أنور الرحبي في معرضه الأخير

27 04

شاعراً وموسيقياً

يقول «كالفن يونغ» وهو فنان جوّاب ومكتشف إنه سأل أعرابياً هرِماً من عرب الأهوار (جنوب العراق) عما وقع إليه من تاريخ أسلافه فيها، أجاب الاعرابي «لا أعرف منذ متى نحن هنا، ربما -كما أعتقد- إن قبيلتي نزحت إليها من الأرض اليابسة المحيطة بالأهوار منذ عشرات الأجيال التي مضت، وأعتقد أنه لم يكن آنذاك وقبله في الأهوار غير الطيور والبهائم السارحة».
بهذه المقاربة، تساءلتُ، إلى أي مدى تعامل أنور الرحبي مع الخزين الثقافي والموروث البيئي بأدوات غير تلك التي ألفناها، كخلفية للعمل الفني باعتبارهما (أي الخزين والموروث) وجوداً مادياً وشيئاً ذاتياً معاً؟ ثم لِمَ تَعامل مع الخاصية اللونية كحالة خاصة ترسم صورة المفردة شعرياً، ثم وصلت التعبيرية عنده إلى درجة التساوق والتناسب بين المسافات والمساحات الميلودية الهارمونية بين اللوني والزمني؟ وهل لذلك معطى؟
لست مغالياً إذا قلت إن ما تركه معرض الفنان التشكيلي أنور الرحبي الذي أقامه منذ فترة في صالة الشعب، كان كبيراً في تأثيره عليّ: تأثيرات قادتني إلى كومة من الأسئلة مثل تلك وأخرى ثم رمَتني تحت وقع موسيقا التشكيل تارة أو القصيدة اللوحة تارة أخرى، ذلك أنه صنع نظاماً جمالياً فريداً من خلال اتجاه فني اختطه لنفسه بوضوح، مازجاً فيه بين مدارس فنية مختلفة وحالات تعبيرية وصلت حد التجريد، لكنه تجريد غير مختزل فالتراث مادته الأولى، ترجمه بإبداع بين فعّال ومنسي في لوحة يقف الناظر أمامها حائراً بفعل صدمة الإدهاش والتلقي وهو يركز على الخواتم والنايات والدفوف والهباري والشال، وأحلام الليل الفُراتية ونسائمه، وعادات وتقاليد اجتماعية، ولأن التراث مادته الأولى فهو يلعب دور المحفز في الشكل واللون والإيقاع ويأخذ لنفسه مكاناً مهماً في وعي الفنان ويصبح القوة الدافعة لأحلامه، ويسمو إلى مرتبة الحاجة التي ولدته في فكرة التشكيل.
يتحرك الرحبي في هذا المعرض في نطاق عالمين عالم التجربة الحسية وعالم التجربة الضاغطة بعنف، هما العالمان اللذان يصنعان مجمل العملية الإبداعية، لذلك حاولت استجماع لوحات المعرض محاولاً إعادة ترتيبها ذهنياً وحسب الحالات التي ذهب إليها الفنان نفسه في واقعه وأحلامه وأوهامه.
المفاجأة لم تكن فقط في وحدة ترابط الموضوع، وإنما بوجود وحدات قياس مسافات ما بين لون ولون مساحياً وإيقاعياً وما بين رؤية ورؤيا، وما بين لذة وانتشاء حالة، وجيثوميتها، وهذا الشعور نادراً ما يتوفر عنده أو يحس به متلق للتشكيل، وإن وجد ذات الشعور بدرجة أكبر في الموسيقا والشعر.
يثبت هذا الأمر أن الرحبي الإنسان والفنان متصالح مع ذاته، على الأقل في هذه المرحلة، رغم وجود مؤشرات فنية على غليانه الداخلي بتأثير الفعل الموضوعي، إنما هذا الإحساس بالتصالح وبالغليان، أحياناً، نتاج قراءة منطقية لمنجزه الإبداعي من خلال التعبير الصادق، القوي، المؤثر. أليس غريباً أن يرسم تشكيلي قصيدة لم يقرأها أو يعزف لحناً موسيقياً لم يحلل جملته؟!
هل تمعن أحدكم في لوحة «بروفيل بالأزرق»؟ وهل رأى اللون الأبيض موضع خواتم قديمة انتزعتها الحبيبة؟ هل قرأ الرحبي وأنتم معه قصيدة الشاعر «وتشير إلى بنصر، نزعوا خاتم الحب عنه، فموضعه، أبيض مثل جرح قديم»؟
هل رأيتم لوحة «نساء بالأرجواني والأخضر»، شعر إحداهن بالأخضر؟ هل شاهدتم لوحة«امرأة بالأخضر والأزرق»، انعكاس الأخضر على البشرة والشعر؟ وهل شاهدتم بعض الوجه والشعر في «بروفيل بالأخضر»؟ هل شاهدتم الأخضر في «طوق الحمامة»؟
أنا متأكد تماماً من أن أنور الرحبي كسر نافذة قلبه، ولملم الضوء والوهم وهو يصنع قصيدته التشكيلية «عينان ذاهلتان. وشعر من الآبنوس، قد اخضر من بلل الليل. والتمعت خصلة منه فوق الجبين»، هذه الحالات المتحركة بين الشكل الفني واللون والقصيدة الشعرية، تعني أن الفنان سعى على نحو حثيث للبحث في الميدان البصري، انطلاقاً من حالة حسية، خاصة، ربما لا شعورية، قادته إلى اكتشاف أنماط من الكثافة التعبيرية في مساحة من إنتاجه: أنماط بصرية ذات صلة بالشعر والموسيقا اللونية فيصبح الأخيران (الشعر والموسيقا) مساحة ثانية، كيف؟
في اللوحات التي سميناها، يمكن للمتلقي ذي الخبرة أن يقيس كثافة الأخضر ومساحته بالنسبة إلى الأزرق أو الأرجواني أو الأحمر «نساء بالأرجواني والأخضر» وليقِس الأحمر والأرجواني والأزرق والأسود في «ليلة الحناء» وليقس الأخضر والأزرق والأبيض في «امرأة الأخضر والأزرق»، كذلك في «اعتقال سمكة»، وغيرها، سيجد المتلقي مساحات لونية متناغمة ومتتالية يمكن أن تشاهَد كل مساحة على حدة باستمتاع مدهش كما يمكن مشاهدة جميع المساحات مع بعضها، الأمر هنا يتعلق بالتحليل الموسيقي أكثر من اعتباره تحليلاً مشهدياً للوحة تشكيلية فثمة وحدة قياس للمسافات والمساحات بين علامة موسيقية وأخرى تسمى فاصلة، والفاصلة نوعان: الأول فاصلة لحنية ميلودية وهي تقيس المسافة بين علامتين وتُسمعان الواحدة تلو الأخرى، والثاني الفاصلة الهارمونية وتقيس المسافة بين علامتين وتُسمعان مع بعضهما البعض.
لقد استخدم الرحبي الألوان الأحادية والمركبة على حد سواء وبتناسب واضح وهنا ينشأ الإيقاع ببُعديه اللوني التشكيلي والموسيقي (انظر لوحات نساء بالأرجواني والأخضر، امرأة بالأحمر والبرتقالي، ذكريات مسروقة، اعتقال سمكة» فمن الأحادي البسيط إلى المركب ثمة سلسلة من الاهتزازات البصرية التي يقيس أبعادها الدماغ (الأبيض مكون من عدة ألوان متسلسلة) وهو ما يسمى موسيقياً سلسلة النغمة التوافقية، حيث يصعب تمييزها تشكيلياً وموسيقياً على العين والأذن غير المدربتين.
بهذه الفنتازيا النقدية يمكن القول إن ثمة اتجاهات قادت الفنان إلى مساره التشكيلي في هذه التجربة المهمة من حياته الفنية: تجربة داخلية، معبر عنها بالصمت قادته إلى الموسيقا التشكيلية، وتجربة خارجية معبر عنها بالبوح قادته إلى القصيدة التشكيلية والتجربتان شكلتا مدخلاً للبحث عن أنظمة متماثلة أو متقابلة بين الصوت الداخلي والتناغم اللوني وإيقاعاته البصرية، وبين النبضات الموسيقية الصوتية اللونية الموازية لها، أنتجت هذا التحول الحسي إلى المرئي التشكيلي.


البعث

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق