فعاليات اليوم الثاني من ندوة : القدس في التاريخ
محاضرات متنوعة وطاولة مستديرة حول تاريخ القدس القديم

18/كانون الأول/2009

شهد اليوم الثاني من ندوة «القدس في التاريخ» يوم الأربعاء 16 كانون الأول 2009 نشاطاً مكثفاً، إن من حيث عدد ونوعية المحاضرات أو من حيث الطاولة المستديرة التي اشترك فيها عدد من أهم العلماء في الدراسات التاريخية والآثارية التي تتناول فلسطين القديمة. وتميزت الطاولة المستديرة بنقاش ممتع ومداخلات إضافية من قبل السادة الباحثين والمهتمين حول تاريخ القدس القديم، ومدى أحقية ما تقوم به إسرائيل اليوم من بحث محموم لتثبيت حقائق لم يقم لها أي أساس علمي أو مادي.

الجلسة الأولى: القدس في التاريخ القديم وعلاقاتها مع الشعوب المجاورة
بدأت الجلسة الأولى لليوم الثاني باكراً في التاسعة صباحاً من نهار الأربعاء وكانت برئاسة الدكتور منذر الحايك، وتناولت الجلسة علاقة القدس بالشعوب المجاورة لها في الأزمنة القديمة وتعامل المدن والممالك العظمى في تلك الفترة مع هذه الحاضرة الآخذة بالنمو، وآليات تشكل المدن-الممالك والإمبراطوريات العظمى في الفترة ما قبل الهيلينية.

وقد افتتحت الجلسة بمحاضرة للأستاذة حياة إبراهيم محمد -مديرة متحف ديالى- والتي تحدثت فيها عن «القدس في المدونات العراقية القديمة»، وتخلص بحثها في بيان سياسة الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني الذي حكم بين عامي 605 و562 ق.م تجاه حتي (أو خاتي) كما وردت في المدونات الآشورية والبابلية، وهو مصطلح كان يطلق على كل سورية آنذاك والتي كانت تضم 22 مدينة كبيرة بما فيها القدس، حيث لم يرد اسم القدس في هذه النصوص إنما ورد اسم مملكة يهوذا التي كانت عاصمتها أورشليم (القدس)، حيث تحدث النص المسماري البابلي المحفوظ في المتحف البريطاني (تحت رقم B.M 21946) عن الحملات العسكرية التي شنها ملك بابل تجاه هذه المملكة.

كما تحدث الدكتور طالب منعم حبيب الشمري -قسم التاريخ بجامعة واسط- في محاضرته «النفوذ الآشوري في فلسطين من حكم تجلات بليزر الثالث حتى سقوط الدولة الآشورية 745-612 ق.م» عن علاقة الدولة الآشورية في عهد الإمبراطوري بفلسطين حيث يجب أن تعالج هذه القضايا بدون تجزئية بل بشكل شامل لتلك الحقبة التاريخية. وبين المحاضر أن هدف محاضرته هو تسليط الضوء على طبيعة النفوذ الآشوري في فلسطين وتبيان مواقف الملوك الآشوريين من مملكتي يهوذا وإسرائيل ونفوذهم وسيطرتهم على تلك المنطقة اعتماداً على حوليات الملوك الآشوريين التي أظهرت قيامهم بسلسلة من الحملات العسكرية مما يسلط الضوء على تلك الحقبة المهمة من تاريخ فلسطين القديم.

أما الدكتور عيد مرعي -أستاذ التاريخ في جامعة دمشق- فتناول في محاضرته «القدس (أوروشاليم) ونبوخذ نصر الثاني ملك بابل» ما فعله نبوخذ نصر الثاني أهم ملوك بابل من أجل تثبيت النفوذ البابلي في سورية من خلال حملات عسكرية متعددة على هذه المنطقة وخصوصاً في قسمها الجنوبي فلسطين. ففي العام 597 ق.م قام بمحاضرة أوروشاليم واحتلالها بسبب تحالف ملكها مع المصريين ورفضه دفع الجزية، ونصب ملكاً آخر موالياً له، وساق الملك المخلوع مع أفراد حاشيته ونحو ثلاثة آلاف من سكان المدينة أسرى إلى بابل. وفي العام 586 ق.م أغار مرة ثانية على المنطقة وبعد حصار لأوروشاليم دام ثمانية عشر شهراً سقطت المدينة بيده، فقبض على ملكها وهجر معظم سكانها إلى بابل، حيث بقوا هناك إلى أن سمح لهم الملك الفارسي قورش الثاني بالعودة في العام 538 ق.م. مع ملاحظة أن سياسة تهجير السكان من مناطقهم الأصلية كانت سياسة متبعة في ذلك الحين على نطاق واسع، وقد استخدمها الآشوريون والحثيون.

وتناولت الدكتورة مارغريت ل. شتاينر -الأستاذة في جامعة روتردام بهولندا- موضوعاً مهماً في محاضرة بعنوان «القدس في عصري البرونز والحديد: الدليل الآثاري»، تقول فيها أن الدلائل الآثارية لا تدعم فكرة أن جيروساليم كانت مشغولة بشكل متواصل من العصر البرونزي المبكر وما تلاه. بل تظهر أن الاستيطان تميز بتاريخ متقطع مع فجوات كبيرة في عصري البرونز الأوسط والمتأخر، مما يجعل من الصعب الموازنة بين الدليل الأدبي من جهة والدليل الآثاري من جهة أخرى.

ثم تطرق الدكتور إنغولف تيوسن -جامعة كوبنهاغن بالدانمارك- إلى تبلور ظهور المدن-الممالك في سورية في محاضرة بعنوان «المدينة-الدولة في عصر الحديد في المنطقة الفلسطينية السورية» حيث تحدث عن تبلور عدد من الممالك في المنطقة الفلسطينية السورية بعد انهيار المملكة المصرية والإمبراطورية الحثية، حيث أن هذه الممالك تركزت حول البلدات الكبيرة أو المدن. ويقدم الدكتور تيوسن تحليلاً لهذه الحالة في سورية وفلسطين ويعطي مثالاً مدينة حماة كنموذج لتشكل المدينة- الدولة في تلك الفترة.

واختتمت الجلسة الأولى بمحاضرة للباحث السوري الدكتور زياد منى التي تناول أصل اسم فلسطين في محاضرته «الاسم (فلسطين) في التاريخ القديم» حيث استعرض نماذج من عمليات التزوير التي قام بها بعض المستشرقين في محاولة لتزوير آثار فلسطين بدءاً من القرن الأول للميلاد وحتى القرن الحادي والعشرين.

الجلسة الثانية: القدس وفلسطين في معيار النصوص القديمة
ركزت الجلسة الثانية من اليوم الثاني من الندوة على القدس وفلسطين في ضوء النصوص القديمة التي تم اكتشافها في فلسطين وسواها من بلاد المشرق القديم، ومشكلة التزوير والتحريف الذي تتعرض له هذه النصوص لفرض نظرة معينة على تاريخ هذا الشرق، وكانت الجلسة برئاسة الدكتور حسن المبيض، واتسمت بالغنى في المعلومات والتركيز على مواضيع جدلية قيد البحث المستمر.

حيث تحدث الدكتور عماد سمير في محاضرة بعنوان «إبلا وتزوير التاريخ القديم» عن المحاولات التي تعرضت لها رقم إبلا المسمارية عن طريق طرح قراءة مشوهة لهذه الرقم تتلاءم مع الروايات التوراتية بهدف طمس الهوية العربية للمنطقة وإلحاقها بتلك الروايات. وذلك من خلال قراءة أولية خاطئة لمحتوى بعض النصوص المسمارية، تربطها بشكل أو بآخر بالنصوص التوراتية.

أما محاضرة الباحث السوري الأستاذ كمال راغب الجابي «القدس وصهيون وكتاب الزبور» فقد استعرضت التحولات التي طرأت على مدينة القدس منذ أن كانت تحت سلطان اليبوسيين الكنعانيين في القرن الخامس قبل الميلاد وحتى الوقت الحالي الذي تحاول فيه سلطة الاحتلال الإسرائيلي إزالة المعالم المسيحية والإسلامية المقدسة فيها وإقامة هيكل سليمان على أنقاضها.


وتناول الباحث السوري الأستاذ فراس السواح مسلسل التزوير الإسرائيلي للآثار والنقوش في الأرض الفلسطينية من خلال محاضرة بعنوان «نقش يهوآش ومسلسل تزوير الآثار في إسرائيل» وتحدث المحاضر عن أهمية آثار موقع أورشليم في القرن العاشر قبل الميلاد بسبب الجدل الحاد بين الباحثين حول تاريخية المملكة الموحدة لكل إسرائيل تحت سلطة ملوكها الثلاثة: شاؤول وداوود وسليمان. حيث تظهر الاكتشافات الآثارية الحديثة تناقضاً مع الرواية التوراتية حول هذه المملكة وعظمتها واتساعها. مما جعل المتمسكين بهذه الرواية يهللون لنقش ظهر في سوق الآثار في إسرائيل أثار حوله جدلاً كبيراً حول كونه يشكل إثباتاً لوجود هيكل أورشليم وتاريخية المملكة الموحدة. وعرض الأستاذ السواح صورة للنقش مع ترجمة للغة العربية والتحقيقات التي أظهرت زيف النقش في نهاية المطاف.

أما وثائق قمران فكانت موضوعاً لمحاضرة الدكتور فيصل عبد الله -أستاذ في قسم التاريخ بجامعة دمشق- والتي أتت بعنوان «مشكلة وثائق قمران والغليان الفكري في القدس في طور نشوء المسيحية»، وتحدث الدكتور عبد الله فيها على ضرورة التعرف على واقع الاحتلال الروماني في القدس قبيل وأثناء ظهور المسيحية، وكذلك العادات والتقاليد والطقوس والشعائر الدينية المسيحية المنحدرة من اليهودية وأجواء التبدلات التي أخرجت التجديد المسيحي في وسط الاحتلال الروماني والسكان الآراميين الفلسطينيين ومذهب اليهودية. وكل هذا يفضي بنا إلى فهم أكبر لطبيعة وثائق قمران التي اكتشفت منذ منتصف القرن الماضي في موقع قرية قمران في كهوف صخرية مطلة على البحر الميت ومخبأة في جرار فخارية. مما يساهم في تعميق فهم الدور الفكري والديني الذي عاشته القدس في طور نشوء المسيحيين.

أما الدكتور مأمون عبد الكريم -الأستاذ في قسم الآثار بجامعة دمشق- فقد تحدث عن إعادة تأسيس المدن الفلسطينية في العصر الروماني في محاضرة بعنوان «إعادة تأسيس المدن: القدس، القيصرية، بيسان خلال العصر الروماني» حيث شهدت المدن الفلسطينية خلال العصر الروماني تطوراً معمارياً واضحاً تمثل بمخططات تنظيمية أنشئت بأيدٍ معمارية محلية كالشوارع الرئيسية والأسواق والساحات العامة والمعابد والمسارح والحمامات. ومن أهم تلك المدن الفلسطينية القدس التي تعد من أقدم مدن العالم، وعرفت قديماً باسم يبوس ثم أوروشالم نسبة إلى شالم إله السلام عند الكنعانيين، وقد تعرضت المدينة للدمار في القرنين الأول والثاني للميلاد بسبب الحروب التي دارت بين الجماعات اليهودية والرومان، ثم قام الإمبراطور هادريان بمنحها اسم إيليا كابيتولينا في القرن الثاني الميلادي وإعادة إعمارها من جديد. ومن المدن الهامة الأخرى قيصرية على الساحل وبيسان التي ازدهرت في العصر الروماني.

وكان ختام الجلسة مع الدكتورة إيما لوسلي -الأستاذة في جامعة مانشستر في بريطانيا- التي تناولت الآثار المسيحية المقدسة في الفترة الإسلامية المبكرة في محاضرة بعنوان «من قسطنطين إلى الحكيم: نشوء واستخدام الكنيسة من الآثار المقدسة في الفترة الإسلامية المبكرة» حيث تحدثت المحاضرة عن فترة السلام التي سادت مدينة القدس في فجر الفترة الإسلامية مع قدوم الخليفة عمر شخصياً إلى المدينة لحماية مواقع العبادة المسيحية الرئيسية والسماح بحرية العبادة ضمن المدينة. وهدف البحث هو محاولة استنتاج أي نوع من الصرح كان أساس الموقع الذي قامت عليه كنيسة الأماكن المقدسة منذ زمن بعيد.

وشهد مساء الأربعاء 16 كانون الأول طاولة مستديرة حول الدراسات التوراتية للقدس على ضوء حقائق علم الآثار أحياها العالمان الآثاريان الشهيران الدكتور توماس تومسون والدكتور فيليب دافيس، شهدت نقاشاً ضافياً وغنياً حول تاريخ القدس القديمة ومدى تماشيه مع التاريخ المزيف الذي تحاول الصهيونية المعاصرة فرضه على علم التاريخ. وقد أفردنا لها – لأهميتها – تغطية مستقلة خاصة.


محمد رفيق خضور
تصوير: عبد الله رضا
اكتشف سورية

طباعة طباعة Share مشاركة Email

المشاركة في التعليق

اسمك
بريدك الإلكتروني
الدولة
مشاركتك