الهروب خارج المجتمع

إن تجريد الفن والأدب من النزعة الاجتماعية يخلق الحافز المتردد باستمرار إلى الهروب: الهروب خارج المجتمع المعتبر كأنه كارثة، من أجل بلوغ حالة مزعومة، حالة وجود "خالص"، أو "عار". وعندما رددت جرترود شتاين قولها: "إن الوردة هي وردة، هي وردة، هي وردة" كما تردد تعويذة سحرية ورتيبة، كان المقصود بالتحديد هو: إقناعنا بالابتعاد عن كل شكل من أشكال الواقع الاجتماعي، وتدمير كل العلاقات، والتمركز حول شيء واحد متحول بشكل سحري إلى "شيء قائم بذاته". وقد عرض ارنست همنغواي، وهو تلميذ جرترود شتاين، تكنيك هذا الهروب خارج الواقع، بصفاء فريد، في قصصه الخمس عشرة التي كتبها في مطلع شبابه، بعنوان: "في عصرنا". فهو في فقرات قصيرة مدسوسة بين القصص، يشير إلى الحوادث الفاجعة في عصرنا، من حرب، وقتل، وتعذيب، ودم، وخوف، وقسوة، تلك الأشياء التي يحاول الظلاميون الحديثون إبعادها بقولهم أن "ليس للتاريخ معنى"؛ ذلك أن القصص ذاتها تسرد حوادث تافهة في الظاهر، خالية من كل محتوى، وقد حدثت بشكل مستقل وفيما وراء ما يثير العالم، وهذا "الما وراء"، وتلك "الاستقلالية" هما معتبران بمثابة الوجود الفعلي. إن إحدى هذه القصص الشعرية التذكيرية، تصف "نك" وهو ينصب خيمته في الليل وحيداً:
"لقد نصب خيمته. واستقر. وليس بمقدور أحد أن يلمسه. كان المكان مناسباً لنصب الخيمة. وهو هنا في المكان الملائم. فقد كان في بيته، حيث أقامه... وفي الخارج كان الليل مخيماً تماماً. وكان داخل الخيمة أقل قتاماً".
إننا لنستطيع القول بأن هذا الكلام لا يختلف إطلاقاً عن "الوردة هي الوردة، هي الوردة، هي الوردة". فهو يعكس أيضاً فلسفة إنسان يهرب أمام المجتمع. أن تنصب خيمتك، بعيداً عن العالم، ليس ثمة ما هو جدير بالجهد. العالم مظلم. ازحف على بطنك داخل خيمتك. فداخلها أكثر نوراً.
إن موقف همنغواي هو نموذج تطلع واسع منتشر في المجتمع البورجوازي الحديث. إن ملايين الناس، وخاصة الشبان، يحاولون التهرب من المشاغل التي لا ترضيهم، ومن الحياة اليومية التي يرونها فارغة، ومن السأم الذي حلله بودلير بصورة تنبؤية، ومن كل الالتزامات، وكل الإيديولوجيات الاجتماعية، والذهاب بعيداً، على دراجات نارية مفرقعة مخمورة، بسرعة تدمّر كل عاطفة وكل فكر، وتنقلهم بعيداً عن ذاتهم في يوم أحد، أو عيد، حيث ينوجد كل معنى الحياة مكثفاً بشكل ما. إن ثمة أجيالاً بأسرها في العالم الرأسمالي، تهرب أمام ذاتها، كأنها مطرودة من قبل نكبة مستطيرة، وكأنها مشتبهة بتهديد العاصفة، وذلك لكي تنصب، في مكان ما مجهول تماماً، خيمة واهية تكون أكثر نوراً من الظلمة الخارجية.
والذي يجعل قضايا تجريد الفنون من النزعة الاجتماعية والإنسانية قضايا حادة، إنما هو واقع التقنيات المتقنة بتجديد الإنتاج الميكانيكي، الذي ابتدأ بالتصوير الفوتوغرافي والاسطوانة، وقد خلق صناعة جبارة للتسليات في خدمة عدد وافر من مستهلكي الفن. فالطابع الهمجي، والمحتوى اللاإنساني، والقساوة المثيرة لعدد كبير من الأشياء الفنية المصنوعة للاستهلاك الواسع في النظام الرأسمالي جميعها معروفة جيداً. وهذه المنتوجات وما لها من تأثير تتطلب دراسة خاصة. وإني أحب أن أقول شيئين اثنين. الشيء الأول هو: أن الكتَّاب والفنانين، الذين على جانب من الأهمية، ينتجون الأشكال التي تصبح فيما بعد مقلدة، بشكل أكثر خشونة، وبطريقة أكثر رداءة، من قبل الصناعات الفنية: وبكلمة أخرى، أن "الخياطة الكبرى العظيمة الأناقة" بدعة النزعة المضادة للإنسانية تؤثر على الإنتاج الجماهيري. والشيء الثاني هو: أن الفن الذي يتجاهل الحاجات الجماهيرية، بقلق، ويتباهى بأنه مفهوم فقط من بعض النخبة، ليفتح السبل إلى فيض التفاهة التي تنتجها صناعة التسليات. وبقدر ما ينسحب الفنانون والكتَّاب من المجتمع، ينشرون على الجمهور من نتائجهم الغبي. إن "الشراسة الجديدة" التي مجَّدها بعض مدَّعي الفن، بوصفها صفة رائعة من صفات الفن الحديث، قد وجدت لها في الواقع مجالاً حراً في سوق المجتمع البورجوازي الراهن.


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق