغ توازن بين اندفاعات الإرادة وبين الأهداف التي يجب بلوغها".
وثمة عصور أزمات يتخذ فيها التناقض بين الحاضر والماضي أشكالاً متضادة إلى أقصى الحدود. وقد كان الانتقال من مرحلة الحياة الجماعية البدائية، إلى "العصر البرونزي" للمجتمع الطبقي، مع فئته القائدة الصغيرة، وجماهيره من "المهانين والمعذبين"، أحد هذه العصور.
إن حالة "الخروج من الذات" أي الهستيريا، إنما هي حالة فرحة ومتعة عنيفة لحياة الجماعة، ولوحدة العالم. وبمقدار ما كان يتقدم التمايز الاجتماعي، كانت تظهر، من ناحية، فترات انجذاب جماعي مجنون، كما ظهر، من ناحية أخرى، أفراد (يؤلفون في الغالب اتحادات أو روابط مهنية فيما بينهم) وظيفتهم الاجتماعية أن تتملكهم القوى الخارجة عن مداركهم، أو أن يصبحوا "ملهمين". وكانت مهمة هؤلاء، سواء منهم المختارون، والملعونون، والأنبياء، والمنشدون أن يرمموا بناء الوحدة المضطربة، والانسجام مع العالم الخارجي. لقد كتب أفلاطون في محاورتة مع "إبون" يقول: "ذلك أن جميع الشعراء الملحميين المجيدين، لا يستمدون إجادتهم من الفن، بل من الإلهام؟ إنهم مسكونون بشياطين الإلهام، ولذلك فهم يخلقون هذه القصائد الروائع. وكذلك الأمر بالنسبة للمجيدين من الشعراء الغنائيين. وكما أن كهنة الآلهة، عندما يحتفلون بعبادتهم الطقوسية يفقدون صوابهم أثناء الرقص، كذلك الشعراء الغنائيون، لا ينظمون أشعارهم الغنائية الجميلة وهم في حالة الإدراك. إنهم على عكس ذلك، لأنهم عندما يبدؤون اللحن والإيقاع، يأخذهم هيام وبحران عنيفان، وينزل عليهم الوحي، فيصبحون مثل كاهنات باخوس اللواتي يستقين اللبن والعسل من الأنهار، ولكن لا يتم لهن ذلك إلا في حال فقدانهن الوعي".
يقول أفلاطون بأن الله يتكلم بأصوات المسكونين. والله هو اسم آخر للجماعة. لقد كان مضمون الانجذاب الشيطاني إعادة تركيب الجماعة البدائية بشكل عنيف داخل الفرد، وضرباً من الروح الجماعي. وهكذا نجد أن الفن في المجتمع المتميز، قد خرج من السحر، في أعقاب هذا التمايز نفسه، ومن الاستلاب المتزايد الذي أحدثه.
ففي المجتمع المنقسم إلى طبقات، تسعى هذه الطبقات إلى جعل الفن، هذا الصوت الجماعي القوي، في خدمة مصالحها الخاصة. وكانت صرخات كاهنات "بيثيا" "تحضر" باتقان بالغ، ودراية كلية، من قبل كهان ارستقراطيين. وقد بدأ القائد يظهر من خلال الجوقة الجماعية هذه؛ وأخذت الترنيمة المقدسة تتحول إلى أنشودة تمجد الحاكمين؛ وانقسم طوطم العشيرة إلى آلهة للارستقراطية. وأخيراً، تطور قائد الجوقة، بما لديه من موهبة في الارتجال والاختراع، إلى شاعر منشد يرتل أشعاره في بلاط الملوك بدون جوقة، ثم انتقل فيما بعد إلى الغناء في ساحة السوق. فنحن نجد، من ناحية، التمجيد للسلطة، وللملوك، والأمراء، والعائلات الارستقراطية وللوضع القائم، الذي أقامته، والتي تنعكس في أيديولوجيتها بشكل نظام يُزعم أنه كوني. ومن ناحية أخرى، نجد الثورة الديونيسية النابعة من الأعماق، نجد صوت الجماعة القديمة، المهدمة حالياً، وقد لجأت إلى الجمعيات السرية، والعبادات المتخفية، لكي تحتج على انتهاك حقوق المجتمع وتقسيمه، وعلى قيود الملكية الفردية، وقساوة سيطرة الحكم الطبقي، ولكي تتنبأ بعودة النظام القديم والآلهة القدامى، وبقدوم عصر ذهبي من الإخاء والعدالة. وكثيراً ما تمازجت عناصر متناقضة عند فنان واحد، وخاصة في تلك الفترات التي لم تكن الحياة الجماعية القديمة قد ابتعدت كثيراً، وكانت لاتزال قائمة في الوعي الشعبي. وحتى الفنان الأبولوني، المبشر بالطبقة الحاكمة الفتية، لم يكن متحرراً تماماً من هذا العنصر الديونيسي الاحتجاجي، أو هذا الحنين إلى المجتمع الجماعي القديم.
لقد كان الساحر، في المجتمع القبلي البدائي، ممثلاً للجماعة وخادماً لها بكل ما في الكلمة من معنى، وكانت قدرته السحرية تدفعه إلى مجازفة التعرض للموت، إذا لم يستجب مراراً عديدة لتحقيق ما تتوق إليه الجماعة. أما في المجتمع الطبقي الفني، فقد كان دور الساحر موزعاً بين الفنان والكاهن، وقد انضم إليهما فيما بعد الطبيب والعالم والفيلسوف. ولم تضعف الرابطة بين الفن والعبادة إلا ببطء شديد، إيذاناً بانفصامها النهائي التام. ولكن حتى عقب حدوث هذا الانفصام، بقي الفنان ممثلاً المجتمع، أو الناطق باسمه. ولم يكن وارداً أبداً أن يزعج هذا الفنان جمهوره بقضاياه الشخصية؛ ذلك أن شخصيته كانت لا مبالية، وقيمته تقدر بمدى قدرته على أن يكون صدى وانعكاس التجربة المشتركة، وأحداث وأفكار شعبه الكبرى، وطبقته وعصره. هذه الوظيفة الاجتماعية كانت جوهرية حتمية ومسلماً بها، مثلما كانت وظيفة الساحر فيما مضى. كانت مهمة الفنان أن يعرض لمعايشيه مغزى الأحداث العميق، وأن يوضح لهم سير التطور الاجتماعي والتاريخي، وضرورتهما وقوانينهما، وأن يحل لهم لغز العلاقات الجوهرية بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والمجتمع؛ كان واجبه أن يذكي الوعي بالذات وبالحياة لدى مواطنيه، وأفراد طبقته وأمته، وأن يحرر الناس، الذين انتقلوا من طمأنينة الجماعة البدائية إلى عالم يسوده تقسيم العمل والصراعات الطبقية، من قلق فردية مبهمة ومجزأة ومخاوف وجود وقتي؛ وأن يعيد التحام الحياة الفردية بالحياة الجماعية، والشخصي بالكوني، وأن يرمم وحدة الانسان الضائعة.
لقد دفع الإنسان، بالفعل


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق