البلوريات

من المعلوم أن البلّوريّات تملك الشكل الأكمل في الطبيعة المعدنية كلها. وعندما ننظر إلى هذه التشكيلات المذهلة التنظيم، الرائعة الشفافية، وعندما نتأمل دقة فتنتها، وجمالها الصارم، يمكننا بالتأكيد، التوصل إلى التفكير بأن المادة المعدنية تتروحن بذاتها، إذا جاز التعبير، بالغة بذلك درجة من الكمال منزّهة عن العيب. إن المراقب الساذج القليل الإدراك، قد يجد نفسه محمولاً على النظر إليها كالنظر إلى الآثار الفنية ذات الطبيعة الخلاقة، أو ذات القوة الإلهية الخلاقة. وبتعبير آخر، يستطيع أيضاً أن يقرأ في ذلك نية مقصودة. إن عملية الإغراء هذه لكبيرة بحيث لا يستطيع هاوي الجمال أن يركز انتباهه حول البنية البلورية لكل الأجسام الصلبة، وهي في الغالب غير واضحة تماماً، إلا أنه يركز انتباهه حول نخبة قليلة من البلوريات "النبيلة" بشكل خاص. وهكذا سنسمع بعض أتباع المدرسة الكلامية الحديثين، يقولون بأن البلوريات هي "تجسيد للرياضيات"، وأن البنية الذرية لا علاقة لها بالبلور، وأن التناسق عائد، لا إلى الخصائص الذرية التي تشكل جسماً بلورياً، بل إلى شبكة بلورية، لا مادية، وميتافيزيقية، وأن هذه الشبكة البلورية موجودة "ما وراء كل مادة"، وأنها تمثل "مبدأ النظام المكوِّن"، وأن الشكل حاضر بوصفة "فكرة"، و"رغبة في الكمال" في كل جسم بلوري. ويقولون لنا أيضاً بأن البلور "يستهلك" الجوهر؛ وأن البلور الممتاز يمثل البلور المثالي كأنقى ما يكون في الواقع؛ وهو بالفعل متجانس تماماً "وهو في الخارج شكل واضح، وفي الداخل وحدة متباينة"، وليست الذرات في داخله سوى مجرد "كمون" لا بوصفها واقعاً. فهل هذا المفهوم الميتافيزيقي ينطبق على الواقع؟ وهل الطبيعة المعدنية خاضعة، حقاً، "لمبدأ شكلي" أوتوقراطي؟ وهل الشكل يخلق البلور فعلاً؟ أو بعبارة أخرى، هل الشكل البلوري هو الذي تمده ذرات من مادة لها خصائصها الخاصة بها؟
إننا لنجنح إلى أبعد من إطار هذا الكتاب، إذا ما حاولنا هنا، أن نستعرض بشكل كامل نسبياً، اكتشافات علم البلوريات الحديث. ولكننا سنقتصر على ذكر بعض أمثلة مميزة. إن البنية الذرية المطابقة لجسم بلوري، هي التي تحدده قبل كل شيء، دون أن تكون لها علاقة ببنية هذا الجسم. ويستطيع العلماء الحديثون المختصون بدراسة البلور، أن يتكهنوا في الغالب، حول البنية البلورية لمركب كيميائي معين بناءً على خصائص ذراته. فلنأخذ الألماس، هذه المادة الباهرة التألق، المكونة من عنصر الكربون الذي هو أكثر العناصر غرابة وتنوعاً. إن بنية الألماس، التي تشكل فيها كل ذرة كربون مركز مجسّم مربع الوجوه tétraédre مكوَّن من أربع ذرات متلاصقة، تطابق بالتمام بنية الكربون مع كهاربه المتكافئة الأربعة. وفي حالات أخرى، جرى التأكيد، من وجهة تجريبية، على أن التجمع الجزيئي للذرات ينطبق على البلوريات. فالبلور يمكن اعتباره كجزيئة لا متناهية مبدئياً، أو بالعكس، يمكن اعتبار الجزيئة جسماً بلورياً. ومن جهة أخرى، ليست الشبكة المكانية المحددة بشكل مسبق وميتافيزيقي، هي التي تحصر كل ذرة بمكانها داخل الجسم البلوري، بغية تحويله فيما بعد إلى "كمون" خالص، أو إلى وهم. إن تنظيم الذرات المنسّق تحدده، بعكس ذلك، خصائص هذه الذرات؛ وما يسمى بـ"الشبكة" لا يعني مجرد علاقة خاصة في المكان بين ذرات معينة. وكل تبدل في الجوهر، ينعكس فوراً بواسطة تبدل في الشبكة.
إن هذه الشبكة، أو بتعبير أدق، هذا التركيب المنظم لمجموعة ذرات، ليس بالتأكيد سكونياً. فهو لا يمثل مبدأ نظام ميتافيزيقي متصلب. إن ذرات الجسم البلوري ليست ساكنة، بل هي في حالة حركة ارتجاجية. وكل حالة من حالات هذه الحركة تطابق درجة من الحرارة. وبقدر ما تكون درجة الحرارة مرتفعة، تزداد حركة ومتوسط مسافة الذرات في الشبكة البلورية. إن اتساع expansion الشبكة البلورية إنما هو اتساع النظام البلوري بأجمعه. وهذه الظاهرة تحصل ضمن اتجاهات مختلفة، وعلى درجات متباينة وفق بنية الجسم البلوري، بحيث ينتج عن ذلك تبدل في شكل هذا الجسم. وفي لحظة معينة، عند درجة الذوبان، أو عند درجة الانتقال من حال إلى أخرى، تتحول الكمية الى كيفية، ويتبدل شكل البنية البلورية، أو يختفي بشكل نهائي.
فما هو إذن، مبدأ هذا النظام، المحدد سلفاً من وجهة ميتافيزيقية، والذي يتبدل بتبدل خصائص المادة، ودرجة الحرارة الخ... والذي يعجز عن أن يفرض شروطه، وهو نفسه خاضع لشروط مادية؟
في بعض الحالات، تنتقل المادة من حالة مختلة مضطربة إلى حالة منظمة، والعكس بالعكس. وعلاوة على ذلك، وفي بعض الظروف التي ليست روحية، بل على العكس، هي مادية تماماً، فإن نظام الذرات يتحول. وهذه التبدلات التي تحصل نتيجة عملية تدرج، إنما تحصل فوراً: ثمة جزيئات من المادة تنتقل فجأة من حالة فوضوية إلى حالة منظمة. ولنراقب مثلاً عملية تبلور المواد السائلة. فهي جميعاً في حالة غير محددة بين ما هو سائل وما هو بلوري، شريطة أن لا تكون أصغر جزيئات المادة غير مشحونة كهربائياً. ففي الكحول الميثيلي méthylique وفي بعض مشتقات البنزين، تتشكل مجموعات منظمة وتتبعثر بشكل دائم؛ إن هذه لعملية تبلور لا تنتج بلوريات ثابتة. وكذلك الحال بالنسبة للماء؛ فكثافته الضعيفة تشير إلى أن بعض الطاقات تعرقل الكثافة العليا للضغط الجُزيئي (وهذه هي الخاصة المميزة للسوائل). وقد دللت المراقبة بواسطة أشعة إكس على أن ثمة ميلاً في الماء الى الانتظام المربع الوجوه مثل الجزيئات الشبيهة بذرات السيليسيوم الموجودة في الصوان. ولكن الماء عندما يتحول إلى جليد، أي إلى جسم بلوري، ثابت، فإن هذه الذرات تنتظم وفق مبدأ بنيوي مختلف كل الاختلاف.
فالبلور، إذن، ليس شيئاً "منتهياً" أو "نهائياً"، وهو ليس بتجسيد "لفكرة" الشكل الصلب، وإنما هو النتيجة العابرة لتحولات الظروف المادية المستمرة. إن عمليات الانتقال من المادة غير البلورية الى المادة البلورية، والعكس بالعكس، لسهلة المراقبة في الأنيدريد الكاربوني anhydride carbonique الذي يتحول إلى بلوريات في درجة منخفضة من الحرارة. ولكن الجزيئات التي تشكل الشبكة البلورية، تحافظ على حركة محورية، حتى في حال درجة حرارة منخفضة، الأمر الذي يعني أنها مستعدة دائماً على تكييف نظامها. وفي مركّب من كاربون وأربع ذرات من الهيدروجين، تتخذ هذه الذرات بعض الأوضاع في درجات من الحرارة أقل من 18 درجة سنتيغراد، إلا أنها تستمر في تذبذبها. وفي درجات حرارة تزيد على 8.22 فإن هذه الذرات الهيدروجينية تكمل حركات محورية، تفسِد أكثر فأكثر، بقدر ما تزداد، نظام الشبكة البلورية، وتجعله يختفي بشكل نهائي.
فما هي إذن، خاصة هذه الذرات التي تسمح لها باتخاذ نظام ما، في ظروف ما؟ إن لكل ذرة في جسم بلوري دائرة عملها، وحاجاتها المكانية، التي ليست ثابتة في كل الأحوال: وليس المقصود هنا، بتعبير آخر، "مبدأ نظام" ميتافيزيقي؛ فهي تتغير عندما تتغير الظروف، وتخضع لقانون التفاعل الجدلي. فالشحنة الكهربائية في الذرة تلعب دوراً هاماً. كما أن دائرة عملها، بالتالي، تكبر وفق ما يسمى بعلامة التنسيق التي تُعبِّر عن عدد الذرات، أو الأيونات الملاصقة والموجودة حول الذرة. وهذا العدد يمكن أن يتراوح بين 1 و12. ولم تُعرف، بعد، ذرات مُحاطة بأكثر من 12 ذرة؛ ولهذا فإن علامة التنسيق (12) تعبّر عن أعلى "كثافة ذرية" تميّز العناصر المعدنية. وبمقدار ما تكون علامة التنسيق مرتفعة، تكون دائرة عمل الذرة كبيرة؛ وبعبارة أخرى، بمقدار ما يرتفع عدد الذرات الملاصقة، تزيد الحاجة إلى الطاقة من أجل أبعادها. إن لعلامة التنسيق تأثيراً حاسماً على البنية البلورية. وإننا نلاحظ أيضاً بأن الجسم البلوري مكوّن، لا من شبكة بلورية خالقة للشكل وغير مجسدة، بل من خصائص ذراته ومن تفاعلاتهما. فالذرات، والأيونات، مع مجالاتها المكانية تشكل الشبكة البلورية؛ فالمادة تبني الشبكة، والتالي، تبني البلور ذاته.
ولكن، ما رأينا بتناسق البلوريات؟ وهل تتضمن تفسيراً آخر سوى "إرادة الشكل" العجيبة، وغير مبدأ النظام الميتافيزيقي هذا؟ بالنسبة للميتافيزيقيين، لا يُعتبر التناسق، مع الأسف، من "خلق الشبكة البلورية"، بل يتوقف على خصائص كل جوهر خاص. وبصرف النظر عن الرغبة في "مناقشة كل أشكال التناسق الممكنة في عالم البلوريات، تحسن الإشارة إلى أن كل جوهر يتبلور في نظام من التناسق الخاص، وأن عدد أنظمة التبلور هذه 32 نظاماً فقط. وهذا ما يحمل عل القول بأن التناسق الخاص بجسم بلوري، هو وثيق الارتباط ببنيته الذرية. ويمكن الزعم، أنه حتى في حال قيام مثل هذا الارتباط، فإن واقع وجود أشكال التناسق الصارم في عالم البلوريات، يبرر الفكرة القائلة بأننا أمام "تجسيد للرياضيات"، مع قانون غير مادي للأشكال. صحيح أن ثمة علاقات عادية منظمة تدير عالم البلوريات، وأن ثمة ذرات مماثلة موجودة دائماً في نُسب من التواتر مماثلة، وأن بعض التنسيقات هي وحدها ممكنة، وأن كل التنسيقات يمكنها أن تعبّر عن ذاتها بمعادلات عديدة بسيطة. وكل من يرى سراً خفياً، ويجد مبرراً للإيمان "بالغائية" وبعلل غائية، أو بمقاصد فنية من جهة الطبيعة، أو من جهة طبيعة عليا، ينبغي له أن يحاول تصور عالم بدون قوانين منظمة، أو بدون نظام محدد من التفاعلات... وسيكتشف أن مثل هذا العالم لا يمكن أن ينوجد إلا في مخيلته. إن كل وجود إنما هو بحد ذاته وجود نوعي خاص، أي أنه نظام من التفاعلات الخاصة. وأن ترتيباً معيناً للذرات لا يمكن أن ينوجد إلا لأن كل ذرة بحاجة إلى كمية معينة من المكان، أو بحاجة الى دائرة عمل ما تتعلق بطاقتها الكامنة فيها.
إن وجود ترتيب خاص للذرات، يوجب على الذرات تشكيل مجموعات ذات نسب من التواتر خاصة ضمن توازن خاص من قوة الجذب والدفع، على أن تكون هذه النُسب من ذات الطبيعة الرياضية التي تشكل الأشعة الموجهة (Vecteurs) وقادرة بالتالي على التعبير عن ذاتها بأعداد طبيعية. إن الطبيعة لا تخضع لقوانين الأشعة الموجهة الرياضية، ولكن الأشعة هذه هي على العكس، التعبير على علاقات طبيعية. وما نسميه بتنسيقات، إنما هو مكوّن بالدقة من سلسلة من النُسب المنظمة، أي من علاقات خاصة بين ذرات معينة. إن هذه التنسيقات تنطبق على عالم البلوريات، لا لأن الرياضيات قد قررت ذلك، بل لأن خاصة الذرات الطبيعية هي تشكل مجموعات ذات نسب تواتر معينة، ضمن شروط معينة. وقبل أن تتمكن الرياضيات بمدة من أن تحسب كل التنسيقات الممكنة، كان ثمة طبيعة تنتج هذه التنسيقات ابتداء من خصائص الذرات. وليست الرياضيات هي العنصر الأول، بل الطبيعة.


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق