التجزيء

لقد عُبّر عن تجزيء الإنسان والعالم، في كثير من الحالات، خلال ما أنتج عصرنا من آثار. لم تبق ثمة وحدة، ولا كلية. ويقال بأن آرثور ميللر، في مجال مناقشته للمسرحية الأميركية المعاصرة، قال ما معناه: "أعتقد أننا، في أميركا، قد بلغنا نهاية تطورنا، لأننا نكرر أنفسنا سنة بعد سنة، ويبدو أن ليس ثمة من يلاحظ ذلك". وقد تحدث "عن مجال للرؤية يضيق"، وعن "سيطرة تتراخى"، وعن "عجز عن تقديم العالم بأسره على المسرح، وهذه من أسسه، الأمر الذي كان دائماً هدف المسرح العظيم... وبرغم أننا الآن عاجزون عن التمييز بين المفهوم الواسع وبين الموضوع الكبير والموضوع الصغير، فإننا نظل خاضعين للانفعالات المطروقة سابقاً".
إنه لعجز أن "يرى المرء الأشياء حسب أحجامها الحقيقية". وهذا عارض هام من أعراض الانحطاط. وهو نتيجة للموقف الذي لا يجرؤ، في الصراع القائم بين عالم قديم وعالم جديد، وفي انطلاقة الاشتراكية برغم جميع صعوباتها، أن يعترف بالشيء الوحيد الهام، الشيء الذي "سيهز العالم حتى أُسسه".
لكن مسألة التجزيء هي أوسع من ذلك. إنها وثيقة الارتباط بالمكننة وبالتخصص الحاد في العالم الحديث، وبالسلطان المرهق للآلات المجهولة، وبواقع كون الأكثرية منا مستغرقة بمهمات ليست سوى جزء ضئيل من عملية أوسع بكثير، ولسنا في وضع يسمح لنا بفهم معناها، وعملية اشتغالها. ولقد أدرك الرومنطيقيون، سابقاً، طابع تجزيء حياة المجتمع البورجوازي؛ وقد كتب هايني يقول: "إن العالم والحياة لمجزّآن بشكل فادح...". وقد كبر هذا الوعي بمقدار نمو الرأسمالية وقضاياها، إلى الحد الذي أوشك فيه العالم أن يبدو ركاماً من أجزاء بشرية ومادية، ومن رافعات وإبر، وتروس وأعصاب، وحياة يومية رتيبة، وإحساس شارد. إن التخيل الذي دمَّرته جمهرة من التفاصيل المتباينة، لم يبق قادراً على صهرها في كتلة واحدة. أما الشعراء الأوائل للعاصمة العصرية، أمثال إدغار ألن بو وبودلير، فقد لاءما بين خيالهما وبين الواقع المجزأ الذي يحيط بهما، محطمين العالم، ذهنياً، لكي يعيدا إليه نظاماً متماسكاً بكل قوة إرادتهما السائدة. وقد كتب بودلير يقول:
"إن (الخيال) يحلل الخليقة بأسرها، ومن المواد المجمّعة والمنظّمة، وفقاً لقوانين لا توجد جذورها إلا في أعماق النفس، يخلق عالماً جديداً".
وبرغم هذا المنهج التركيبي، فقد احتفظ شعر بودلير بمظهر كلاسيكي واضح. إن بنيته لمتينة، وشكله متماسك. وقد كان ريمبو أول من حطَّم الأشكال والبُنى التقليدية في الشعر:
"إن ثمة عصفاً يفتح ثغرات مريعة في الحواجز ـ يخلخل محاور السقوف المتآكلة ـ يبعثر حدود المنازل...".
وبقطعه علاقته بالواقع العادي، ابتنى الشعر الجديد له عالماً جديداً. وفي قصيدة "الزورق الثمل" تتتابع شلالات من الصور، وسيل لا أول له ولا آخر، يجرف حطام واقع محطَّم خارج البصر، وخارج الفكر:
"... يركض مرقّشاً بأقمار كهربائية صغيرة،
لوح مجنون، تواكبه أفراس بحر سوداء
عندما تصدّع حرارة تموز بضربات هراواتها
السماوات الناصعة الزرقة، ذات المداخن الملتهبة،
...
أنا من كان يرتجف، شاعراً بتأوُّه بيهيموت
وميلستروم عن خمسين فرسخاً
أنا من يغزل لحظات السكون الزرقاء
إني آسف على أوروبا وعلى الأسوار القديمة.
...
لقد رأيت مضائق ترصّعها النجوم!
وجزراً تفتح سماواتها الهاذية للمنجرف في التيّار:
أتنام في هذه الليالي التي بلا قرار، وتنفي ذاتك،
أيها القوة القادمة، لأنت مليون عصفور ذهبي!".
إن شعراً كهذا لم يكتبه أحد من قبل. حتى قصيدة بودلير الخارقة المسماة "الرحلة" لتبدو تقليدية إذا ما قورنت بمثل هذا التطرف، وتبدو أيضاً محافظة كمثل قصيدة جرت مجرى تقليد رونسار، أو راسين. إن المنهج الذي ابتكره ريمبو، والذي تتصادم فيه أجزاء عالم مفسَّخ، بهي وبشع، متألق وعادي، أسطوري وواقعي، في تعاقب خيالي، وفي جرأة العالم، من أجل خلق "عنصر جديد"، قد أحدث ثورة في ما كان يُفهم في الماضي بالشعر. إن الشعر الحديث، مع ما فيه من تركيب مقتطفات متنافرة، ومع ما فيه من لا معقول لا ينقطع، سواء كان ذلك يتعلق بريلكه، وبغوتفريد بن، وبعزرا باوند، وبإيليوت، وبإيلوار، وأودن، أو بألبرتي، غير أنه متحدّر بكامله من ريمبو. وأنها لحذلقة أكاديمية مدعية، أن نصرّ على البكاء على تحطيم القصيدة التقليدية، وعلى التخلي عن الشكل، هذا الهيجان الصادر عن التخيل الترابطي. لقد كان هذا التطور، بما لا يقبل الشك، ثمرة الانحطاط، ولكنه صحيح أيضاً القول بأنه أثار ثروة من الإمكانيات الجديدة ووسائل التعبير الجديدة أيضاً. لقد كان ماياكوفسكي، هو أيضاً، أحد محطمي الأشكال القديمة، وقد أثبت منهجه الشعري أنه ملائم تماماً للتعبير عن الواقع الثوري. وقد طبَّق برشت أيضاً منهج التخيل البنَّاء، برغم أنه أكثر اعتدالاً من حيث الشكل، مع الفارق في أن ذكاءه الشعري كان في خدمة ما هو عقلاني، لا ما هو غير عقلاني. ولكن هذه هي قضية موقف ذهني، شكلي. لقد ربط كل من ماياكوفسكي وبريشت وسائل التعبير الجديدة بمسألة الثورة وصراع الطبقات، وبذلك تخطيا عبثية التجزيء.


إرنست فيشر

ضرورة الفن

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق