قطنا

يقع تل المشرفة (مدينة قطْنا القديمة) على بعد 18 كيلومتراً تقريباً، إلى الشمال الشرقي من مدينة حمص، وسط سهل خصيب وفسيح، بين بادية الشام ووادي نهر العاصي، ويلاحظ وجود انحدار خفيف لهذا السهل باتجاه الشمال.

وقد بدأت أعمال التنقيب الأولي في تل المشرفة على يد بعثة فرنسية بإدارة الكونت الفرنسي روبير دومنيل دوبويسّون، الذي قاد هذه الأعمال في الثلاثينات من القرن العشرين، ولمدة أربعة مواسم امتدت من عام 1924 إلى عام 1929 باسم متحف اللوفر. ونتج عن ذلك اكتشاف القصر الملكي الكبير، وبعض الرقم المسمارية وغير ذلك من اللقى الأثرية.

بعد ذلك استملكت المديرية العامة للآثار والمتاحف هذا الموقع وتم نقل سكان المشرفة إلى مكان قريب، قبل أن تبدأ عام 1994 أعمال التنقيب والترميم والصيانة والتأهيل السياحي بإدارة بعثة مشتركة سورية ألمانية إيطالية يقودها ميشيل مقدسي، ودانيل موراندي و بيتر بفلْتسنر. حيث استمر الكشف عن القصر الملكي والأوابد المعمارية الضخمة والقبور الملكية الغنية. وتتابعت دراسة السويات الأثرية القديمة التي وجدت في الموقع وتعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد.

تعود أقدم السويات الموثقة حتى اليوم في موقع المشرفة إلى عصر البرونز القديم في منتصف الألف الثالث ق.م، وهي معاصرة عملياً لفترة الازدهار لكثير من المدن والتجمعات البشرية في سورية في مختلف المناطق. وتدل المعلومات الموثقة في أرشيف "مملكة ماري" على أن مملكة قْطنا ازدهرت في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد في عصر البرونز الوسيط (2000 – 1600 ق.م)، حين أُعيد تأسيسها وفق مسقط منتظم وضخم، لكي تصبح عاصمة مملكة قطنا الآمورية، التي احتلت مكانة مرموقة بين الممالك الآمورية في سورية، وسيطرت بحكم موقعها الجغرافي على الطرق التجارية الرئيسية بين الأناضول شمالاً وفلسطين ومصر جنوباً، ومن بلاد ما بين النهرين شرقاً إلى ساحل المتوسط غرباً. وكان لها دور أساسي في التحالفات العسكرية والسياسية للسيطرة على البادية ومناطق سورية الشمالية. وعلى الأغلب فإنها قد سيطرت على وادي العاصي الأوسط، وتشير النصوص المكتشفة أنها كانت ذات شأن عظيم وضاهت في نفوذها مملكة بابل أيام حمورابي.

برزت الأهمية الاستراتيجية والسياسية لهذه المدينة، حين قامت المملكة الآشورية القديمة تحت حكم شمشي- حدد الأول بتأسيس علاقات دبلوماسية وتجارية ومصاهرة وثيقة مع ملك قطنا إشخي – حدد في نحو منتصف القرن الثامن عشر ق.م، وغالباً ما تحالفتا ضد مملكة يمحاض في حلب. وقد شكلت مملكة قطنا في عصر البرونز الحديث في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد مملكة محلية كانت غالباً ما تقع ضمن مناطق النفوذ المتنازع عليها بين المصريين والحثيين. ثم طرأ تحول كبير على طبيعة الموقع في عصر الحديد في الألف الأول ق.م، وما زال تاريخ الموقع في تلك الفترة مجهولاً وغائماً رغم التعرف على سوية معاصرة لمملكة حماة الآرامية، تتألف من مجمع معماري كبير قد يكون لقصر ملكي يحيط به العديد من الكتل المعمارية التي تعود إلى مساكن ومشاغل حرفية، ويبدو أن المدينة قد خسرت دورها الحضاري والسياسي عندما قام الملك الآشوري صرغون الثاني نحو 720 ق.م بتدمير مدينة حماة وإلحاق كامل مناطق العاصي الأوسط بالمقاطعات الآشورية. هُجر الموقع بعد ذلك وبقي خالياً من الاستيطان تقريباً، إلى منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأ القرويون ببناء بيوتهم داخل حدود الأسوار الضخمة للمدينة القديمة، وقد تم إخلاؤهم منها حالياً تسهيلاً لأعمال التنقيب.

يتألف الموقع الذي يشكل مسقطاً مربع الشكل، من سور ضخم يتراوح ارتفاعه بين 15 و 20 متراً، يتقدمه خندق عريض وساتر ترابي مرتفع. وثمة أربعة أبواب في المدينة موزعة على أضلاع السور المختلفة، حيث تسيطر المدينة المرتفعة على جميع أجزاء الموقع، وتتألف من تلة مركزية مرتفعة من الناحية الشمالية، وتنتهي بمنحدر، وتحيط بها المدينة المنخفضة، وهناك تلة أخرى في الزاوية الجنوبية الشرقية من المكان، حيث تشرف على قسم من أراضي المدينة المنخفضة، وفي القسم الغربي من المدينة يقوم القصر الملكي المؤلف من باحات ضخمة وعدد كبير من المخازن التي تحوي أعداداً كبيرة من الجرار الفخارية. كذلك فقد تم الكشف عن المدافن الملكية المحفورة ضمن الصخر، والتي كانت تضم الكثير من البقايا الفخارية والأدوات البرونزية. بالإضافة إلى معبد سيدة قطنا الذي وجدت فيه مجموعة كبيرة من الرقم المسمارية المحررة بالأكادية – البابلية، وتعد من الوثائق الهامة عن النشاط الدبلوماسي والوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في سورية خلال النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد.


Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق