تل براك

يقع تل براك الأثري في سورية على بعد 40 كيلومتراً شرق مدينة الحسكة، وعلى بعد ثلاثة كيلومترات عن وادي نهر جغجغ أحد روافد نهر الخابور، عند التقائه برافد وادي الرد. ويعتبر هذا التل من أكبر التلال الأثرية في شمالي سورية إذ تبلغ أبعاده 800×600 متراً، ويرتفع عن سوية السهل المجاور بمقدار 43 متراً. وهو من أكبر مراكز المدنية المبكرة في الهلال الخصيب، ويرجع اسمه إلى ما قبل العصر الروماني غالباً، إذ أن الرومان سموا بحيرة كانت بقربه ببحيرة براك. تحيط بالتل مجموعة من التلال الصغيرة، تعود بتاريخها إلى عصر أوروك وصولاً إلى العصر الروماني، وعثر على سطحه على كسر فخارية تعود إلى 6000 سنة قبل الميلاد تقريباً، ويبدو أن الموقع استوطن آنذاك واستمر الاستيطان فيه حتى الألف الأول قبل الميلاد.

تشير المكتشفات التي عثر عليها في تل براك والمواقع المجاورة، إلى أن الموقع يخفي داخله مدينة نغر (أو ناجار القديمة Nagar) التي كانت من أهم المدن في شمالي سورية في الألف الثالث قبل الميلاد، وكانت تحتل الموقع نفسه مثل مدن كيش وماري في قوائم محفوظات إبلا.

لقد كان تل براك من أهم المواقع الحضارية في الألف الخامس قبل الميلاد، إذ شهد حضارتي حلف والعبيد، إلا أن الطبقات المتزامنة مع زمن هاتين الحضارتين وجدت متوضعة تحت طبقات الألف الرابع والثالث قبل الميلاد، وهذا يدل على أهمية الموقع في عصور ما قبل الكتابة.

شهدت حضارة أوروك نشوء المدن وأصول الكتابة، وكان يعتقد أن موطن هذا الإنجاز الحضاري جنوب بلاد الرافدين، إلا أن لدينا من الشواهد ما يدحض هذا الاعتقاد، فقد كشفت التنقيبات سوراً ضخماً للمدينة وبوابة تعود إلى بواكير الألف الرابع قبل الميلاد، كما تم العثور على كتابات تصويرية أقدم من عصر أوروك نفسه. وقد وصلت مساحة الموقع، في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد إلى 100 هكتار (عصر أوروك الوسيط)، وبذا تكون مدينة تل براك إحدى أقدم مدن العالم قاطبة، ويشير مخططها وأبنيتها وثروتها من الذهب والعاج، إلى نظام مدني متطور سبق نشوء الكتابة نفسها.

وتشير المكتشفات من معابد (أهمها معبد العيون الشهير) وسلسلة من المعابد مشيدة فوق مصطبة عالية أحدثها لا يتعدى 4000 ق.م، إلا بوقت قصير، وتمثل أقدم معابد بلاد الرافدين مع ملحقاتها من المخازن، إلى تقدم واضح من الناحية المعمارية، كما عرف تل براك في أواخر عصر حضارة أوروك صناعة الأختام، وطبعات سدات الجرار الفخارية، بالإضافة إلى صناعات معدنية وأدوات صوانية وأدوات من حجر السبج. وحين حلت حضارة "جمدة نصر" محل حضارة أوروك في جنوبي بلاد الرافدين استمرت حضارة أوروك في تل براك، وتابعت تجارتها بالمعادن والمواد الأخرى التي نقلت من الأناضول، وكان من أهم المواد المستوردة النحاس، في حين كان الصوف السلعة المفضلة محلياً في الألف الرابع قبل الميلاد.

واستمر تفوق حضارة تل براك وتقدمها في ظل بروز حضارة نينوى، إذ تشير الرقم المسمارية المكتشفة في إبلا، وتل بيدر، أن تل براك تبوأ أوج ازدهاره السياسي في الألف الثالث قبل الميلاد، وتفيد رقم إبلا أنه نحو العام 2400 ق.م كانت "نَغَر" من أهم مدن سورية الشمالية المشهورة بتربية الخيول المهجنة، التي دفع سكان إبلا أثماناً باهظة في سبيل الحصول عليها. وفي عام 2330 ق.م تقريباً، فتح صرغون الأكادي بلاد سومر، وشنّ هجوماً عسكرياً شاملاً من إيران إلى الفرات، وادعى أنه دمّر إبلا، وبذلك يمكننا القول أن صرغون وحفيده نارام سن قد تمكنوا من تأسيس أول امبراطورية عبر التاريخ، وقد جعل نارام سن أو ابنه من تل براك عاصمة المنطقة.
أما في الألف الثاني قبل الميلاد فقد ازدادت مساحة المدينة، ويبدو أنه في العصر الميتاني (أواخر عصر البرونز) احتلت المدينة الخارجية أراضي شمالي التل. وقد عثر في بيوت هذه الحقبة على فخار من نموذج "نوزي" و"الخابور" كما عثر على معبد وقصر من العصر الميتاني كانا يحويان نصوصاً مسمارية، وقطعاً من الحديد والنحاس والزجاج والعاج. وقد سجل على نصين من الألواح المسمارية قسَمٌ قاطع، بحضور الملكي تواشرتا و أرتاشومارا وعلى كلا النصين الختم الملكي للملك ساوستتار. ويستفاد من النص الأخير أن "نغر" كانت تلفظ "نوار Nawar" في نهاية الألف الثالثة وبداية الألف الثانية قبل الميلاد، وكانت تقع في مقاطعة المدينة الميتانية المهمة "تعيدو (تئيدو)".

وفي بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد حوصرت تل براك مرتين، مرة من قبل الملك الآشوري أددنيراري الأول والمرة الأخرى من قبل الملك الآشوري شلمانصر الأول وكانا قد دمرا القصر والمعبد بما فيهما. على إثر ذلك خفت حضور تل براك، ولا يوجد علمياً ما يشير إلى وجود آثار تعود إلى أواخر العصر الآشوري، وتعزى بعض اللقى الأثرية هنا وهناك إلى الآراميين، بالإضافة إلى موقعين رومانيين يقعان أسفل تل براك، أحدهما قلعة، والآخر قرية صغيرة، إضافة إلى مخاضة رومانية تعبر وادي جغجغ بالقرب من تل براك.

ابتدأ الاهتمام بالموقع الأثري عام 1930 عندما عثر المهندسون الفرنسيون في الموقع على تمثال بازلتي، وهو معروض الآن حالياً في متحف اللوفر في فرنسة، وقام بيير بواديبار الذي كان مسؤولاً عن تصوير المواقع الأثرية من الجو بنشر مقال عنه، ونفذ أسباراً في التل ليتأكد من موقع التمثال في الأصل. ومن عام 1937 إلى عام 1938 نفذ الإنكليزي ماكس مالون Max Malon تنقيباته وعثر على معبد العيون الشهير والمؤرخ في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، وقد عثر داخل المعبد على مذبح متقن الزخارف، كما كشف عن قصر الملك الأكادي نارام سن. ومنذ العام 1976 قامت بعثة إنكليزية بإدارة ديفيد أوتس مع زوجته David and Joan Oates بالتنقيب في الموقع، حيث انصب جهدها على دراسة معالم المدينة في الألف الثالث قبل الميلاد، خلال الحكم الأكادي، وفي الثمانينات ركزا اهتمامهما على تاريخ المدينة خلال الحكم الميتاني، وصولاً إلى الكشف عن طبقات الألف الرابع قبل الميلاد، أي عصر حضارة أوروك، حيث كانت تل براك في ذلك العصر من أكبر المدن في غربي آسيا. ووفقت البعثة في الحصول على مكتشفات عدة، منها منشأة من آخر عصر العبيد أواخر الألف الخامس قبل الميلاد والطور شبه الكتابي (أواخر الألف الرابع)، ومنها معبد أكادي من الألف الثالث، وقصر ميتاني من القرن الخامس عشر ق.م. ومن آثار التل الهامة زجاج وفخار من نموذج مدينة نوزي ورقم ميتانية هامة، إضافة إلى أختام أسطوانية ميتانية. ومن الملفت للنظر العثور على قوالب صغيرة من الحجر لصب النحاس 7×7سم، وأيضاً بعض المنحوتات والدمى والأسلحة، والتي نشاهدها في المتحف البريطاني ومتحف حلب.

لقد نبعت أهمية تل براك من موقعه الجغرافي، المتحكم بالطرق التجارية المنطلقة من جنوبي بلاد الرافدين إلى بلاد الأناضول شمالاً، وإلى الفرات والبحر المتوسط غرباً، وشهد التل تطوراً لافتاً في مختلف المجالات الحضارية منها والتجارية والعمرانية وخصوصاً في مطلع الألف الرابع قبل الميلاد وصولاً إلى نهاية الألف الثالث حيث تشهد الأبنية المكتشفة على تطور معماري كبير. بينما تشير اللقى الأثرية الفريدة إلى نظام إداري دقيق في عصر الإمبراطورية الأكادية، وبذلك يكون تل براك المركز المهم الثاني إضافة إلى تل موزان، من العصر الحوري- الميتاني، وقد استمر السكن في التل حتى العصر الروماني، مما يدل على أهميته الاستراتيجية.


Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

باسل درويش:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . يعد الموقع بصفة عامة ممتاز ، وأتمنى لكم التوفيق

سورية