المجتمع والأسلوب

لقد حاولت، بإيجاز كلي، أن أبيّن بواسطة مثال، كيف تظهر مجموعة مواضيع جديدة، وأشكال تعبير جديدة، وأسلوب جديد، في أعقاب التبدلات التي تطرأ على المحتوى الاجتماعي، ولكنني على وعي تام من أنني مضطر إلى تبسيط الموضوع كثيراً. ذلك لأن المحتوى الاجتماعي الجديد لا يُعبر عنه مباشرة أبداً، بل يُعبر عنه بطريقة غير مباشرة، وكل محاولة لإدخال علم الاجتماع في الفن، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار هذه المسيرة المنحرفة، لكي لا تصبح تافهة ومتطيرة. وإني سأكتفي هنا بطرح عدة عناصر للتحليل، وعدة أسئلة ستبقى دونما جواب: لماذا اتخذ الفن القوطي هذه الأشكال الخاصة، كالزوافر، والقباب المتشابكة؟ ولماذا تحولت الصورة ذات البعدين إلى صورة ذات ثلاثة أبعاد؟ ولماذا اختلطت عوامل اجتماعية تكنيكية وإيديولوجية لكي تخلق أسلوباً جديداً؟
إن أرنولد هوسر في كتابه الأخّاذ حول "فلسفة تاريخ الفن" يطرح أسئلة من هذا النوع، فيقول:
"ما هو السبب الأول في الانتقال إلى الفن القوطي؟ ومَن من الاثنين ظهر قبل الآخر، القباب المصلّبة، أم فكرة التأليف العمودي؟ وهل وجد بناة الكاتدرائيات القوطية مفهومهم العمودي انطلاقاً من الوسائل التي أصبحت مهيأة من أجل تحقيقها، أم أن رؤية جديدة للعلو، مع الشعور القوطي بالتعظيم، هي التي فرضت على الفنانين الوسائل الضرورية لنقل هذه الرؤية إلى الحجر والزجاج؟".
إنه لينبغي علينا أن نبحث عن الأجوبة في دراسات الاختصاصيين، أمثال هوسر، لأن أفضل العلماء يخطؤون أحياناً في تقديم أجوبة دقيقة كل الدقة، وذلك لأن الأسباب كثيرة، وهي تتداخل فيما بينها بشكل وثيق، وإنه ليصعب الحكم على الفترة التي تحولت فيها التبدلات من كمية إلى كيفية. ولذلك، نستطيع أن نوافق على رأي هوسر عندما يقول:
"إن الانتقادات التي وجهت إلى تاريخ الفن الاجتماعي، بوصفها منهج تفسير، نجمت، خاصة، عن كون ما يُنسب إليه من أهداف ليس بالإمكان بلوغها. إن أكثر أنواع التاريخ الاجتماعي خطأ سيبحث عن تمثيل نموذج خاص للفن، بوصفه التعبير المتجانس، المفحم والمباشر لشكل خاص للمجتمع. إن فن عصر معقد تاريخياً لا يمكنه إطلاقاً أن يكون متجانساً، لا لسبب إلا لأن مجتمع مثل هذا العصر ليس بمتجانس؛ وليس بمقدوره أن يكون أكثر من التعبير عن طبقة اجتماعية، وعن فئة من الناس ذوي المصالح المشتركة؛ وهو يظهر، في وقت واحد، من الاتجاهات الأسلوبية المتباينة، بقدر ما يوجد من مستويات ثقافية مختلفة في المجتمع المعني".
ولكن، بما أن الطبقات الاجتماعية هي الأكثر ديمومة، والأكثر نشاطاً بين هذه "الفئات من الناس ذوي المصالح المشتركة"، فإن للحاجات ولوسائل التعبير الفنية منشأها الطبقي (بالرغم من أنه علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن الطبقة الاجتماعية ليست قلعة بدون نوافذ، وإنه حتى الطبقات المتنازعة تؤثر إحداها على الأخرى بشكل متبادل، وأن الأشكال والاتفاقات المعدَّة من قبل طبقة قديمة سائدة، يمكن أن تؤثر جميعاً على الطبقات الجديدة الصاعدة، وإن ثمة تبدلات وتطورات قد حصلت داخل الطبقة الواحدة) إذن، إن هوسر على حق حين يقول: "إن التاريخ الاجتماعي للفن يؤكد ببساطة (وهذا هو شكل التأكيد الوحيد الذي يستطيع هذا التاريخ أن يبحث عنه ويظهره) أن أشكال الفن ليست أشكالاً مرئية أو شفهية، نابعة من وعي فردي، بل هي أيضاً التعبير عن مفهوم للعالم المحدد اجتماعياً".
