الموضوع، المحتوى، المعنى

لقد حاولت أن أبيّن بأن مسألة المحتوى والشكل لا تتحدد بالفنون فقط، وإن الفكرة القائلة بأن الشكل هو الأول، وأن المحتوى هو الثاني، إنما هي ردة الفعل النموذجية لكل طبقة سائدة، عندما يصبح وضعها عرضة للخطر. فلنبحث الآن، في هذا الإطار العام، قضية المحتوى والشكل، مثلما تطرح نوعياً في الفنون، متذكرين أن للفنون قوانينها الخاصة، وقضاياها الذاتية المحددة اجتماعياً.
وينبغي لنا في بادئ الأمر، أن ننظر في مفهوم المحتوى في الأدب والفن. فهل هذا التعبير جد مبهم؟ وهل يتعلق بموضوع الأثر الفني أم بفكرته، أو هل يتعلق بمعناه أم برسالته؟ (ولكن، ربما كانت عبارة "رسالة" تفوح كثيراً برائحة الدعاية، وانه ينبغي لنا أن نتكلم عن مدلول الأثر الفني، هذا المدلول الذي لا يظهر في تفاصيل الأثر الفني وحسب، وإنما في مجمله أيضاً). وعلى الرغم من أن الموضوع غالباً ما يكون مشدوداً بالمعنى، إلا أن ذلك ليس هو الشيء نفسه. إن فنانين أو أديبين يستطيعان تفسير ومعالجة موضوع بطريقة متباينة، بحيث لا يكون لأثريهما كثير مما هو مشترك بينهما. إن اختيار الموضوع لشيء هام جداً بالطبع، وهو يسمح لنا غالباً بأن نحدد موقف الفنان أو الكاتب. ولقد كان غوته يعرف تماماً ما يفعل، عندما راح يختار مواضيع روايته "فاوست"، و"غوتز". لقد كانت مواضيع متصلة مباشرة بمرحلة حاسمة من التاريخ، قطعت ألمانيا بها صلاتها بالقرون الوسطى. غير أن المواضيع ذاتها يمكنها أن تتحمل محتوى متبايناً تمام التباين. (ويكفي أن نذكر بمعالجة موضوع "فاوست" لدى مارلو، وليسنغ، ولينو، وغرابي، ومان، وهانز ايسلر). فالموضوع وحده لا يحدد شكلاً خاصاً، ولكن المحتوى والشكل، أو بعبارة أخرى، المدلول والشكل يتحدان بشكل وثيق في تفاعل جدلي.
ولا يمكن أن يصبح الموضوع محتوى إلا من خلال موقف الفنان، ذلك لأن المحتوى لا يشكل ما عرضه الفنان وحسب، ولكن يشكل أيضاً الطريقة التي قدم بها هذا الشكل وضمن أي سياق، كما أنه يشير إلى درجة الوعي الاجتماعي والفردي فيه ـ إن موضوعاً كموضوع الحصاد، يمكن أن يعالج بشكل قصيدة غنائية رائعة، وبشكل لوحة شعبية تقليدية، وبمقتضى تجربة لا إنسانية، أو على طريقة انتصار الإنسان على الطبيعة: كل شيء يتعلق بمنظار الفنان، بواقع كونه يتطلع بصفته مدافعاً عن الطبقة السائدة، سواء كان سائحاً في يوم أحد مليء بالأحاسيس العاطفية، أو كان فلاحاً غضوب المزاج، أو اشتراكياً ثورياً.
كيف يتبدل مدلول الموضوع
لقد كان الناس، أثناء العمل، موضوعاً مستمراً في فنون مصر القديمة. وكانت الرسوم الجدرانية تمثل فلاحين يحرثون ويبذرون. كان الفلاح الشغيل بوجه عام، يصور طبقاً لوجهة نظر السيد. فعين السيد كانت تحط بحبور على الجموع التي تعمل من أجله. ولم يكن الفلاح موضوع نشاطه الخاص، بل كان أداة بالنسبة للمراقب الذي يعلم أن الغلة معدّة لأهرائه؛ وهذه الطريقة في الرؤية قد خلقت "الموضوعية"، الظاهرة في الفن المصري. فالطبقة السائدة تعتقد دائماً بأن طريقة رؤيتها الأشياء هي طريقة "موضوعية"، أو أنها، بعبارة أخرى، تنطبق على نظام العالم. فبالنسبة للسيد، لا يوجد فلاح فردي له حاجاته الخاصة؛ فهناك، فقط، فلاحون يشكلون وحدات اجتماعية ليس لها أي حق في التعبير، وتتمتع بوظيفة واحدة فقط، هي أشبه بمهمة الحيوان المركوب، أو المحراث. ولم تكن هذه الرسوم المصرية تبدي أي احتقار للعمل (مثلما أصبح ذلك فيما بعد في الأعمال الفنية الإغريقية) ولكنهم كانوا يعبّرون عن اليقين الثابت بأن لكل فرد مكانه المحدد، ووظيفته في الحياة، وإيمانه العميق "بالانسجام المفروض منذ البدء" في مجتمع منظم وفق قواعد الطبقة والطائفة. فالعالم هو على هذا النحو، وهذا شيء حسن جداً. وبمقدار ما تطور هذا الأسلوب، بدأ يظهر عنصر جديد (هو بالأحرى جد قديم، إلا أنه ألغي موقتاً من قبل الطبقة السائدة): هو ضرب من "النزعة الطبيعية" أفسد التمثيل الجامد "الموضوعي" للأثر الفني. وأخذ الشغيلة الممثلون في اللوحات، وفي الأفاريز، يبدون وعلى سيمائهم إشارات الألم الفردي والإنهاك. وظهرت شكوك اجتماعية بوضوح، وراح النسق المنمق يفسح المجال لأسلوب نقدي. وإننا لنقرأ في صفحة مكتوبة على ورق البردى مايلي:
"أأقول لك كيف يتحمل البنَّاء بؤسه؟ إنه عرضة لكل تقلبات الطقس عندما يشرع في البناء، وهو عار حتى الخصر. ذراعاه متعبتان من فرط الشغل؛ وغذاؤه مطروح بين برازه؛ وهو يفترس نفسه، لأن ليس لديه من الخبز سوى أصابعه. إنه منهوك القوى بشكل رهيب، لأن عليه أن يجرّ كتلة حجرية إلى هذا البناء أو ذاك، كتلة تتراوح بين ستة وعشرة أذرع، وهناك دائماً حجر كبير يجب نقله، خلال هذا الشهر أو في الشهر القادم، إلى أن يبلغ أعالي البنيان، حيث تعلق باقات أزهار اللوتس عندما ينتهي البناء. وعندما يتم العمل بأكمله، يعود إلى منزله إذا كان هناك من خبز، ليجد أطفاله مضروبين بشكل فظ أثناء غيابه".
إن شيئاً ما من روح هذا النقد الاجتماعي، والسخط، قد شاع في الفنون البصرية المصرية، وقد عبَّر عنه بشكل من الواقعية جد مؤثر. وهذا هو المجد الخالد للفن المصري، لكونه لم يخلق صروحاً للطبقة السائدة وحسب، بل لأنه اتخذ المضطهدين والبائسين بمثابة موضوع له أيضاً؛ وقد أجاب هذا الفن قبل آلاف من السنين على الأسئلة التي وضعها برشت في قصيدته "قضايا شغيل يعرف القراءة"، حيث يقول:
"من الذي بنى طيبة ذات الأبواب السبعة؟
إن كتب التاريخ لتذكر لنا أسماء ملوك.
فهل كان الملوك هم الذين يحملون كتل الصخر؟".
لقد كان العمل موضوعاً دائماً في الفن المصري، ولكن محتوى ومعنى هذا الموضوع الدائم، كفّ عن أن يكون "نزعة موضوعية" مزخرفة، ليصبح تعبيراً ذاتياً (والأسلوب أو الطريقة المجردة من فخامتها أصبحت طريقة واقعية شعبية).
ولم يكن العمل موضوعاً جديراً بالانتباه في الفنون الكلاسيكية القديمة. ففي الرسوم الصغيرة الخاصة بالقرون الوسطى (آثار سيد نورنبرغ، أمثال بريفاريوم وغريماني) وبعصر النهضة (أمثال دورر، وغرنفالد، ووايمنس شنايدر الخ) ظهر العمل في الفنون بوضوح، كما ظهرت مظاهر العمل الزراعي بنوع خاص. وبدأت الطبقات الكادحة تظهر في فنون المجتمعات التي لم تعد قائمة على نظام القنانة، وأصبحت أعمال الفلاح والحرفي تتطلب تمثيلاً فنياً. وبالمقابل، ظهر اتجاه يرمي إلى تجميل الحياة الريفية، وإظهارها بشكل غنائي أيضاً، مقابل متارف ومعايب العالم الكبير. وهذا الاتجاه السائد في الفن الباروكي قد أخذ يظهر في الفن ابتداء بلوحات الراعيات الراقدات لجيورجيوني، حتى لوحات غويا الأنيقة التي تمثل قطاف العنب، برغم أن غويا يبدو شعبياً بشكل خشن في موقفه العام. لقد أصبح الراعي موضوعاً مفضلاً لأنه أصبح بالمقدور تصويره عاطلاً عن العمل بشكل أنيق، وهو يراقب قطيعه مستسلماً للكسل المتعالي، وغير بائس، يأكله القمل وتكسوه الأوساخ، كما كانت حاله في الواقع. وهذه العودة إلى "الطبيعة" كانت تمجد في مسرحيات تمثل الرعاة، وتقوم بأدوارها أميرات بَرِمات، "تجللهن بساطة" متنازلة بتعجرف ومدروسة. فالطبيعة التي التفتت إليها طبقة النبلاء، كانت طبيعة رقيقة الأخلاق، بارعة التهذيب، لطيفة العبق؛ ولم تكن الغابات غابات بالمعنى الحقيقي؛ ولم يكن العالم عالماً فعلياً. وكانت وظيفة الراعي أن يعزف على المزمار، وأن يرقص رقصات ريفية، وأن يقدم الثمر والخمر لأسياده، وأن يتصرف بكليته وكأنه الممثل المطمئن "لشعب فاضل" لا غبار على أخلاقه. لكن الانتفاضات الفلاحية جعلت الملاكين العقاريين يعرفون ما يمكن أن يكونه الفلاح "الشرير"؛ لأن الفلاح الطيب في المسرحيات الرعوية، كان معداً لتسكين أعصاب مجتمع قلق. وقد أصبح الفن بذلك، وسيلة سحرية لخداع الطبقة السائدة عن الأخطار الاجتماعية التي تحيق بها.
وإذا لم يكن الناس قد أصبحوا، أثناء العمل، الموضوع الأساسي في الفن الإيطالي في عصر النهضة، إلا أنهم أصبحوه في الفن الهولندي؛ ففي هولندا، استطاعت البورجوازية الواعية أن تتصرف بموارد الفن الغنية، لكي تمثل الإنسان العامي النشيط، لا بوصفه أليعازار المسكين، والشحاذ المستسلم، ورجل الفن القوطي المتألم، ولا الراعي المصطنع من فن الأوبرا المثقل بالباروك، بل بوصفه الفلاح والحرفي في وظيفتهما كمنتجين، خلال نشاطهما الاجتماعي. فالشغيلة هم دائماً حاضرون في لوحات بروغل. والعلاقة الحميمة بين بروغل وبين رابليه وسرفنتس، وخاصة شكسبير، كانت ظاهرة في الغالب. ولكن وضع شكسبير كان أرستقراطياً إلى حدٍ ما، وعلى الأخص في بعض رواياته الهزلية الريفية. وليس لمثل هذا الوضع أي أثر في لوحات بروغل. وقد كان مؤرخ الفن النمسوي ماكس دفوراك على حق تماماً عندما كتب يقول:
"لقد كان بروغل أول فنان لم تكن المشاهد الشعبية والواقعية بالنسبة له مجرد زينة مسرحية. فالحياة ذاتها، كانت عنده مقياس كل الأشياء الإنسانية، وكانت الواقع الذي يستقي منه لدرس واكتشاف الحاجات، والنقائص، والعواطف، والأخلاق، والعادات، والأفكار والمشاعر التي تحكم الجنس البشري".
إن تصوير أشغال الحقول والشغيلة بوجه عام، في لوحات بروغل، هو تأكيد ثابت، دونما تزويق، ولكنه مجرد من كل احتجاج اجتماعي، أو من كل بادرة من بوادر الموافقة. فالفلاحات بخطاهن النشيطة، والفلاحون الحاصدون لأكداس قمح كثيفة شبيهة بجدار قرمزي صلب البناء، وحرارة الحصاد، وانشغال الحصّادين بالأرض، كل هذا يوحي بالتأكيد: "إن الحال كانت على هذا النحو، وأنها ستكون كذلك دائماً!". إن فن بروغل ليجد في ذاته معناه وتأكيده الخاص، دونما حساسية زائفة ولا تزوير. فالشغيلة ليسوا بممسوحين بجمال كاذب، وليس ثمة هالة خفية تطوف حول رؤوسهم، وسماتهم المميزة، الخشنة، النشيطة قد رسمتها يد واثقة، فجعلتها، في الغالب، قريبة من الكاريكاتور. ولكن هذه الأشكال الكاريكاتورية ليست، كما هي غالباً عند شكسبير، التعبير عن ازدراء تجاه الناس العاديين، بل هي تحديد الفنان الواقعي الحق في تصوير الشعب كما هو، بمحاسنه ومساوئه، وبقوته ونواقصه، ولكنها ليست بالطبع، صفات الرعاة الفضلاء، أو "أبناء الطبيعة النبلاء"، وعلى هذا النحو من الرسم، أصبح بروغل لسان حال البورجوازية الصاعدة والواثقة من نفسها.
ولنتأمل الآن التغيير الجذري الذي طرأ على موضوع العمل في الحقول، في لوحات ميليه. إن هذا الفنان الفلاحي المنشأ، والذي أسهم في ثورة 1848، ليمثل عمل الفلاح في المجتمع الرأسمالي كأنه شكل حديث من العبودية من نزع بشع للأنسنة في المجتمع. وقد كتب لامنيه، في العصر ذاته، في كتابه "كلمات مؤمن" يقول:
"إن الفلاح يحمل أعباء اليوم، ويتعرض للمطر، والشمس، والرياح، لكي يحضِّر بعمله الغلال التي تملأ أهراءه في الخريف. ولو وجد شعب يقدر العدالة والحرية أقل مما يقدر الحارث غلته... لرُفع حول هذا الشعب جدارٌ شامخ لكي لا تفسد أنفاسه بقية الأرض".
لقد اندلعت نار الصراع الطبقي، البروليتاري، وما رآه بروغل بعيني البورجوازية الصاعدة، رآه ميليه بعيني الفلاح البروليتاري. إذ أنه صوَّر الكآبة، والبؤس، واليأس من العمل ومن حياة الفلاح، لا من خارجها، بل بوصفه فلاحاً في عداد الفلاحين. إن راعيته لا تنطوي على أي شبه بالراعيات البليدات في فني الروكوكو والباروك recoco et baroque. فهي هنا ترتدي ثوباً خشن القماش غير مهندم، مستندة على عصاها متعبة، تتأمل حزينة، أشبه بشبح بائس لمخلوق بشري. ولنأخذ أيضاً رسوم جامعات القمح: إننا لا نرى لهن أي وجه، ولكننا نرى ظهوراً منحنية، ورؤوساً تكاد تلامس التراب، وسواعد تقلِّب الغبار، وسحنات بشعة ومجردة من كل طابع إنساني.
وإننا لنجد ذات الظهور المقوسة، والرؤوس والسواعد المنحنية نحو الأرض، وبشكل أشد رهبة ويأساً، في لوحات فان غوغ، الذي بدأ بتقليد ميليه ثم انطلق في وحشة عبقريته إلى أبعد منه. وقد كتب في رسالة إلى أخيه سنة 1880 يقول:
"أقول لك بأنني أعددت رسوماً أولية هي عبارة عن أوراق عشر للوحة "أشغال الحقول" لميليه، وقد فرغت تماماً من إحداها... وعدا ذلك، رسمت "صلاة المساء" بماء الفضة الذي أرسلته لي".وبعد ذلك، وفي رسالة أخرى، وصف الهدف الذي يرمي إليه من خلال لوحاته الخاصة، فقال:
"عندما تعود إلى الستوديو، أعتقد بأنك ستدرك بأنني إذا كنت لا أطيل الكلام حول مشروع الطبع الحجري لصور العمال، إلا أنني احتفظ به في رأسي. احتفظ بزارع، وحاصد، وإمرأة على المغسلة، وخياطة، وحفار، وإمرأة معها رفش، وعجزة في المأوى، ورجل يجرّ عربة مليئة بالسماد. وسيكون لي منها في المستقبل أكثر من ذلك، إذا اقتضى الأمر... إن سرّ لرميت -Lermite- يجل ألايكون شيئاً آخر على ما أعتقد، سوى أنه رأى الخيال بشكل كامل، أي أنه رأى بوجه عام صورة العامل القوي والجدي، وإنه استقى هذا الموضوع من قلب الشعب ذاته. فمن أجل بلوغ مثل هذه القمة (وعبثاً الكلام عن ذلك) يجب أن أعمل، وأن امعن في العمل قدر المستطاع".
وهو يقول أخيراً:
"إن هذا الشيء الوحيد دائماً هنا، وهذه المرة، أحسّ غريزياً أن ثمة أشياء كثيرة تتبدل، وأن كل شيء سوف يتبدل؛ إننا نعيش في الربع الأخير من قرن سينتهي من جديد بثورة رهيبة. ولكن، حتى لو افترضنا بأننا، في أواخر حياتنا، سنصبح قادرين على رؤية البداية، فإننا لن نرى بالتأكيد أوقات الجو الصافي الفضلى هذه، ولا المجتمع المتجدد، عقب هذه العاصفة العظيمة".
هكذا، إذن، كان فان غوغ يشتغل. لقد كان يتناول مواضيعه من "قلب الشعب"، مع استشراف حدوث تبدلات اجتماعية واسعة؛ وقد عاش قبل العاصفة العظيمة، مليئاً بمعرفة أنه لن يبلغ من العمر حداً يجعله يرى "أوقات الجو الصافي الفضلى، عقب هذه العاصفة". لقد كان الشغيلة يومئذ مضطهدين ومهانين (وقد تأثر فان غوغ بالغ التآثر بروايتي جرمينال والأرض لزولا). وكان القليل من الوقت الذي يقتطعونه من عملهم، هو الذي يسمح لهم بأن يصبحوا نوعاً ما كائنات بشرية. إن لوحة "الحصّاد" لفان غوغ، هي أيضاً أكثر إيغالاً في الموضوع من لوحة بروغل التي كانت بدورها أبعد من لوحة ميليه. فالفلاح الشاب، يبدو فيها وحيداً، وقد شدّ العمل جسده وجدله، فترى كيف يتضح موضوع العزلة، وشقاء الفرد المعزول الذي يجهد في انتزاع قوته المهدد دائماً، ولم يعرف الاطمئنان أبداً. ووجهه، البارز تحت خصلة الشعر العنيدة الصفراء بلون القمح، تعبر في الوقت نفسه عن الجهد والإرهاق؛ فبعد لحظة، لن يكون بمقدور هذا الحصّاد أن يحمل وزنه الخاص؛ وعندئذ تجذبه الأرض إليها، ليصبح شيئاً في عداد الأشياء الهامدة. وهذه الأشياء هي أقوى من الإنسان؛ وهي كأنها استفاقت على حياة شيطانية صرف. ولم تعد تظهر كتلة القمح الثابتة التي صوّرها بروغل؛ فقد استحالت حقلاً مسّته الحمى، حقلاً أنعشته وهزّته هزة غريبة. وكان على فان غوغ أن يكتشف "حياة" هذه الأشياء الهامدة، بحدة دائمة النمو، وأن يتناولها وكأنها: الكرسي التي لا يجلس عليها أحد أبداً (وقد جلس عليها غوغان فيما مضى) والطبيعة غير المأهولة، والعالم المقفر المليء بالمتفجرات، وخلفه الشمس الضخمة التي قد تشرق ذات يوم على الناس وعلى الأشياء. إن ثورة عظيمة سوف تنفجر، ولكن فنان هذا العصر البركاني (وكان فان غوغ واثقاً من ذلك) لن يمتد به حبل العمر لكي يرى "الأوقات الفضلى".
فالظهور المقوسة، والرؤوس المنحنية، وإذلال العمال والفلاحين، وخضوعهم، تلك كانت أيضاً مواضيع الفنان المكسيكي الكبير دييغو ريفيرا. ولكنه كان يرسم أيضاً أولئك الذين كانوا يذلونهم ويخضعونهم بحقد انتقامي شبيه بالحقد الذي ألهم دومييه لوحاته؛ لقد رسم المضطهدين الإسبان، "وفطور الأغنياء"، ولصوص البترول، وملوك الدولار، ورجال البنوك الناشرين ثوراتهم، ورسم العاهرات "الرفيعات المستوى" العارضات صدورهن. ولم تبق في لوحاته قوة خفية تقوّس الظهور، وتحني الرؤوس، بل هناك عدو حقيقي ملموس، يود مواجهته والقضاء عليه. وقد تمادى ريفيرا أكثر من ذلك، فرسم الأرض المحررة، والفلاحين يقتسمونها، ويحرثون التراب لمصلحتهم، ويحصدون الذرة وقصب السكر، ويناقشون مناهج الزراعة العقلانية مع مهندسين زراعيين، ويجلبون أول تراكتور إلى القرية، وينعمون بأوقات العطلة. فالشغيل الإنساني الذي لم نرَ منه، حتى الآن، سوى الظهر المقوس، والعضلات المفتولة، قد ارتدى وجهاً إنسانياً، قادراً على التعبير عن تصميم رصين، أو عن ثقة مفرحة. إن الطريقة العظيمة الشجاعة التي انتهجها دييغو ريفيرا في تصوير النضالات والانتصارات، والعمل المليء بحسّ الشعب، لا تشبه في شيء أسلوب الرسامين القدامى الذين رسموا على هذا النحو؛ فلا وجود لتفصيل زائد في لوحاته، ولا أثر للمدرسة الطبيعية الضيقة، أو للوضع الرومنطيقي. إنها واقعية اشتراكية بالغة الروعة. وقد سمحت هذه التجربة العظيمة لريفيرا أن يتعلم من جيوتو، وميكل انج، ودومييه، ومن سائر الأساتذة الفرنسيين الحديثين، دون أن يقع في التقليد. وقد اكتسب موضوع العمل في الأرض، والعمل البشري بشكل عام، محتوى جديداً على الإطلاق. فالموضوع القديم يتخذ معنى جديداً، ويصبح به أسلوباً جديداً.


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق