عزمي بشارة : ضرورة قيام حوار أكاديمي حر بين الباحثين والمؤرخين لإعادة كتابة التاريخ

16/كانون الأول/2009

في الجلسة الافتتاحية للندوة الدولية «القدس في التاريخ»، التي تقيمها المديرية العامة للآثار والمتاحف، والتي اُفتتحت صباح الأربعاء 15 كانون الأول 2009 في القاعة الشامية في المتحف الوطني بدمشق، قدَّم الدكتور عزمي بشارة محاضرة حول القدس، حيث ابتدأ قائلاً: «في الحقيقة، أنا لست اختصاصياً في التاريخ أو الآثار بل مهتم بالحاضر، وأضع الموضوع بسياقه الحاضر مع بعض الانعكاسات النظرية. وسأتحدث هنا عن التاريخ الحاضر (الدنيوي) للقدس لكي نضع الأمور في سياقاتها مع بعض الملاحظات الفكرة حول الموضوع. ولأن المؤتمر أكاديمي، أرتأيتُ أن أطرح ورقة كتبتُها منذ 12 عاماً في ألمانيا، ولكن الكثير من الملاحظات الواردة فيها تصلح اليوم».

وتابع الدكتور بشارة حديثه عن الفكر الأسطوري في كتابة التاريخ وقال: «لا شك أن تفنيد الأسطورة يكون بالبحث في نشأتها وكتابة تاريخ الوقائع كمقابل لها، ولا شك أن الأيديولوجيا تتحكم في سردية التاريخ، وتتجلى في تقسيم الزمان، فهذا التقسيم مدفوع بعوامل أيديولوجية». وشرح الدكتور بشارة كيف تتجلى هذه العوامل من خلال إظهار تقسيم التاريخ بحيث يبدو أنه تاريخ جماعة عرقية أو دينية بعينها منعزلاً عن بقية العناصر المكونة للتاريخ مما يشير إلى نظرة أحادية في قراءة الحقائق والوقائع، وهنا أكد الدكتور بشارة ضرورة قيام «حوار أكاديمي حر بين الباحثين والمؤرخين، لا لمجرد الكشف عن حقائق، بل لأن التاريخ كتب من وجهة نظر طرف واحد فتم انتقاء الوقائع وتسخيرها في خدمته». وتابع: «لقد اكتشفنا وما زلنا نكتشف أن الدول تكتب تاريخاً من وجهة نظرها، وكأن هناك تاريخاً مضمراً يجري اكتشافه شيئاً فشيئاً».

ثم تحدث الدكتور بشارة عن البنية المعرفية للأسطورة قائلاً: «فالأسطورة تعبر عن حكاية شعب وليست تاريخاً بمعنى الكلمة، وكل حكاية أسطورية تمنح معنى للجماعة البشرية من حيث أصلها وتاريخها، ولأنها إيمانية فالنقاش حولها يبقى أكثر صعوبة. وإذا ارتبط التاريخ المقدس بالدين نفسه، فسيتم التعامل مع الكتب المقدسة كأنها تاريخ، والحل لهذه المعضلة هو فصل التاريخ المقدس عن التاريخ الدنيوي الذي يحاول العقل البشري اكتشافه بطرقه العلمية الحديثة. ويبقى التاريخ المقدس يمنح الأفكار والعبر، أما السياسة فهي حالة دنيوية تتضمن مزيجاً من القوى والمصالح، وفي كل صراع دنيوي يقترب التاريخ المقدس من التاريخ الدنيوي».

ثم انتقل الدكتور بشارة منطلقاً من هذه المقاربة الفكرية للحديث عن موضوع القدس فقال: «ولكن لا يقترب التاريخ المقدس من الدنيوي كما في مسألة القدس، حيث ساهمت القصص والنصوص المقدسة التي أثرت على جيل من المستشرقين والمؤرخين الذي تعاملوا مع هذه النصوص كأنها تاريخ وبحثوا عن وقائع ووثائق تثبتها، فكانت النتيجة سياسات ترى سكان فلسطين طارئين على هذه الأرض، وآخرين هم سكانها الأصليين».

وتابع قائلاً: «بالنسبة لفلسطين، فهذه هي الاستراتيجية الأيديولوجية، وهي استعاضة عن حق مقدس بحق آخر، إنها استبدال التاريخ المعاش بتاريخ آخر يؤسس لقيام مجتمع آخر. وهذا التاريخ الموجود والمنتشر يستدعي رد فعل نقدي يقوم على تفنيد هذا الخطاب بوسائل علمية, ومن مهمة الجامعات والجامعيين إنتاج خطاب معرفي بديل في معارضة هذا الخطاب الأيديولوجي الذي يعتبر التاريخ المقدس تاريخاً حقيقياً».


الدكتور عزمي بشارة
أثناء إلقاء محاضرته

وتحدث الدكتور بشارة عن الصراع العربي الإسرائيلي حول القدس فقال: «إن هذه النظرة الأيديولوجية بالنظر إلى التاريخ المقدس على أنه حقيقي استدعت تاريخاً مقدساً آخر، يستثمر تراث الشعب وتاريخه ودينه في المقاومة. وهذا ليس سوى رد فعل على العجز العربي عن الفعل المباشر في التاريخ الدنيوي». ثم تناول موضوع الاستيلاء التدريجي على القدس من قبل المشروع الاستيطاني الصهيوني، والذي بدأ يأخذ أبعاده منذ العام 1967 بالسيطرة على القدس وما حولها وتوسيع حدودها لتشمل الجبل المقدس، وكل ما تستولي عليه إسرائيل يصبح مقدساً وغير قابل للتفاوض، وفي المقابل نجد تعبئة إسلامية حول القدس فالشعب الواقع تحت الاحتلال يحتاج للقدس كرمز لم يبقَ غيره كي يجمعه سوية.

ويرى الدكتور بشارة أن هذا التركيز حول القدس يضر بالقضية الفلسطينية أكثر مما ينفعها، فكل القدس هي حرم شريف وكل فلسطين هي القدس، وأشار إلى أن إسرائيل لا تعتمد على الأسطورة فقط، بل القوة العسكرية والمادية لتكريس واقع جديد للمدينة، ومن ولد في القدس قبل عام 67 ويزورها الآن سيجد قدساً أخرى.

وقد لخص الدكتور بشارة الخطوات التي اتبتعتها إسرائيل لتغيير واقع القدس ويمكن تلخيصها بالتالي:
1- اتبعت إسرائيل الآليات القانونية والإجرائية بتحويل القداسة إلى مفهوم سياسي.
2- تتبع الرواية التوراتية الإسرائيلية في كل حي وشارع.
3- توسيع حدود المدينة كي تشكل القداسة الإسرائيلية أكبر مساحة من الأرض.
4- مصادرة الأرض وتوسيع المستوطنات.
5- محاصرة العرب وتهجيرهم ومصادرة بطاقات الإقامة المسماة بطاقات الهوية منهم.
6- فصل المدينة عن الضفة الغربية بالحزام الاستيطاني والجدار العازل.

ثم كشف بشارة حقيقة أن إسرائيل لم تكن تجاهر بضم القدس الشرقية سابقاً كما تفعل الآن، ففي نص قرار ضم القدس عام 1967 تم التعبير عنه بالشكل التالي: «إن تلك المساحة من أرض إسرائيل التي يتم توصيفها بالملحق ستطبق فيها القوانين المثبتة في إسرائيل». ولم يذكر اسم القدس بتاتاً في تلك الوثيقة، ولكن في 30 تموز 1980 أقرت حكومة بيغن قانون أساس (دستوري) باسم قانون القدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأبدية، وقد طبقها في ظل اتفاقيات كامب ديفيد، وشرع في تنفيذها فعلياً عام 1993 حيث تم توسيع حدود القدس الإدارية إلى 130 كم مربع، وفي 2005 تم إقرار مخطط القدس الجديد حتى عام 2020 الذي تم توسيع حدودها الإدارية فيه حوالي 40%. وهكذا تحولت القدس الشرقية إلى أحياء عربية تحيط بها أكثر من عشر مستوطنات، إذ واجه سكان القدس شبكة من المؤسسات القوية والمنظمة والغنية بمفردهم.

وتحدث بشارة عن قانون أملاك الغائبين الذي صادر أملاك اللاجئين الفلسطينيين الذين شردوا من أرضهم، وقال أنه منذ عام 1967 استولت إسرائيل على 85% من أراضي القدس الشرقية التي كانت تحت الحكم الأردني، حيث تم التعامل مع سكانها كمهاجرين إلى إسرائيل منذ لحظة ضم القدس، حيث أن ولادة الفلسطيني في المدينة لا تمنع إبعاده عنها وسحب بطاقة هويته، حيث بلغ عدد السكان المقدسيين الذين حرموا من دخول المدينة عام 2008 فقط 4577 مواطناً. كما اتخذ قرار ببناء الجدار العازل بطول 88 كم حيث ألغى شوارع تاريخية من المدينة وحول القرى إلى معازل وأخرج من القدس حوالي 80 إلى 90 ألف من حملة بطاقة الهوية. وفي 11 آذار من عام 2008 قررت الحكومة الإسرائيلية تسجيل منازل مطوبة للفلسطينيين سابقاً عند حائط البراق (المبكى كما يسميه اليهود) لمواطنين إسرائيليين وأصبح اسم هذا القسم من المدينة الحي اليهودي.

وتحدث الدكتور بشارة في نهاية محاضرته عن أن كل هذه الإجراءات تهدف إلى تصفية قضية اللاجئين وتغيير ملامح القدس بشكل نهائي يصعب في المستقبل أي عملية مفاوضات حقيقية تهدف إلى إعادة الحقوق لأصحابها، بحيث يصبح الحديث عن كل إجراء شكلي مسألة حساسة تحتاج إلى مفاوضات بحد ذاتها.


الدكتور عزمي بشارة
يلقي محاضرته في الندوة الدولية: القدس في التاريخ

وفي جلسة النقاش، طالب الحضورُ من الدكتور بشارة تقديمَ رؤيته للحل فأجاب قائلاً: «أدعوكم للابتعاد عن طريقة التفكير الباحثة عن الحلول، ففي ميزان القوى الراهن لا يوجد حل إلا لصالح إسرائيل. فالمفاوضات ستنتج ترجمة لموازين القوى الحالية أو تخريجات لها، فالمفاوضات لا تولد حلول بل تطبيقاً لحلول. وميزان القوى الحالي لصالح المحتل ولا يؤدي لتوليد حلول. وإحدى العقبات الكأداء في المفاوضات التي تتحطم عندها الحلول هي القدس واللاجئون وعندها تتعطل الحلول حتى غير العادلة».

وتابع الدكتور بشارة: «الهدف الأمريكي-الإسرائيلي هو اختزال قضية فلسطين لإقامة دولة فلسطينية بدلاً من القدس. وبما أن لا استراتيجية مقاومة لتحرير القدس لدى العرب، فكل هذا التوجه هو لإيجاد مخارج لا توليد حلول. ولا مناص إلا أن يقوم ما تبقى من العرب الذين لم يوقعوا معاهدات سلام مع إسرائيل إلا أن يفاوضوا سوية، وعندما تتضح عدم نية إسرائيل في إقامة السلام، يجب على العرب عند ذاك مواجهة واجباتهم التاريخية».

ورداً على السؤال حول الموجة الجديدة من المؤرخين الإسرائيليين التي أخذت تتحدث عن القضية الفلسطينية بمزيد من النقد للمؤسسة الصهيونية قال الدكتور بشارة: «لا توجد في إسرائيل مدرسة اسمها المؤرخون الجدد، بل هم مقسومون من حيث مواقفهم السياسية، ولكننا نتحدث عن وجود إمكانية لدخول أرشيفات مختلفة إسرائيلية أو بريطانية، وبالتالي لا منهجية جديدة في كتابة التاريخ بل حقائق جديدة. كما أن المجتمع الإسرائيلي أصبح أكثر ثقة بنفسه ففسح المجال لمجموعة من المؤرخين كي تقوم بمراجعة نقدية لتاريخ إسرائيل. وهذا لا ينفي وجود تساؤلات أخلاقية حول مشروعية ما جرى لدى قلة من المؤرخين الإسرائيليين الذين يفككون الخطاب الصهيوني ويرفضون أن تكون أدواتهم العلمية أدوات تبرير للجرائم الصهيونية».


محمد رفيق خضور
ت: عبد الله رضا
اكتشف سورية

طباعة طباعة Share مشاركة Email

المشاركة في التعليق

اسمك
بريدك الإلكتروني
الدولة
مشاركتك