ونضيف نحن قائلين بأنه، حتى الأشكال "المرئية أو الشفهية" للتجربة الفردية، لا تولد بشكل مستقل عن التطور الاجتماعي. وإن أشكال الرؤية أو السماع الجديدة ليست مجرد نتيجة تقدم، أو صفاء مدارك حسية، وإنما هي أيضاً وقائع اجتماعية جديدة. فالنغم مثلاً، وضجيج المدن الكبرى يحركان ضروباً عديدة من الرؤية والسماع؛ فالفلاح لا يرى المنظر الطبيعي كما يراه ساكن المدينة، الخ... غير أنه من النادر أن تنعكس الظروف الاجتماعية في الفنون بشكل مباشر؛ كما أن الأشكال والأفكار الفنية الجديدة، لا تتوافق تماماً مع محتوى اجتماعي جديد.
ولكن، أليس ما نسميه "بالأسلوب"، هو التعبير المنتظم في الفن، لعصر، ولمرحلة اجتماعية؟ أليس "الأسلوب" ذاته، هو المعترف به في وضع عام يتناول الأزياء أو السياسة، والأخلاق، والطباع، والموسيقى، والشعر؟ أليس "الأسلوب" هو التعبير، الأقل التباساً، عن مجتمع ما؟ وإذا ما عالجنا ظاهرة الأسلوب، في بادىء الأمر، ندرك بأن مجموعة أشكال واتجاهات قد قبلها فنانون من مختلف الأوساط والأمزجة، وكأنها قانون يخضعون له طواعية. وهكذا يدخل عنصر جماعي في إنتاج الفرد؛ وعلى الرغم من أن الآثار الفردية يمكن أن تختلف فيما بينها من حيث موهبة الفنان وأصالته، فإن هذا العامل المشترك، الصعب التحديد في الغالب، لعامل معترف به. وقد استنتج النظريون الذين يتذوقون الميتافيزيك، إن الفن هو "جهاز عضوي" عجيب، وإنه "جسم حي" مستقل عن الشروط الاجتماعية التي تتطور وفق قوانينه الخاصة: أو أنه يتطور متنقلاً من أشكال بسيطة، إلى أشكال أكثر تعقيداً باستمرار (دونما اهتمام بمعرفة ما إذا كان هذا الانتقال يدخل في تناقض مع التطور الاجتماعي) أو أن لهذا الفن حياة خاضعة لدورة دائمة من الفتوة والشيخوخة، ومن الولادة والموت، برغم أن كل "دورة ثقافية" تنتج فناً جديداً كل الجدة ومستقلاً، يمرّ عبر المراحل التي يمرّ بها فن "الدورات الثقافية" السابقة. إن كل تطور في الفن، حسب مثل هذه الافتراضات، لمسألة شكلية فقط، وتطرح قضايا داخلية للفن ذاته: فالأسلوب ليس نتيجة التغيرات الاجتماعية، والإنجازات الفردية، بل هو قدرة مستقلة تحكم كل شيء. وهكذا، فإن الفنان، وحاميه، والجمهور الذي يستهلك إنتاجه، هم جميعاً الأعضاء التنفيذية للفن؛ لقد خلق الفن بمساعدتهم جميعاً، إلا أنه يفرض عليهم قوانينه الخاصة أيضاً. وإذا ما كانت هذه الفكرة صحيحة، فيجب أن يكون لكل عصر تاريخي أسلوب موحد تماماً، بصفة كون الأسلوب جوهراً إلهياً ليست الآثار الفنية سوى صفات له. ولكننا إذا ما درسنا مختلف عصور تاريخ الفن، أدركنا أن تطور الفنون في مرحلة محددة، إذا كان يرمي إلى تماثل الأسلوب، فإن هذا الاتجاه يصبح دوماً عرضة للمفادة من قبل اتجاهات معاكسة. ولقد تقدمت بعض فروع الفن، فيما تأخرت الفروع الأخرى؛ وكان ثمة فنانون متطرفون في فرديتهم، وقد ناهضوا الأسلوب العام السائد؛ كما أن حركات مختلفة تناقضت وتداخلت، وإن عناصر متنافرة قد تقاتلت أو تداخلت (كالواقعية مثلاً والنزعة المتسامية في الفن القوطي). فاللوحة هي في الواقع أكثر تعقيداً وتناقضاً مما ينص عليه مبدأ وحدة الأسلوب المطلقة.
ليس بمقدور أحد أن ينفي قدرة ديمومة الأشكال والمفاهيم القديمة. وللفنانين رغبتهم الشرعية في ألا يتناولوا كل شيء من البداية، بل في أن ينطلقوا ثانية من نقطة معروفة، وأن يكيفوا أسلوباً موجوداً بشيء من الجدة. فإذا ما أردنا معرفة أسلوب عصرنا ينبغي ألا ننظر إليه بمعزل عن غيره، بل من خلال مجمل تاريخ الفن، بوصفه لحظة من لحظات التطور التاريخي؛ وهذا ليس صحيحاً بالنسبة للفن وحسب، بل بالنسبة لجميع الظاهرات الاجتماعية أيضاً. إن الظهور المفاجئ لمجموعة من الموضوعات، وبالتالي، لمفاهيم فنية جديدة، (مثلاً، ظهور الإنسان أثناء العمل في الفنون) أو المنجزات الأصلية لفنانين أمثال جيوتو، ألغريكو، بروغل، غويا أو دومييه لا يمكن شرحها بصفتها تطوراً "عضوياً" أو مستقلاً عن الفن. غير أن هذه النظرية ستنهار عندما تحاول تفسير التجليات الموقتة للواقعية في الفن، وكسوفاتها، لأنها تتجاهل بإصرار واقع كون الفن المتحذلق مرتبطاً بالأنظمة الأرستقراطية، وأن الفن الواقعي مرتبط بالحركات الشعبية، وأن الملحمة قد انحدرت بانحدار عصر الفروسية، وأن الرواية قد كبرت مع البورجوازية، وأن الموسيقى المتعددة الأصوات قد ماتت بموت النظام الإقطاعي، وأن الموسيقى المتماثلة الصوت قد تطورت مع العصر البورجوازي، وهكذا دواليك. وسيكون من الخطأ الفادح، في فهم طبيعة الفن، التأكيد على أنه لا توجد فيه قضايا شكلية، وإن كل القضايا مرتبطة، مباشرة، بالأوضاع الاجتماعية. ولكن هوسر على حق حين يقول:
"إن الخطر الأكبر الذي يهدد تاريخ الفن، والخطر الذي كان معرضاً له منذ ما وضع اتجاه رييغل في التأريخ قواعد منهجيته الحديثة، هو أنه يصبح مجرد تاريخ أشكال وقضايا...
إن هذه القضايا، وهذه المهمات لحقيقية تماماً؛ وهي ليست بمخترعات ولا تخيلات منهجية، وعلى كل تاريخ علمي للفن أن يكشفها ويحلها... فالآثار الفنية، لم توضع دائماً من أجل حل هذه القضايا وهي تظهر في غضون عملية الخلق لتجيب على أسئلة ليس لها سوى علاقة بعيدة بالقضايا الشكلية والتكنيكية، وعلى أسئلة تتعلق برؤية العالم، وبسلوك الحياة، وبالإيمان والمعرفة".
فإذا ما حللنا المنجزات الفنية في عصر ما، يجب علينا، إذن، أن نأخذ بعين الاعتبار، القضايا الأسلوبية والشكلية، وقضايا الأسلوب السائد، كما أنه ينبغي لنا أن نلاحظ أيضاً الانحرافات بالنسبة لهذا الأسلوب؛ وعند تحليلنا لتاريخ الفن، ينبغي ألا نعتبر الفن ككل مجهول، بل بصفته عمل فنانين فرديين، بكل ما لديهم من مواهب وتطلعات خاصة. ويجب علينا أن ندرس بشكل خاص، الظروف الاجتماعية والحركات والنزاعات في هذه المرحلة، والعلاقات ونضالات الطبقات، والأفكار التي تنجم عنها، سواء أكانت دينية أو فلسفية، أو سياسية، من أجل رؤية فن هذه المرحلة ضمن إطار حقيقي، لا تخيلي. وينبغي لنا أن نحترز من أن نقرأ في كل أثر فني، وفي كل عنصر أسلوبي، التعبير المباشر الوحيد الوجه لطبقة أو لوضع اجتماعي. كما يجب أن نحرص على ألا نحكم على أثر كاتب أو فنان، أو موسيقي، متسائلين عما إذا كان "تقدمياً" أو "رجعياً" (ذلك لأن الاثنين قد يختلفان كما لاحظ لينين في تحليله لتولستوي، ولأن قضية النوعية بالتالي، يجب أن تؤكد في أي حكم كان). ولكننا إذا لم نطبق علم الاجتماع على الفنون، وإذا لم نبحث في الأسباب الاجتماعية لتبدلات الموضوع والشكل والمحتوى، فسنجد أنفسنا في ضباب من النظريات التجريدية والجمالية والشكلية، وجدّ بعيدين عن الواقع. إن تحليل الأسلوب، مهما كان ذكياً ونقيّاً في معالجة القضايا والتفاصيل الخاصة يبقى عرضة للفشل، إذا لم يعترف بأن المحتوى (أي العنصر الاجتماعي في نهاية الأمر) هو العامل الحاسم في تشكيل الأسلوب في الفن.


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق