صادق جلال العظم
01 12
المحتويات
صادق جلال العظم أكاديمي و مفكر سوري مخضرم، تعتبر كتبه وآرائه مثيرةً للسجال والجدل بشكل عام، يدعو إلى التمسك بالعلوم والمعارف المادية في عالم عربي يشهد انحساراً لدور العقل. ويرى أحد المثقفين أن من إيجابيات الدكتور العظم تحريكه للرمال الساكنة منذ قرون في الوعي العربي، ولعله من المفكرين العرب القلة الذين تماهى تفكيرهم مع سلوكهم اليومي في الحياة، ويضيف أن هذا ما نلمسه من خلال علاقات العظم بالمحيطين الاجتماعي والثقافي، فلطالما كان الرجل قريباً من العامة ولم تكن علاقاته الاجتماعية حكراً علي النخب، رغم كونه ينتمي إلي عائلة أرستقراطية.
قد تتفق أو تختلف مع صادق جلال العظم، لكن ليس بوسعك إلا أن تحترم المقولات والأفكار والآراء التي يطرحها بحكمة ودراية الشيوخ وثقة وحيوية الشباب, وذلك على الرغم من أن الرجل بات في العقد الثامن من عمره، فضلاً عن سعة صدره واعتماده المنهج الفكري والمنطق العلمي التجريبي.
حياته:
ولد صادق جلال العظم في دمشق عام 1934, أتم دراسته الابتدائية في دمشق وتابع الثانوية في المدرسة الإنجيلية في صيدا (لبنان)، ثم حصل على درجة الليسانس في الآداب بامتياز من الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1957 (اختصاص فلسفة)، وأتم دراسته العليا في جامعة بال في أميركا، حيث نال درجة الماجستير في الآداب سنة 1959، ودرجة دكتور في الفلسفة سنة 1961 باختصاص الفلسفة الحديثة, شغل مناصب عدة في حياته، من أهمها أستاذ للفلسفة والفكر العربي الحديث والمعاصر في جامعة نيويورك والجامعة الأمريكية في بيروت, ثم عاد إلى دمشق عام 1962 ليعمل أستاذاً في جامعتها، قبل أن ينتقل للتدريس في الجامعة الأردنية في عمان, ثم أصبح سنة 1969 رئيس تحرير مجلة الدراسات العربية التي تصدر في بيروت, كما شغل منصب رئيس قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية في كلية الآداب بدمشق (بين عامي 1993-1998). عمل أستاذاً في جامعتي برنستون وهارفارد في أميركا، وفي جامعات هامبورغ وهومبولت وأولدنبورغ في ألمانيا، وفي جامعة توهوكو في اليابان وفي جامعة أنتويرب في بلجيكا, وهو عضو في أكاديمية العلوم والآداب الأوروبية, كما حاز على جائزة ليوبولد لوكاش للتفوق العلمي سنة 2004 والتي تمنحها جامعة توبينغن في ألمانيا .
من أهم مؤلفاته الدكتور صادق جلال العظم:
- الحب والحب العذري.
- فلسفة الأخلاق عند هنري برغسون.
- دراسات في الفلسفة الغربية الحديثة.
- النقد الذاتي بعد الهزيمة.
- نقد الفكر الديني (1969).
- دراسات يسارية حول القضية الفلسطينية.
- الصهيونية والصراع الطبقي.
- زيارة السادات وبؤس السلام العادل.
- الاستشراق والاستشراق معكوساً (1981).
- الآيات الشيطانية عند سلمان رشدي في سياقها الإسلامي (باللغة الإنكليزية).
- عسر الحداثة والتنوير في الإسلام (باللغة الألمانية).
- هل يقبل الإسلام العلمنة (باللغة الفرنسية).
- الأصولية الإسلامية، إعادة نظر (باللغة الإنجليزية).
- المشهد من دمشق: سورية وعملية السلام مع إسرائيل (بالإنكليزية).
- الإسلام والغرب اليوم (بالإنجليزية والألمانية).
- الآيات الشيطانية بعد أن هدأت الضجة (بالإنكليزية).
- الإسلام والعلمانية.
- دفاعاً عن المادية والتاريخ.
- ذهنية التحريم (1992).
- ما بعد ذهنية التحريم.
- ما العولمة؟
وقد ترجم العديد من أعماله إلى اللغات الفرنسية والفارسية والتركية والإيطالية والألمانية والهولندية والسويدية والنرويجية وطبعاً الإنكليزية .
ما كتبه العظم عن نفسه:
كثيراً ما طُلب مني تقديم معلومات عن نفسي لأسباب شتى، منها المهني ومنها العلمي ومنها الأمني، لكن هذه هي المرة الأولى التي يتوجه إليّ أحد بطلب لأقوم بتقديم نفسي بنفسي إلى الآخر. وجدت في الطلب تحدياً لا بأس به، لأنني سأكون أنا الذات والموضوع في اللحظة ذاتها. لن أقدم نفسي على طريقة البوح بمكنونات النفس وأسرار الحياة، أو بسرد الاعترافات بكل ما هو حميم وشخصي وخاص، أو عبر الجرأة الزائدة على الذات. هذا ليس أسلوبي وأريد أن أحتفظ بالكثير لنفسي ولذاتي بعيداً عن أعين الغرباء؛ وإلا فما معنى أن أكون ذاتاً لنفسها وليس لغيرها فحسب؟ فإذاً: لا بوح، لا اعترافات، لا وجدانيات، لا غراميات، لا وشوشات، لا استغابات، لا نسائيات، لا نميمة، لا عواطف أو انفعالات، بل شخصية عامة تحتفظ لنفسها دوماً وللأقربين أحياناً بخصوصياتها وحميمياتها واستمتاعاتها وطرائفها وسقطاتها ومباذلها.
أعيش كمفكر ومراقب وناقد في الحاضر بكل كثافته وتحولاته ومشاريعه. ولذا، لا أحن إلى خـبز أمي، لأنني راشد قطع حبل السرة منذ زمن بعيد، وقتل الآباء جميعاً في داخله لحظة الرجولة والنضج، وقبل تحدي كسب خبزه اليومي بجدارة وثقة بالنفس، وفضّل المسؤولية الفردية، بكل قلقها وأعبائها، على أمن الجمـاعة، كما فضّل الحرية الشخصية، بجليدها ومجازفاتها، على العــودة إلى دفء الرحم الأول.
لا أبكي على الأطلال لأنني ابن عصري بإنجازاته وانهياراته، بفتوحاته وجرائمه، باكتشافاته وشناعاته، باختراعاته ومباذله. ولا أمشي برأس «مندارة» إلى الوراء لأنني أحيا زمني، وزمني هو الذي يعطي المعنى للتطلع إلى الوراء، وإلا فلا طائل أو نفع أبداً من هذا الوراء. ولا تملأ رائحة الياسمين خياشيمي حين أزور باريس لأنني أصر على التمتع حتى الثمالة بباريس وروائحها الحية تاركاً ورائي كل ما هو غير باريس في تلك اللحظة. ولا تشتعل نار ما في رأسي حين أتبختر في شوارع نيويورك ـ ومانهاتن تحديداً ـ لأن غرضي هو التجربة الأولى في حاضرة العالم الحي اليوم والإحساس الأفضل بالحضور في عاصمة المعاصرة. ولا ألعب أبداً لعبة اشتقاق الحلول لمعضلات عالمي العربي الراهن مما يسمى بـ«التراث»، لأن علوم زمني وثقافة زمني وأفكار زمني ومشاريع زمني هي التي تفسر التراث وتحتويه وتعطيه معناه وتقدم الحلول لمشكلاته، وليس العكس على الإطلاق.
يعني هذا أيضاً أنني شخص أممي، أي «كوزموبوليتي» بالمعنى اليوناني الأصلي للعبارة، كما قصد إليه الفيلسوف القديم ديوجينوس، أي «المواطن العالمي»، أو الإنسان الذي يشعر حقاً بأن عالم الإنسان كله هو وطنه بلا ضفاف أو حدود، وذلك لأسباب فلسفية وثقافية وعلمية كلية جامعة تسمو فوق القبيلة والعشيرة والمدينة والدين والمذهب والطائفة وسجن اللغة والمحلة، وقبل كل شيء فوق صدفة مكان مسقط رأسي وزمانه ومكانته.
هذه فكرة إنسانية قديمة هائلة وعظيمة، ويبدو أن زمانها قد جاء أخيراً وحان تدريجاً في عصرنا الحاضر، وأنا جزء واع كل الوعي من هذا العصر. كوزموبوليتيتي هذه تحمي وطنيتي المحددة ومواطنيتي المتعينة من التعصب والعماء، ومن أمراض التضخم الأجوف للذات الفردية والجماعية، كما إن وطنيتي هي التي تحمي كوزموبوليتيتي من أخطار التجريد المتعالي إلى حدود الفراغ. وأنا على استعداد، بالتالي، للانتماء براحة وسهولة وألفة إلى مجتمع مدني عالمي أو دولي، إن هو تشكل وأخذ أبعاده الحقيقية، إلى جانب انتمائي العفوي والتلقائي والطبيعي إلى بلدي ومدينتي وثقافتي المعروفة كلها.
أقدم نفسي كمثقف ومفكر وكاتب حاول ما استطاع الاقتداء بالحكمة السقراطية القائلة بأن الحياة غير المفحوصة جيداً غير جديرة بأن تعاش أصلاً، علماً بأن عملية الفحص هذه لا تنحصر في حياة الأفراد والأشخاص والنخب وحدها، بل تتعدى ذلك لتشمل حياة الجماعات والمجتمعات والثقافات والمؤسسات التي ما زال فيها شيء من حراك، أو بصيص من أمل. أما الأداة السقراطية الرئيسية في عملية الفحص والامتحان هذه فهي العقل بمعناه التساؤلي والنقدي والسجالي والمعياري والأداتي مع رفضي كل محاولة لرفع أي موضوعات، مهما كانت، فوق مثل هذا الفحص، أكان فردياً أم جماعياً، باسم توجه الناس نحو السماء وباسم القداسة والمقدسات، على طريقة الدكتور محمد أركون المعهودة. وجدت بالتجربة كذلك إن عملية الفحص ذاتها كانت، في الواقع، تثير من الأسئلة والتساؤلات وتبرز من المشكلات أكثر مما كانت تزودني به من الإجابات الشافية أو الحلول الناجزة. لكنني قبلت بهذه النتيجة القلقة وعايشتها على الدوام، أولاً باعتبارها من طبيعة واقع الحياة بعيداً من كل خلاصيات ومطلقات وغيبيات ودوغمائيات، وثانياً باعتبارها حافزاً رئيساً على الاستمرار في الفحص والبحث والفهم والنقد والتمعن إلى ما لا نهاية.
أحاول أن أحيا قدر الإمكان حياة العقل والتعقل والعقلانية في شؤوني الخاصة كما في الشأن العام. أما مدى نجاحي أو إخفاقي (أو شيء ما بين البينين) في هذا السعي، فهو مسألة لم أحسمها بيني وبين نفسي بعد، تماماً كما أنني لم أحسم إلى اليوم هل إن هذا النوع من الحياة جدير بأن يعاش ويمتدح حقاً وفقاً لما علّم سقراط؟ أقول هذا عن نفسي لأنه لا رغبة لديّ في مصادرة حق الآخرين، بأي صورة من الصور، في انتقاء أساليب حياتهم وفي تحديد اختياراتهم وفي ابتداع توجهاتهم الخاصة والعامة عند صنع أنفسهم وتحديد مصائرهم في رحلة الحياة.
وجدت بالتجربة الحية أن ممارسة الحكمة السقراطية ذاتياً وعلى العموم تستدعي الحرية والدفاع عنها، وتتطلب النقاش والإقناع والاقتناع وليس الوعظ والتلقين والفرض، وتحتاج إلى حس نقدي عال وإلى محاولة كل فرد منا، ككيان مستقل وكذات عاقلة وكطاقة فاعلة وليس كقطيع، التوصل إلى تشكيل قناعاته الخاصة عبر إجراء محاكماته الشخصية واستخلاص استنتاجاته الملائمة بنفسه. لذا لم أحب أبداً المريدين والأتباع والحفظة وشيوخ الطرق (بعمامة أو من دونها) والمقلِّدين والمقلَّدين والوعاظ وعبدة الشخصيات، وفضلت عليهم دوماً الزملاء والأنداد والخصوم والنقاد والأصدقاء، بخاصة إذا كانوا من أهل البحث والعلم والنقاش والسجال والجدال والمراجعة والاختلاف ورد الصاع صاعين إن اقتضت الحاجة.
في تقديم نفسي هذا الكثير من النمذجة الواعية التي ننشئها عادة من مكونات مجريات الحياة وعناصرها ونثرياتها، لنعود إلى قياس الحياة ذاتها على تلك النماذج، والى امتحان النماذج نفسها مجدداً على مجريات الحياة إياها بكل تطوراتها وتفاعلاتها وتجديداتها. أنا شخص حاول عبر هذه النماذج والتجريدات أن يستوعب العالم الكبير المحيط به وأن يفهمه وأن يفعل فيه فعله أيضاً. كما حاولت في حياتي الشخصية والعملية والمهنية والفكرية والثقافية والكتابية أن أقترب من هذه النماذج وأن أتشبه بها وأن أتفاعل معها وأن أحاكمها وأنتقدها أيضاً، كما عملت على أن أحياها، إلى هذا الحد أو ذاك، ممارسة وتطبيقاً وفعلاً. أعتقد أني نجحت إلى حد معين في مسعاي ـ وأترك تقدير منسوب ذلك الحد ومستواه إلى الغير ـ كما أعتقد أني بعيد كثيراً عن أن أكون قد أخفقت إخفاقاً كاملاً على هذا الصعيد، وبالتأكيد لا أعتذر عمّا فعلت.
من كتب صادق جلال العظم:
أولاً: الحب والحب العذري
التمهيد:
1- لم يستطع أحد من المفكرين والفلاسفة الذين تناولوا ظاهرة الحب أن يضعوا تعريفاً جامعاً له، لأن العلم به قائم على المعاناة الوجدانية الشخصية.
2- فالحب ليس له ماهية واحدة، بل هو مفهوم مجرد يشير إلى أطياف من المشاعر والأحاسيس والانفعالات المترابطة عضوياً في النفس الإنسانية.
3- إن ما أريد تناوله هو الحب المرتبط بشكل مباشر بالشهوة الجنسية.
4- طبعاً لا أقصد التوحيد بين الحب والرغبة الجنسية، لأن الحب أشد تعقيداً من كونه حاجة عضوية فيزيولوجية تسعى للإشباع.
5- الرغبة الجنسية لا تطلب سوى تفريغ طاقة معينة بغض النظر عن طبيعة الموضوع الجنسي، بينما نلاحظ أن العاشق مثلاً يكتسب مناعة ضد كل النساء برغم أن كلهن صالحات لإشباع الرغبة الجنسية، فحبيبته تصبح وكأنها المرأة الوحيدة في الكون.
6- الإنسان الذي يعاني من الكبت والحرمان الجنسي الطويل لا يميز بين الانجذاب الجنسي والحب, وكثير ما يقع الشخص في هيام وحب أول إنسان يبدي نحوه اهتماماً عاطفياً حتى ولو كان ذلك من باب المصادفة، إن الباعث على حالته ليس الحب بل الرغبات المكبوتة.
7- الحب يزدهر بعد العبور بمرحلة الانجذاب الجنسي وتخطيها إلى ما هو أهم وأكثر تعقيداً، والذي يشمل كيان الإنسان جسداً وعقلاً وروحاً.
8- في ختام التمهيد يشير العظم إلى أن المرأة قادرة على الحب مثل الرجل وتستطيع استمالة الرجل بعكس ما زرع بعقولنا من أفكار بالية. وهنا يوجه نقده للخرافات التي يطلقها البعض مثل عباس محمود العقاد الذي يقول في كتابه «المرأة في القرآن»: «إلا أن الرياء الأنثوي الذي يصح أن يقال فيه أنه رياء المرأة خاصة، إنما يرجع إلى طبيعة في الأنوثة تلزمها في كل مجتمع، ولا تفرضها عليها الآداب والشرائع، ولا يفارقها باختيارها أو بغير اختيارها»، فالعقاد هنا يضع ماهية ثابتة للمرأة وهي الكذب والرياء، ومثل هذه المقولات مرفوضة تماماً بالنسبة للعظم.
مفارقة الحب:
1- عاطفة الحب كغيرها من العواطف لها بعدان أساسيان: وهما الاشتداد والامتداد.
2- الامتداد في الزمان يعني دوام الحالة العاطفية واستمرارها عبر فترة من الزمن.
3- والاشتداد هو مدى عنف الحالة العاطفية وحدتها في لحظة ما من الزمن.
4- كلما امتد الحب وطالت مدته خفت حدته وتناقص اشتداده باتجاه يقترب باستمرار من درجة الصفر.
5- الامتداد هو الرغبة ببقاء العلاقة واستمرارها وتحقيق الهدوء والثبات النسبي.
6- شريعة الامتداد هي جعل الزواج خاتمة للحب والاستقرار وذلك يخدم بطبيعة الحال الإيديولوجية الاجتماعية السائدة التي تسعى للحفاظ على ثبات المجتمع واستقراره.
7- أما الاشتداد فهو تحقيق الحب بأقصى درجات الانفعال والجيشان العاطفي وهو يتجسد بالمغامرة الغرامية.
8- من يلتزم بشريعة الامتداد ويعمل لإشباع حبه بواسطة سعادة الأزواج الهنيئة ووفائهم الآلي عليه أن يدفع ثمن ذلك من خلال فقدان كل ما يمت للحب بصلة من اندفاع ورغبات عارمة وانفعالات.
9- نلاحظ أن العلاقة بين بعدي الحب علاقة عكسية لا يمكن إشباع إحداها إلا على حساب الثانية.
10- شريعة الامتداد جزء لا يتجزأ من حياة البيئة الاجتماعية ذات النزعة المحافظة، غايتها صون نفسها بصيانة الأخلاق السائدة والقيم الدينية التي تحارب العلاقات الغرامية والاشتداد في الحب لأنه يخرق مباشرة الأخلاق الاجتماعية (العفة، الشرف ....إلخ).
11- لذلك نلاحظ ميزة عند أغلب العاشقين في مجتمعات الكبت والحرمان العاطفي وهي ميلهم إلى كتمان اسم المحبوبة خوفاً من أن يعرفها أحد إضافة لذلك نلاحظ دوراً درامياً يؤديه بعض المكبوتين في النصح أو النميمة أو الوشاية ويحاولون التدخل بالحياة الغرامية لشخصين سواء مع أو ضد.
12- إن العشق في حالة تحدٍ مستمر لكل ما تدعو له الأخلاق السائدة وهو ينسف كل أوضاع الكبت والقمع المفروضة على المغامرة الغرامية باسم الأخلاق والدين ومصلحة المجتمع واستقرار الأسرة والحياة الزوجية.
13- سمات الدونجوان كمثل أعلى لرغبة الاشتداد في الحب:
أولاً- يحب الخروج على الرتابة ويرفض العلاقات الاجتماعية المستقرة كذلك يرفض أن ينتهي حبه بالزواج التقليدي.
ثانياً- شخصية تتسم بالتقلب السريع والاستجابة المباشرة للمثيرات العاطفية والغرامية المحيطة به ويرغب بإبقاء الحب على مستوى العشق العنيف والانفعال الحاد.
ثالثاً- يرفض القيم والمعايير السائدة، وبالتالي فهو محارب اجتماعياً ودينياً كونه فاسق برأيها.
رابعاً- يجب التمييز وبدقة بين الشخصية الدنجوانية وبين من تتيح له ظروفه الخاصة الاستمتاع وفقاً لمشيئته، فمثلاً المتوكل حين وطأ أربعة آلاف جارية، فهذا لا يعني أنه دونجوان بل مجرد ساقط وفاجر، فالدونجوان يستمتع بكل لحظة عشق وممارسة حب خارقاً للأعراف والأديان.
خامساً- الدونجوان صاحب وجدان شقي فهو يعلم أنه لا يستطيع تحقيق الثبات والاستقرار بعاطفته ولكنه يخلع نوعاً من الثبات والاستقرار على اللحظة العابرة التي يذوق فيها طعم النشوة، بمعنى أن الثابت في الحب عنده هو المتغير.
14- سمات الزوج الوفي كمثل أعلى للامتداد والبقاء:
أولاً- الزوج المثالي هو من لا ينظر لجوانب الطريق وحياته تتمثل برتابة قاتلة من البيت للعمل ومن العمل للبيت.
ثانياً- الفتاة المرشحة لتكون زوجة وفية تكون وفية وساذجة وطاهرة وبريئة لا تعرف شيئاً من تجارب الحياة، تؤمن بفضل زوجها عليها والطاعة الدائمة له، وهي بالعمق تعيش حالة من الكبت والحرمان قبل الزواج ولا تزال تعيشها بعده بمعان وصور عديدة.
ثالثاً- الزوجان الوفيان يعيشان مع بعضهما على طريقة مكره أخاك لا بطل.
رابعاً- إن صورة الزوجين الوفيين هي عماد الخلية الأساسية في مجتمعاتنا وهي العامل الأول لاستمراره ودوامه.
خامساً- إن هذا الهدوء الزائف للحياة الزوجية يخفي تحته حرماناً شديداً يظهر بشكل لا شعوري عبر تحين أي فرصة لتفريغ تلك الشحنات العاطفية المكبوتة.
15- إن القصص الشعبية عن الجنس والعلاقات الغرامية تأتي كتعبير شبه مرضي خارج عن المعقول عن تلك النفس المكبوتة والتي تجد بذلك طريقاً لتنفيس تلك الطاقات الحبيسة.
16- فهذه الأقاصيص التي تتحدث عن خيانة فلانة ومغامرات فلان، وقصص الشرف وغيرها تلعب دوراً حقيقياً في حفظ التوازن للعلاقات الاجتماعية السائدة حيث تمتص تلك الأقاصيص الميول والرغبات وتهدئ من عنفها وتمنع انفجارها، إنها جزء لا يتجزأ من الإيديولوجية السائدة.
17- نلاحظ أن الإنسان في حياته اليومية الواقعية تبقى عواطفه متناقضة مابين الامتداد في الحب والاشتداد، فالعشاق حين يتبادلون الكلام عن الحب الأبدي والعشق حتى الموت فذلك نوع من الوهم الذي يخلقونه حتى يشعروا بأن حبهم العنيف ليس عابراً وليثبتوا بشكل غير مباشر نزوعهم نحو الامتداد.
الحب العذري:
1- الحب العذري ظاهرة غريبة والبعض من الكتاب قالوا أنه نسبة لقبيلة بني عذرة ووصفوا الحب العذري بأنه قائم على العفة والوفاء وأنه انتصار للروح على الجسد.
2- شرح الكتّاب الحب العذري على أنه الحب الطاهر الذي يرغب العاشقون بإنهائه بالزواج.
3- سيبدأ العظم بتحليل هذه الظاهرة متخذاً مثال جميل وبثينة كنموذج لما يسمى بالحب العذري لمعرفة حقيقة ما يقوله بعض الكتاب عن هذا النوع من الحب.
أولاً: تعرف جميل على بثينة بعد خلاف بينهما يقول جميل:
وأول ما قاد المودة بيننا بوادِ بغيض يا بثين سباب
ثانياً: من المعروف أن العادات القبلية والعرف السائد عند العرب كان يحرم التشبيب والتغزل بالنساء وكانوا يحرمون الزواج على من يقوم بذلك وهنا نطرح تساؤل: لماذا لم يمتنع جميل عن ذكر الشعر ببثينة طالما أنه يحبها ويبغي الرباط المقدس معها، يعني لماذا - إن كان الحب العذري كما يقولون عفيفاً وطاهراً ويسعى للزواج- لم يذهب جميل مباشرة لخطبة بثينة.
ثالثاً: قيل أن بثينة تزوجت من شخص دميم وبشع ولم تعش معه طيلة حياتها واستمر عشقها لجميل حتى بعد أن تزوجت، لماذا؟
رابعاً: على ما يبدو أن من خصائص الحب العذري الأولية هي خرق مؤسسة الزواج وليس العكس.
خامساً: برغم ما قيل عن أن الحب العذري طاهر ومثالي ويتصف بالعفة نجد أن جميل كان يزور بثينة في عقر دارها برغم أنف زوجها وأهلها (وهناك قصة يرويها العظم عن زيارة جميل لبثينة ومعرفة أهلها بذلك)، ومن الطريف أن من يقرأ تلك القصص يجد نفسه منساقاً لكره الزوج الذي يخرج بصورة الأبله والغبي الذي يمنع تلاقي العاشقين.
سادساً: هناك قصة أخرى عن عشق عفراء وعروة والتي قال فيها عمر بن الخطاب بأنه لو عاصرهما لزوجهما لبعضهما البعض، حيث بقي عروة يبحث عن عفراء حتى نزل ضيفاً عند زوجها الذي لا يعرفه وبعد أن أعلم عفراء أنه هو ضيف زوجها, التقى العاشقان ولكن عروة صمم على الذهاب بحجة الحفاظ على شرف عفراء واحتراماً لزوجها الذي أحسن إكرامه.
سابعاً: بعد الذي فعله عروة يبدو أن غيرته على شرف عفراء وعرض زوجها ليس سبباً مقنعاً.
ثامناً: أين حقيقة العشاق العذريين مما يرويه الكتاب حول العفة والطهارة والبراءة؟ ألم يشببوا بحبيباتهن ويشهروا بهن؟ وألم تستمتع العشيقات بهذا الهيام والتشبيب.
تاسعاً: كان جميل من عشيرة ذات ثراء ومكانة وهو كان يعلم أنه مهما فعل لن يقوم أهل بثينة بأي عمل ضده خوفاً منه، وحتى بعد أن أهدر السلطان دمه فإن أهل بثينة لم يجرؤوا على قتله برغم أنهم وجدوه عدة مرات معها في المنزل، وإذا كان هذا واقع الحال فما كان المانع بينه وبين بثينة؟ ألم يكن باستطاعة جميل أن يفتدي بثينة من زوجها الدميم والزواج منها، وإذا كان قد خرق العرف السائد في البادية من خلال شعره ببثينة وزياراته لها فهل كان عاجزاً عن إيجاد طريقة للزواج بها.
4- ما نلاحظه من خلال سلوك جميل أن هناك تقارباً بين العاشق الدونجوان وبين العاشق العذري لجهة رغبتهما باشتداد الحب، ولكن الفرق أن الدونجوان ينتقل بين حبيبة وأخرى بينما العذري يكثف مشاعره لحبيبة واحدة ويؤمل نفسه بالحصول عليها ولكنه بذات الوقت يضع جميع العراقيل بينه وبينها عن وعي أو بدون وعي حتى يبقى نار الحب متوهجة.
5- إن العاشقين العذريين يتحديان التقاليد الاجتماعية ولكنهما يقفان عند حد معين وهو الحد الذي إن تم تجاوزه أصبح جميل مضطراً للزواج من بثينة برغم أنف الجميع، وهنا نجد أن موقفهما يتبدل جذرياً فلا هو يقدم على هذه الخطوة النهائية ولا هي تحثه عليها وهذا يعني أن جميل يرغب بعشق بثينة أكثر مما يرغب ببثينة نفسها.
6- العاشق العذري لا يحب حقيقة حبيبته بل يحب حالة عشقه لها لذلك يفضل بعدها عن قربها لأن البعد يؤجج نار العشق ويجعله يتلذذ بينه وبين نفسه بأعنف المشاعر والقلق والألم فهم يريدون البعد أكثر من الوصال.
7- إن الحبيبة في مخيلة العذري ليست إنساناً حياً يتبدل بتبدل الزمن بل صورة مجردة ثابتة في مخيلته.
8- ميزة الحب العذري أنه يتمتع بشيء من «السادومازوخية» فهو تعبير عن حالة مرضية متغلغلة في نفس العاشق الذي يستمتع بحرقة الشوق الذي لا أمل في إشباعه وحيث يتحول الحب إلى ذات العاشق وأحاسيسه وتبقى العشيقة هي الأداة أو الوسيلة لذلك.
9- ومن الملامح المرضية في هذه الحالة هو استعذاب العاشق العذري للموت كونه الحاجز الوحيد بينه وبين المحبوبة، وتبرير العشق بحالة خارقة خارجة عن إرادته، ورغبته بالتضحية ليس حباً بها بل حباً بحالة الألم والشقاء.
10 – الحب العذري شهواني ونرجسي، شهواني بأصله لأنه قائم على منع الرغبة في امتلاك المحبوب منعاً مستمراً وهو أبعد ما يكون عن التغلب على شهوته والسيطرة عليها لأنه يرعى شهوته ويؤججها باستمرار بالبعد تارة والاقتراب تارة أخرى، وهو نرجسي لأن اهتمام العاشق ينصب على ذاته ومشاعره وخياله فيبالغ في تصوير موضوع حبه وكأنه مثل أعلى لا وجود لمثله.
11- طبعاً، يوضح العظم أنه لم يقصد احتقار أو تصغير الأدب الذي أنتجه العشاق العذريون الكبار ولكنه يريد نقد انحدار الحب العذري في مجتمع الكبت والحرمان ليتحول إلى أيدي العشاق الدونكشوتيين.
العاشق الدونكشوتي:
1- يكون لديه صورة مقتبسة من روايات وقصص وأفلام الحب، وتصبح هذه الصورة متحكمة بسلوكه وحركاته ومشاعره.
2- الحب لديه ليس نابعاً من قاع القلب بل يصبح مفروضاً عليه أن ينصب الحب بقالب جامد يرثه مثلما يرث أفكاره وأخلاقه وردود أفعاله من الأجيال السابقة، لذلك نرى تشابها آلياً مضحكاً بين طرائق الحب التي يمارسها أشباه العشاق.
3- الدونكشوتيون لاسيما بمجتمعات القهر والكبت يخرجون هائمين على وجوههم ويبحثون عن أي فتاة يعشقونها وأي فتاة مرشحة لتكون موضوع حبهم.
4- إن الدونكشوتيين يرفضون غالباً إعلام الحبيبة بما يجول في صدورهم إمعاناً منهم في تعقيد الأمور واستكمال صورة العاشق المعذب المتألم في مخيلتهم المريضة.
5- إنهم حقيقة لا يميزون بين الحب وبين شهوتهم المكبوتة التي لا تطلب سوى الإشباع .
6- الدونكشوتي يضع استراتيجية محكمة فيها المبادىء والمقدمات والنتائج والتكتيكات الدقيقة للانسحاب والتراجع، وعادة قد يستمر حبه هذا بين الثلاث والخمس سنوات ملؤها الرسائل والشكوى والمواعيد وتأمل النجوم على طريقة «تحت ظلال الزيزفون».
7- الدونكشوتي يفضل صحبة المرأة الخجولة الساذجة الجاهلة بأمور الدنيا فهي لا تشكل تحدياً مباشراً له ولا يضطر للتنافس عليها مع الآخرين.
8- إنه في قرارة نفسه يتوق لامرأة فاتنة غانية ولعوب تنقله من عالم إلى عالم ولكنه إن واجهها يوماً بلحمها ودمها خاف وابتعد وخلق لنفسه مئات الأعذار ليبرر انسحابه.
9- الكبرياء بالنسبة للدونكشوتي مسألة خطيرة للغاية فهو يخاف التعبير العفوي عن مشاعره خوفاً من رفض الفتاة وصدها فذلك يعد جرحاً لكرامته ولرجولته ولأنه لا يحترم أساساً قرارها وحريتها بالاختيار.
10- الدونكشوتي يتبجح دائماً بمغامراته العاطفية وفتوحاته الغرامية التي يكون قد اخترعها لنفسه كجزء من البديل الخيالي ليعوض عن عجزه في تحقيق ذلك بالواقع.
ثانياً: النقد الذاتي بعد الهزيمة
يقول العظم بأن علامات التسرع والارتباك ظاهرة في كتابه، لأنه ألفه وقتها بسرعة كبيرة وتحت ضغط احتقان نفسي شخصي وجماعي هائل نتيجة «الطريقة شبه المستحيلة» التي تمت بها الهزيمة.
يصر العظم على استخدام تعبير «الهزيمة» لوصف ما حدث بدلاً من عبارة «النكسة» التي كانت قد دخلت حقل التداول الرسمي والفكري والشعبي بغرض تمويه حقيقة ماحدث ووقع، وبالفعل كان كتاب النقد الذاتي أول عمل واسع الانتشار يسمي الهزيمة باسمها علناً دون أي محاولة للتلطيف والتهوين على المكتوين بنارها ونابالمها.
ينتقد العظم التفسيرات الدينية والغيبية التي قدمت لتبرير الهزيمة، وينقد كذلك كل محاولات التملص من المسؤولية عن الهزيمة التي حاولت إلقاء أسباب ما حدث على الخارج فقط.
يرى العظم أنه من الأخطاء المريعة التي وقع فيها العرب بالنسبة لقضيتهم، هو استخفافهم الشديد بقوة العدو، أما الخطأ المريع الثاني فهو التقدير العربي للصهيونية وطاقاتها إلى حد صبغها بقدرات أسطورية فائقة تجعلها تتحكم كلياً في مجرى التاريخ، ويرى أن مثل هذا التضخيم الخيالي هو أسلوب من أساليب تبرير فشلنا وإسقاط مسؤولية الهزيمة على أسباب خارجة عن نطاق إرادتنا.
إن شيوع مثل هذا النوع الساذج والسطحي من التفكير في تعليل الهزائم العربية، ينم على أننا نبحث دوماً عن تعليل للأحداث يرجعها في نهاية الأمر إلى قوة إرادية كامنة خلفها، أو إلى نوايا وغايات مستقبلية لأشخاص يتدبرون مجاريها وفق أهوائهم ولكن بسرية تامة، وعليه يكون مجرى التاريخ على مدى قرن مثلاً، وفقاً لهذا المنطق، تنفيذاً دقيقاً لغايات ونوايا وإرادة جماعة حكماء صهيون القابعين في الخفاء مثلاً.
ينتقد العظم اللذين يعللون سياسة أمريكا تجاه القضية الفلسطينية على أساس الأصوات اليهودية والنفوذ الذي تتمتع به الأقلية اليهودية في دوائر الحكم، لأن أولئك من حيث يدرون أو لا يدرون، يعملون على تبرئة أمريكا كدولة صاحبة مصالح استعمارية واسعة، من تهمة العداء السافر لقضية فلسطين وقضايا الأمة العربية في التحرر من السيطرة الاقتصادية الأجنبية والتبعية للنفوذ الرأسمالي العالمي، ويضيف العظم أنه حتى لو تقلص عدد الأصوات اليهودية الانتخابية في الولايات المتحدة إلى النصف، فإن ذلك لن يؤثر بالتأكيد على جوهر الموقف الأمريكي من إسرائيل وقضية فلسطين، لأن موقف أمريكا مبني على أساس مصالح حيوية جداً في المنطقة.
وفيما يتعلق بما طرحه البعض من ضرورة خوض الحرب الشعبية كرد على الهزيمة، يرى العظم أن حروب التحرير الشعبية المنتصرة لم تأت بنت ساعتها ولا تنبثق عن رغبة في التعويض فجأة عما فقده الشعب بسبب فشل الحرب النظامية، وإن انبثقت عن مثل هذا التصور ستكون في الغالب هزيلة ومبتورة في فعاليتها ونتائجها وتكون أقرب إلى المغامرة منها إلى العمل الثوري الجريء.
يرى العظم أن أهمية حرب التحرير الشعبية لاتكمن في مجرد نتائجها «السلبية» مثل طرد المحتل والتحرر من سيطرة المستعمر كلياً، بل في نتائجها الإيجابية، لأن اشتراك الفرد المباشر وغير المباشر في المقاومة والمجهود الحربي الشعبي يؤدي بالضرورة إلى اتساع أفقه، ليستوعب وجود وطنه وأمته وليس وجود عشيرته وأسرته فحسب، كما يخلق فيه الإحساس بأهميته العضوية في المجهود القومي وبنائه ويكرس فيه قيم الانضباط وتقدير العمل.
يشير العظم إلى أهمية المستوى العلمي والتكنولوجي لتحقيق النصر، وذلك المستوى برأيه يشمل بالإضافة إلى المعدات والآلات والطائرات، نوعية معينة من العقلية والنفسية والخلفية الثقافية التي غرستها الثورة الصناعية في الانسان الحديث وثبتها الانقلاب العلمي فيه، فلا يجوز النظر للعلم الحديث بوصفه شعاراً من الشعارات المطروحة، دون أن ندرك ما تعنيه العقلية العلمية على مستوى الممارسة اليومية والتطبيق الفعلي المستمر المتراكم.
لذلك يرى العظم أن حرب حزيران 67، بينت أن الجيوش العربية لم تكن تعوزها الأسلحة والمعدات الحربية، بل ما كان يعوزها هو العنصر البشري القادر والمدرب تدريباً رفيعاً من الناحية الفنية والعسكرية والقيادية.
إن إخفاق العرب في إنتاج هذا العنصر البشري الحاسم يعود لأسباب عديدة من أهمها: أن التفاعل بين المجتمع العربي ومقومات الحضارة الصناعية الحديثة قد اقتصر على الانتفاع بتطبيقات العلم الحديث دون الوصول إلى جذوره أو حتى التكيف مع ما يفرضه من أفكار وقيم جديدة على المجتمع والفرد، بمعنى أننا فسحنا مجالاً في حياتنا للثلاجة والتلفزيون والراديو والميغ ...إلخ، وبقيت العقلية التي تستخدم هذه المنجزات المستوردة، هي العقلية التي تنتمي إلى أطوار البداوة والزراعة والتعلق بالغيبيات.
ينتقد العظم الوسطية التي ظهرت في مواقف بعض المثقفين وحركة التحرر العربية، وتطرق في هذا الصدد إلى شعار «تصفية آثار العدوان» على أسس التسويات السياسية، والذي يعني رجوع الجيش الإسرائيلي إلى قواعده قبل الخامس من حزيران 1967، ويرى أن اعتبار تصفية آثار العدوان كقضية قائمة بذاتها لامعنى له ولا جدوى ترجى منه، لأنه إن كنا جادين حقاً بالنسبة للقضية الأم، قضية تحرير فلسطين،علينا مجابهة إسرائيل مجابهة فعالة على مستوى حرب التحرير ولا فارق في ذلك إن كانت إسرائيل داخل حدودها القديمة، أم داخل حدودها الجديدة في مناطق «آثار العدوان»، وبالتالي لا يوجد شيء اسمه تصفية آثار العدوان بمعزل عن القضية الفلسطينية.
ينظر العظم للمرأة العربية بوصفها تشكل اليوم في مجتمعنا أضخم مستودع للطاقات الإنسانية الكامنة غير المستخدمة وغير الممسوسة بعد، حيث لا تزال جميع التشريعات والعادات والأعراف القائمة لا تعترف للمرأة باستقلالها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ويحذر من الانخداع بمظاهر التحرر الخارجية وحدها، لأن للتحرر معانٍ أعمق وأرسخ لا يمكن أن تتحقق مالم تصبح المرأة العربية طاقة إنتاجية فعالة وخلاقة في حياة المجتمع العربي، وتفرض نفسها على الرجل التقليدي على هذا الأساس.
يتوجه العظم للقارىء الذي لايزال يبحث عن جواب يمكن تفصيله في صفحة أو صفحتين يكون بمثابة المفتاح السحري الذي سيخرج الأمة العربية، بقدرة قادر، من محنتها الحاضرة، بأنه لن يجد في بحثه هذا مثل هذه الحلول، ويرى العظم أن البحث عن مثل هذه الحلول هو أسرع طريق وأضمن سبيل إلى استمرار أوضاع الهزيمة في مجتمعنا وترسيخ مقدماتها وذيولها في نفوسنا.
ثالثاً: من كتــــــــــاب ذهــنيــــــة التحـريـــم
1- مســألة الاســتشــراق:
الفصل الأول: الإستشراق والإستشراق معكوساً
القــسم الأول:
1- صدر عام 1978 في الولايات المتحدة الأمريكية كتاب سجالي نقدي هام للدكتور إدوارد سعيد بعنوان «الإستشراق».
2- يبدأ إدوارد بتعريفنا بظاهرة الاستشراق بمعناها الواسع (أي اهتمام أوروبا بالشرق) بوضعها في سياق تاريخي معين، هو حركة توسع أوروبا البورجوازية الحديثة خارج نطاق حدودها التقليدية، وبهذا المعنى العريض يشكل الاستشراق ظاهرة معقدة ونامية ومتفرعة، أصولاً ووظيفة، عن صيرورة تاريخية أكثر شمولاً.
3- داخل إطار ظاهرة الاستشراق يميز إدوارد (ولايفصل بالضرورة) بين مؤسسة الاستشراق (بوصفها مرتبطة بمصالح التوسع) وبين الاستشراق بمعناه الثقافي – الأكاديمي الضيق، وقد كرس إدوارد الجزء الكبير من نقده وتحليله للاستشراق الثقافي الأكاديمي في محاولة لفضح ارتباطاته الوثيقة بمؤسسة الاستشراق وتفنيد مزاعمه التقليدية حول تحليه بالموضوعية والاستقلال الفكري والحياد العلمي.
4- طبعاً إدوارد لا يبغي إطلاقاً الانتقاص من أهمية الإنجازات العلمية الحقيقية التي قدمها الاستشراق الثقافي – الأكاديمي، إنما ما يريد قوله – على ما يبدو لي – هو أن الصورة الكلية التي قام الاستشراق الثقافي الأكاديمي ببنائها عن الشرق، تنطوي أساساً على مواقف عنصرية تماماً عن الشرق نفسه، وعلى تفسيرات اختزالية لواقعه، وعلى أحكام تقييمية لا أخلاقية بحق شعوبه ومجتمعاته، وهكذا صورة لا يمكن أن تكون مبنية على أي منهج علمي محايد في معرفة الشرق.
5- يؤكد إدوارد على أن أبشع ما في هذه الصورة هو وجود القناعة المحورية التي تنطوي عليها بوجود فارق أساسي وجذري بين الجوهر المزعوم لكل من الطبيعة الشرقية والطبيعة الغربية لصالح التفوق الكامل للطبيعة الغربية المزعومة، وبإمكاننا أن نسمي هذه القناعة بميتافيزيقا الاستشراق لأنها تفسر الفوارق بين ثقافة وأخرى وبين شعب وآخر، بردها إلى طبائع ثابتة وليس إلى صيرورات تاريخية متبدلة.
6- ولكن إدوارد يتخلى سريعاً عن الاتجاه الذي عرضناه في تفسير نشأة الإستشراق لصالح تفسير آخر يتعارض مع الأول تعارضاً واضحاً، ويتجلى الاتجاه الثاني في قيامه بإرجاع أصول الاستشراق وبداياته، عبر إسقاط تاريخي هائل إلى الخلف، إلى هوميروس وأسكيلوس ويوريبديس ودانتي، بدلاً من عصر النهضة، أي مابدا لنا أول الأمر أنه (الاستشراق) ظاهرة أوروبية جديدة حقاً، جاء استجابة لظروف واحتياجات مرحلة تاريخية معينة ليس كذلك على الإطلاق، بل يرجع إلى أصول سحيقة وعميقة في التاريخ الأوروبي والغربي.
7- إذن بالنسبة لإدوارد، الاستشراق من حيث هو عملية تشويه لواقع الشرق وتحقير لوجوده من جانب الغرب، وفي سبيل تأكيد فكرة تفوق الغرب، يشكل ظاهرة قديمة قدم حضارة الغرب وثقافته وفكره.
8- إن النتيجة المنطقية لهذا الاتجاه في تفسير ظاهرة الاستشراق هي العودة بنا إلى أسطورة الطبائع الثابتة (ميتافيزيقا الاستشراق)، حيث لا تعود ظاهرة الاستشراق وليدة شروط تاريخية معينة بل تأخذ شكل الإفراز الطبيعي العتيق والمستمر الذي يولده «العقل الغربي» المفطور بطبيعته على ما يبدو على إنتاج وإعادة إنتاج تصورات مشوهة عن واقع الشعوب الأخرى، أي وفقاً لهذه الأطروحة يبدو العقل الأوروبي الغربي، من الشاعر هوميروس إلى المستشرق هاملتون جيب مرورا بكارل ماركس، وكأنه يتصف بنزعة متأصلة لا يحيد عنها لتشويه الآخر(الشرق) وتزييف واقعه وتحقير وجوده، بمقابل تمجيد ذاته والإعلاء من شأنها.
9- إن هذا المنحى في التفسير يعمل على إحباط الأهداف الأساسية التي من أجلها وضع إدوارد دراسته النقدية لسببين، أولاً: لأنه يرجعنا ضمنياً إلى أسطورة الطبائع الثابتة، وهي الأسطورة التي يفترض بأن إدوارد أعلن الحرب عليها، ثانياً: لأنه يعطي ميتافيزيقا الاستشراق نوعاً من المصداقية والجدارة يرتبط بالاستمرارية الطويلة والتواصل التاريخي والجذور السحيقة، علماً بأن هدف إدوارد المعلن في كتابه هو القضاء نهائيا على مقولتي «الشرق» و«الغرب» بالمعنى الميتافيزيقي للعبارة.
10- يرى إدوارد أن الاستشراق الثقافي- الأكاديمي هوالمصدر الذي نبعت منه مؤسسة الاستشراق (وليس العكس)، وتتجلى هذه الحقيقة في قوله أن الاستشراق الثقافي، عبر تاريخه الطويل ابتداء بهوميروس، هو المصدر الحقيقي للاهتمام السياسي اللاحق الذي أخذت تبديه أوروبا في الشرق ثم أمريكا بعد ذلك، ويقول بهذا الصدد: «الأمر الذي ينبغي إدخاله في حسابنا هو الصيرورة الكبيرة والبطيئة في الإدراك التي مكنت الوعي الأوروبي للشرق من تحويل نفسه من وعي نصوصي تأملي إلى وعي إداري واقتصادي وحتى عسكري».
11- نتيجة هذا الفهم المثالي المقلوب لعلاقة الاستشراق الثقافي - الأكاديمي بمؤسسة الاستشراق (بما هي حركة توسعية وقوة مادية متجهة شرقاً)، يحيلنا إدوارد باستمرار - لنفهم مصدر الإخضاع اللاحق للشرق فهماً سليماً - إلى أزمنة ماضية بعيدة لم يكن الشرق فيها حاضراً بالنسبة للغرب إلا على مستوى الوعي والكلمات والنصوص والصور الذهنية وتعاليم الحكماء وصفحات الكتب على حد قوله.
12- و لفهم دور الدول الأوروبية العظمى في تحديد المنحى الذي أخذه تاريخ الشرق الأدنى مع بدايات القرن العشرين، يحيلنا إدوارد إلى «الإطار الابستمولوجي الخاص» الذي نظرت من خلاله الدول المذكورة إلى الشرق، ونحن نتساءل هنا: هل يعني هذا أنه لو قام تراث الاستشراق الثقافي -الأكاديمي في الغرب ببناء إطار أبستمولوجي أكثر دقة وانطباقاً على واقع الشرق وتعاطفاً معه لسلكت الدول الأوروبية المعنية سلوكاً مغايراً أكثر رحمة ورفقاً بالشرق وبمصير تاريخه الحديث؟
13- انسجاماً مع هذا الفهم لظاهرة الاستشراق باعتبارها انتقالاً تاريخياً بطيئاً ومتواصلاً من مستوى الوعي والفكرة إلى مستوى الفعل والممارسة، يقدم إدوارد تحليلاته عبر صياغات تعطي الأهمية العظمى والأولوية الحاسمة لكل ماهو ذهني وخيالي وانفعالي وتصوري ومثالي في مقومات الفاعلية البشرية.
14- وإذا كان إدوارد يتهم الاستشراق الثقافي - الأكاديمي بتحويل الواقع المعاش في الشرق إلى مادة للنصوص، فإن إدوارد بدوره يقوم بتصعيد الوقائع الصعبة التي حكمت تفاعل الغرب مع الشرق إلى مستوى متاع الروح اللطيف.
15- يقول إدوارد: «تنزع الثقافات دوماً إلى فرض تحولات كاملة على الثقافات الأخرى بحيث لاتتلقى ثقافة ما غيرها من الثقافات كما هي بالفعل، بل تتلقاها كما يجب أن تكون لصالح المتلقي»، ويضيف: «تكمن المشكلة الحقيقية في ما إذا كان بالإمكان وجود تصور صادق عن أي شيء مهما كان، أم أن جميع التصورات بلا استثناء وبحكم كونها تصورات مدفونة أولاً في لغة صاحب التصور ومن ثم في ثقافته ومؤسساته وأجواءه السياسية ...إلخ». إن هذا الموقف الأبستمولوجي الذي تبناه إدوارد يؤدي بنا إلى نتيجة تقول: بأنه حين حاول الغرب التعامل مع الواقع الخام للشرق، بغية تمثله وهضمه عبر مؤسسة الاستشراق، قام بكل ما يمكن أن تقوم به أي ثقافة أخرى في ظل الشروط نفسها (مما من شأنه أن يرفع عتب إدوارد على الغرب وأن يحيد لومه للاستشراق).
16- يمتدح إدوارد المستشرق الفرنسي ماسينيون بقوله أن هذا المستشرق الفرنسي انكب على دراسة موضوعه (الإسلام والشرق) بإنسانية لا متناهية وحنو عميق وتعاطف قوي جداً مما مكنه من تحقيق فهم داخلي «للقوى الحية» التي تعطي الثقافات الشرقية طابعها الخاص، ومن التقاط «البعد الروحي» الذي تحمله تلك الثقافات.
17- في الواقع لا أدري كيف أفسر قيام أهم ناقد معاصر للاستشراق مثل إدوارد سعيد بتعظيم ماسينيون ومديحه إلى الحد المذكور، في الوقت الذي يعرف فيه إدوارد أن هذا المستشرق حمل معه إضافة إلى حنانه وعاطفته بضاعة الاستشراق التقليدية الفاسدة وثبتها في كتاباته وبحوثه، إن التفسير الوحيد الذي يخطر لي الآن هو أن إدوارد يرتاح كثيرا لتأويلات ماسينيون الميتافيزيقية - الصوفية للإسلام باعتبارها تنسجم مع نزعاته (أي إدوارد) المثالية عموماً على المستوى الإيديولوجي، والذاتية النسبية على المستوى الأبستمولوجي.
18- يقول إدوارد لنا أن ماسينيون كان يعتقد «بأن الشرق يتوافق تماماً مع عالم أهل الكهف والأدعية الإبراهيمية» و«إن محاولاته المتكررة لفهم القضية الفلسطينية لم تتجاوز، على الرغم من عمق إنسانيتها، النزاع بين إسحق وإسماعيل»، و«إن مشورة ماسينيون كانت مطلوبة على نطاق واسع، كخبير في الشؤون الإسلامية، من جانب الحكومات الاستعمارية»، و«إن الشرق الإسلامي في نظره هو دوماً روحاني، سامي، قبلي، غير آري وجذري في توحيده». إن جميع الشواهد في كتاب إدوارد تشير إلى غياب كل مبرر علمي موضوعي يجعل إدوارد يميز ماسينيون عن غيره من المستشرقين.
19- يتناول إدوارد فكر كارل ماركس، ونستطيع أن نلخص الصورة التي قدمها عن فكر ماركس المعقد حول الشرق على النحو التالي: في بادىء الأمر أصيب ماركس بصدمة كبيرة نتيجة مشاهدته للتدمير الذي كان يتعرض له النظام الاجتماعي في الهند بسبب الحكم الإنكليزي، وأبدى كثيراً من التعاطف الإنساني مع «آسيا البائسة» ومع شقاء جماهيرها المعذبة، لكن ما لبث أن وقع ماركس تحت تأثير الاستشراق وكان حصيلة ذلك اضمحلال مشاعره الإنسانية الأولى إزاء الهند بفعل الإطار الأبستمولوجي الجديد الذي استمده ماركس من الاستشراق، وبالتالي طرحه (أي ماركس) وجهة نظره القائلة بأن بريطانيا تمهد الطريق أمام قيام ثورة اجتماعية حقيقية في الهند، بمعنى أن بريطانيا تقوم بدور مزدوج يدمر آسيا ويحييها في آن معاً.
20- أعتقد أن الصورة التي رسمها إدوارد عن فكر ماركس، لا تشكل أكثر من رسم كاريكاتوري ليس إلا، طبعاً ماركس خضع لتأثيرات عصره بعلومه الرئيسية وتجاربه الكبرى، لكن الإقرار بهذه الحقيقة البديهية شيء، والقول مع إدوارد بأن تجريدات أحد علوم عصره (الاستشراق) وعقائده وفرضياته وصياغاته اللغوية قد اغتصبت عقل ماركس شيء آخر.
21- إن أطروحة ماركس القائلة بأن الحكم الإنكليزي في الهند يقوم بدور الأداة التاريخية غير الواعية في التمهيد لثورة اجتماعية في الهند، لا علاقة له بالاستشراق لا من قريب ولا من بعيد، فقبل أن يبدي ماركس أي اهتمام بالشرق، كان يميل دوماً إلى تفسير التحركات التاريخية الكبيرة من خلال القوى الصاعدة والصراعات الاجتماعية والتناحرات الطبقية التي كان يضفي عليها عموماً دوراً مزدوجاً هو دور أدوات التدمير وأدوات الإحياء في الوقت نفسه، كما كان ينظر إليها في أغلب الأحيان على أنها «الأدوات اللاواعية التي يعمل عبرها التاريخ ويتحرك ويتقدم» كاشفاً بذلك عن صيرورته على مراحل تطورية ملتوية ومتعرجة يتعذر على أي كان العلم كلياً باتجاه حركتها أو التنبؤ بدقة كبيرة بميلها ومنحاها (مكر العقل والتاريخ أيضاً).
22- إن ماركس كأي إنسان آخر كان يعرف تفوق أوروبا الحديثة على كل ما عداها في العالم، لكن محاولة إدوارد اتهامه بأنه تبنى محاولات تأبيد هذا التفوق تحت تأثير الاستشراق وأوهامه (ميتافيزيقا الاستشراق) ليس لها أي أساس من الصحة إطلاقاً، إنه لإجحاف ما بعده إجحاف أن ننسب لمفكر مثل ماركس، شكّل التحول التاريخي المستمر كل شيء بالنسبة لنظرته الشمولية، اعتناق ميتافيزيقا الاستشراق بمقولاتها الثابتة وطبائعها الدائمة وخصائصها الباقية.
23- أريد أن أختم هذا القسم بوجهة نظر غريبة وملتبسة وردت في ختام كتاب إدوارد سعيد، يقول إدوارد: «يشكل العالم العربي اليوم تابعاً فكرياً وسياسياً وثقافياً للولايات المتحدة، لا تبعث هذه العلاقة على الأسى بحد ذاتها، لكن الشكل المحدد الذي تتخذه علاقة التبعية هذه هو الذي يبعث على الأسى». وعلى ما يبدو لا ينصب اعتراض إدوارد وأساه على تبعية الوطن العربي بل على الشكل المحدد الذي تتجلى به هذه التبعية، والذي نفهمه من ملاحظات إدوارد المقتضبة حول هذه المسألة الحساسة هو أنه يريد المساهمة في تحسين شروط علاقة التبعية والتخلص من جوانبها السيئة (بما يخدم الجانب التابع طبعاً) وليس الدعوة للتخلص منها كلياً وتحطيمها نهائياً.
24- يضيف إدوارد: «تنطوي منظومة الأفكار الإيديولوجية الخيالية التي أطلقت عليها اسم الاستشراق على نتائج خطيرة ليس لأنها مرفوضة فكرياً فحسب، بل لأن للولايات المتحدة توظيفات هائلة حالياً في الشرق الأوسط تفوق في حجمها ما هو قائم في أي بقعة على وجه الأرض، ومع ذلك نجد أن الخبراء في شؤون الشرق الأوسط الذين يقدمون المشورة إلى صانعي السياسة، مشبعين واحداً واحداً من دون استثناء بالاستشراق. لذلك يظل الجزء الأعظم من التوظيفات مبنياً على الرمال، لأن الخبراء يقدمون توجيهاتهم لصنع السياسة استناداً إلى تجريدات رائجة....إلخ»، وهنا يبدو لي أن الدائرة اكتملت لأن إدوارد اختتم كتابه على الطريقة الاستشراقية الكلاسيكية النموذجية عندما لم يجد ما يبعث على الأسى في علاقة التبعية، وعندما قدم نصيحته لصانع السياسة الأمريكية لتمتين الأسس التي يمكن أن تستند إليها التوظيفات الأمريكية وذلك بتحرير أنفسهم من أوهام الاستشراق الضارة وتجريداته البائسة، وعندما نسي أنه لو قام هؤلاء الخبراء والاختصاصيون وأسيادهم بإتباع نصيحته، سيجد الشرق عندئذ في الإمبريالية الأمريكية عدواً أعظم هولاً مما يجد فيه الآن.
القــسم الـثانـي:
1- تزعم ميتافيزيقا الاستشراق بوجود نظام معرفي خاص يلائم كلاً من جوهري الطبيعة الشرقية والغربية، وبديهي أن يكون النظام المعرفي الملائم للغرب أكثر رقياً من النظام المعرفي الملائم للطبيعة الشرقية، فعلى سبيل المثال يرى المستشرق برنارد لويس فساد أي محاولة لفهم الظواهر السياسية الإسلامية بتحليلها من خلال مقولات سياسية «غربية» مثل التمييز بين اليمين واليسار أو بين القوى التقدمية والرجعية في المجتمع الإسلامي والشرقي عموماً.
2- يتناول العظم في هذا القسم بعضاً من المفكرين اللذين وقعوا في فخ القراءة الاستشراقية المعكوسة، وذلك بتأكيدهم على تفوق «العقلية العربية ألأصيلة» على غيرها من العقليات البشرية، دون أن يتجاوزوا مقولات الاستشراق نحو موقع تركيبي أعلى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العنصر الجديد الذي أدخله هذا الاستشراق المعكوس هو نقل حكم القيمة من القول بتفوق العقلية الغربية إلى القول بتفوق العقلية العربية الشرقية.
3- ثم ينتقل العظم لنقد ما يسميه «النموذج الديني السلفي المتجدد» والذين وجدوا الخلاص في العودة للأصالة الإسلامية وبخاصة كما تجلى في الإسلام الشعبي المسيس، ورأى أن هؤلاء الإسلامانيين يعيدون إنتاج الميتافيزيقا والأبستمولوجيا الاستشراقيتين بصورة مقلوبة خدمة منهم للشرق والإسلام، على ما يعتقدون.
4- حيث يرى العظم أن النظرة العامة والثابتة من قبل المستشرقين (كذلك يرى إدوارد في كتابه) إلى الإسلام، كانت ترى فيه نوعاً من التركيب الحضاري الفريد المتكامل مع نفسه والمتمايز جذرياً عن الغرب، كما رأت أن هذا الكل الإسلامي يهيمن على كل ما يندرج تحته من نشاط بشري اجتماعي واقتصادي وثقافي، ويتمتع بدرجة عالية من الثبات والاستمرارية والوحدة مع ذاته، وبالتالي فهو يتطلب نظاماً معرفياً خاصاً به لا دور فيه لأدوات التحليل الطبقي – مثلاً - ولا لأدوات الحداثة كلها.
5- وحسب العظم فإن نظرة سريعة لأدبيات الإسلامانيين تبين أنهم يستعيدون بصورة شبه حرفية، التصور الاستشراقي للكل الإسلامي المتماسك دوماً عبر العصور، ولكن مع فارق واحد يتلخص في قلبهم للخصائص الثابتة التي يسبغها المستشرقون بشيء من الازدراء على هذا الكل، إلى فضائل عظمى.
6- ينتقد العظم نظرة الإسلامانيين التي ترى وجود نسقين حضاريين وثقافيين متمايزين لكل منهما خصوصيته الشديدة و«منطقه الداخلي» و«قانون نموه الذاتي» وأطره المرجعية النظرية التي تتحدد «من داخل النسق نفسه وليست بأي مقارنة أو مقاربة مع النسق الآخر»، ونتيجة هذا التمايز النسقي يرسمون صورة تقول عملياً بالتماسك الداخلي لكل نسق وانغلاقه على نفسه، وبالتالي لايمكن سوى أن تقوم علاقات خارجية بين هذه الأنساق. ويرى العظم بأن الإسلامانيين يجب أن يعرفوا قبل غيرهم, ومن التاريخ الإسلامي نفسه، أن علاقات «الأنساق» فيما بينها لم تكن في الواقع عرضية وخارجية على النحو الذي يتوهمون، بل كانت تاريخياً أقرب إلى علاقات الاختراق والفتح والضم والإلحاق والفرض والدمج والاستيعاب والتمثل والنبذ والتلقي والحوار بالفكر والسلاح.
7- يرى العظم أن الإسلامانيين يبشرون بالقطع مع الغرب بالمطلق بدلاً من الدعوة التقدمية المعروفة إلى تدمير علاقات التبعية بالسوق الرأسمالية العالمية، إن رغبتهم هذه في رفض جميع المؤسسات والأفكار والطموحات والتيارات الغربية تنسجم تماماً مع رؤية ميتافيزيقا الاستشراق التي تقول بوجود كل إسلامي منغلق على ذاته.
2- في بعض قضايانا الثقافية - السياسية الراهنة:
الفصل الثاني: الغزو الثقافي مجدداً
1- يرى العظم وجود بعض السمات المميزة للأدبيات العربية التي تتناول مسألة الغزو الثقافي منها: أولاً- بقاء تلك الأدبيات على السطح في تناولها لظاهرة الغزو الثقافي دون أي محاولة جدية للنفاذ إلى مركز ثقلها الحقيقي.
ثانياً- إهمال تلك الأدبيات لأي مناقشة جدية للقاعدة المادية التي تشكل أساس هذا التفوق الأوربي الغازي ثقافياً ومصدر حركيته وقدرته على النفاذ، وبالتالي ومن خلال إغفالها للأسباب التاريخية والحقيقية للغزو الثقافي فهي تسهم في خلق وعي زائف يخدم موضوعياً استمرار الشروط المحلية التي تسمح لهذا النوع من الغزو بالبقاء والتفاقم.
ثالثاً- ميل هذه الأدبيات بالرغم من النوايا الحسنة أحياناً للانزلاق باتجاه المواقف الرجعية اجتماعياً والسلفية ثقافياً في أحسن الأحوال، أما في أسوئها فإنها تطرح نفسها صراحة كدعوات سلفية ارتدادية تدافع عن نكوصيتها بدون تغليف أو مواربة.
2- يرى العظم أن الأصالة وفقاً لهذه الأدبيات لا تعني الانتماء الراهن إلى المصالح الملحة والجذرية للجماهير العربية وقضاياها في الزمن الحاضر، بل تتحول إلى مقولة ميتافيزيقية تنفلت من جميع شروط الزمان والمكان والتحول الاجتماعي والتاريخي، أي تصبح الأصالة مجرد انتماء مزعوم إلى ذات وخصائص ثابتة باقية عبر الزمان.
3- يرى العظم أن جوهر ظاهرة الغزو الثقافي يكمن في عرقلة امتلاك المجتمع الخاضع للغزو للمقومات الفكرية والمادية والعلمية التي تسمح بالنهوض والتصدي بنجاح للمهمات التاريخية المطروحة عليه في عصره الراهن ومنها القطع مع كل أشكال الغزو والخضوع ومنها الغزو الثقافي.
4- بالتالي - حسب العظم - من يرغب باستئصال الغزو الثقافي وفقاً لهذا التعريف،عليه في المقام الأول أن يدرس مواقع الغزو ويحددها بدقة، كما ينطوي هذا التعريف على نتيجتين إضافيتين:
أولاً- ليس المهم في الجوهر، مصدر البنية الثقافية ومنبعها، بل الأهم لمصلحة من تعمل على المدى البعيد؟ وبعبارة أخرى إن مقومات كثيرة من نسيج هذه البنية مستمدة في الواقع من إرثنا الثقافي والفكري والنفسي العائد إلى عصور الانحطاط وهي تعمل موضوعياً في خدمة مصالح الطرف الغازي الذي يهمه كثيراً ألا يتحرر الطرف الخاضع للغزو والتبعية من تركة الانحطاط وذهنيته وأنماط سلوكه.
ثانياً- لا ينجح الغزو الثقافي في التأثير الفاعل والعميق على المجتمع المغزو إلا بمقدار خوائه الثقافي، فحيثما توجد ثقافة حية نامية متحركة تتعامل مع مشكلات عصرها الكبرى وتحدياته المصيرية، ينكمش تأثير الغزو الثقافي ويميل فعله للتلاشي تلقائياً والعكس صحيح.
5- يرى العظم أن المطلوب هو ممارسة علمية وثقافية معاصرة على مستوى التحدي الذي يطرحه الغزو الثقافي وليس مجرد التغني بأهمية هذه الثقافة أو إلقاء الخطب (غير العلمية وغير المثقفة) الداعية إلى ضرورة اكتسابها اليوم قبل غداً.
رابعاً: من كتاب «دفاعاً عن المادية والتاريخ»
إن الماركسية هي استمرار لتقليد علمي – ثوري – تحرري طويل عريق وتتويج له في الوقت ذاته في حقبتنا الحاضرة, يقول سارتر في مقدمة كتابه «نقد العقل الجدلي»: «الماركسية هي الفلسفة المعاصرة التي لا يمكن تجاوزها» أي تبقى الماركسية هي فلسفة العصر النقدية بامتياز طالما بقيت التشكيلة الرأسمالية هي العصر بامتياز.
إن ماركس ينتمي إلى طائفة الفلاسفة الكبار الذين أحلوا الجديد محل القديم. إن تحول الماركسية إلى قوة سياسية, فرضت ثورة داخل المثالية ذاتها ولكنها لم تخصبها كثيراً.
لقد أخفقت الفلسفة المثالية اللاحقة للماركسية على ضوء مراجعتها لنفسها أن ترتقي إلى فلسفات مثل ذرية ليبنتز الروحية ونقدية كنط الصورية ومثالية هيغل التاريخية.
يدعو أوتو ليمان الفكر الفلسفي للعودة إلى مثالية كنط النقدية – الصورية, وبالتالي التراجع عن أرقى نقطة وصلت إليها المادية العلمية (فويرباخ,داروين, مثلاً) من جهة، وعن أرقى نقطة وصلت إليها المثالية الروحية (هيغل) من جهة ثانية.
إن المادية باتت مرفوضة من الإنتلجنسيا الأوربية المنظرة لبرجوازيتها.
إن فكرة «الظاهرة» الكانطية تقدم المنطلق الوسطي الممتاز, لأنها ليست مادة كما أنها ليست روحاً, إنها حالة من الحياد الإيجابي بين الطرفين. إن واحدية الظاهرة أصبحت القاعدة والأساس التي انطلقت منها معظم الفلسفات اللاحقة على الماركسية والرادة عليها صراحة أو ضمناً, مثلاً: نظرية الهيولى المحايدة (بين المادة والروح) التي قال بها برتراند رسل في كتابيه «تحليل العقل» و«تحليل المادة»، تجريباوية جون ديوي في كتابه «التجربة والطبيعة», فينومينولوجيا هوسرل التي تسقط الواقع من حسابها فهي غير مضطرة لأن تعلن ما إذا كانت طبيعة هذا الواقع مادية أو مثالية، وكذلك المنطقية الوضعية والفلسفة الحيوية والظاهراتية.
إن هذه التيارات بمجملها تعمل جاهدة على تحييد الماركسية وبالتالي تحييد ماديتها التاريخية والحلول محل منهجها الجدلي.
إن أبرز الخصائص العامة التي تجمع بين الفلسفات الراجعة إلى واحدية الظاهرة وحيادها هي:
1- عداؤها الصريح للمادية.
2- مثاليتها العميقة.
3- تحويل العلم إلى أدوات ذهنية وتواضعات لغوية مفيدة في تعاطي الذات مع بحر الظواهر, فالموجود هو الذات, أما الواقع فهو معلق.
4- إن الانطلاق من واحدية الظاهرة يجعل الفلسفة تصبح علمية وموضوعية وهكذا تكتسب المثالية شيئاً من المعرفة العلمية.
5- أولوية الذات وجودياً ومعرفياً ومنطقياً على الوجود الواقعي.
إن تجريباوية جون ديوي مثلاً, وتناولها للطبيعة تعيدنا بسرعة إلى هيغل حيث الطبيعة هي واحدة من التجارب التي يمر بها الروح المطلق على طريق تحوله من جوهر إلى ذات مع استبدال ديوي للروح الهيغلي بالذوات البشرية المفردة, وهكذا تصبح الطبيعة لا أكثر من تجربة الصيرورات المتعددة لعدد هائل من الذوات الجزئية والمتناهية.
لقد ابتلع الجانب الذاتي من التجربة عند ديوي جانبها الموضوعي, فالمعطيات الحسية المباشرة تشكل المحتوى الأول والبدئي لتجربتها لتقوم الذات بعدها بصنع عالمها وترتيبه وتنظيمه وفقاً لقواعدها الخاصة.
إن المثالية تنكر على العلم محتواه المعرفي لكي تحوله لمجرد اختراع من اختراعات الذات الفاعلة. مع العلم أن العلم الحديث محمل على المادية، لقد طرحت الزمانية البرغسونية مقابل التاريخانية, وفي مواجهة الديالكتيك الماركسي طرحت هرقليطيسية معدلة قائمة على سيلان الوجود الدائم وتحوله الكيفي والعشوائي من حال إلى حال، وفي مواجهة فكرة التقدم الماركسي طرحت العود الأبدي كما عند نيتشه أو النكوص الحتمي كما عند مارتن هيدجر.
وفي مواجهة تجاوز ماركس لفكرة (الإنسان) بالمطلق وإحلالها محلها فكرة الإنسان الواقعي، طرحت الفرد كمركز وعي صاف مغلق على نفسه كما عند هوسرل, أو كحزمة من الامكانات الخالصة كما عند هايدجر. وفي مواجهة أطروحة ماركس القائلة: «الوجود المادي الاجتماعي يحدد الوعي وطبيعته», طرحت القول بأن الوجود الروحي - الزماني هو الذي يحد الوعي وطبيعته,كما عند برغسون وهايدجر معاً, وفي مواجهة أهمية الممارسة في حياة البشر كما عند الماركسية طرحت أهمية «التجربة المعاشة»، وأولوية العالم المعيوش بالمعنى الذاتي والكيفي وهو الذي يمتحن الأفكار والتصورات, وإذا كان الإنسان ماهية واعية متعالية في المثالية وذرة منفعلة في المادية الساكنة فإن ماركس رأى أن البشر كائنات متلقية منفعلة متكيفة مفكرة واعية وفي الوقت ذاته كائنات فاعلة محولة, صانعة, مندفعة, مجربة، مكافحة.
جعلت ثورة ماركس الكوبرنيكية تفسير منتجات الإنسان (الثقافية والقانونية والسياسية ...إلخ) تفسيراً علمياً مسألة متاحة وممكنة بإرجاعها – بصور متعددة وطرق متنوعة – إلى القاعدة المادية للمجتمع الذي نشأت فيه وتطورت مع تطوره. ردت المثالية الجديدة بإعطاء الأولوية المطلقة تقريباً للقيم والمثل والأعراف والتقاليد والثقافة عموماً في تفسير تماسك المجتمع واستمرار وحدته كما عند دوركهايم وماكس فيبر. وقد أخذت هذه المثالية تتكلم صراحة عن الروح الخاصة الكامنة وراء كل ثقافة من ثقافات الإنسان المتنوعة والمولدة لها.
يضع هوسرل الوجود الواقعي بين قوسين، أي أنه يصادر على الواقع, فما الحياد الفينومينولوجي (علم الظواهر) إلا رفضاً للمادية من ناحية والمثالية الموضوعية التي تعترف بالواقع من ناحية ثانية لصالح مثالية ذاتية تميل في بعض الأحيان إلى تأكيد أولوية الذات الفردية وتميل في أحيان أخرى إلى تأكيد أولوية الذات الكلية.
يطرح السؤال التالي: ألا تعطي قصدية الوعي، أي الوعي الذي ينصب على موضوع، للفينومينولوجيا أساساً موضوعياً؟. يقول العظم: «إن موضوع فعل الوعي هو أيضاً ذو طبيعة عقلية أو ذهنية أو روحية, ثم أن الفينومينولوجي الهوسرلي لا يهمه ما إذا كان موضوع فعل الوعي موجوداً وجوداً خارجياً مستقلاً أم لا.
يعمم العظم نقده للفينومينولوجيا فيقول: «إن حياد الفينومينولوجيا هو حياد الروح في دراسة أفعالها ومحتويات تلك الأفعال وليس حياداً بين المادية والمثالية. علمية الفينومينولوجيا هي علمية التمييز بين الأفكار القبلية للروح وظواهرها, موضوعية الفينومينولوجيا هي موضوعية ما تتفق عليه الذوات فيما بينها بالنسبة للظواهر المتبدية لها وليس لها أية علاقة بموضوعية الموضوعات المستقلة عن الذوات ووعيها».
وأخيراً إن التحرر الفينومينولوجي من الافتراضات المسبقة لا يعني سوى التحرر من افتراض وجود أي شيء غير الذات الواعية ومحتويات وعيها. إن أهمية هيدجر(الفيلسوف الألماني العظيم) تكمن في أنه يقطع نهائياً مع مزاعم الحياد والموضوعية والعلمية التي تدعيها الفينومينولوجيا.
خامساً: من كتاب «نقد الفكر الديني»
المادية الميكانيكية والمادية الجدلية:
يطلق العظم مصطلح الصورة الكونية لعصر ما، للدلالة على جملة آراء ونظريات على درجة واسعة جداً من التعميم والشمول والشيوع يسلم بها العصر تسليماً بديهياً لا شعورياً، حول أصل الإنسان ومصيره وحول الطبيعة والمعرفة والمجتمع والأخلاق والعمل والإنتاج، وبطبيعة الحال ترتبط محتويات الصورة الكونية لعصر ما، بحياة الإنسان في المجتمع وتعكس لحد كبير نوعية العلاقات الاجتماعية القائمة فيه وترتبط ارتباطاً جدلياً بنوعية العلوم السائدة في ذلك العصر، وهدف هذا البحث هو دراسة الصورة الكونية التي صاغها الإنسان الحديث منذ بداية القرن السابع عشر.
لقد أدت الثورة العلمية إلى بروز صورة كونية جديدة تبلورت وتكاملت عناصرها على يد نيوتن، حيث اقتلعت المادية الساكنة (المادية الميكانيكية) من حيث المبدأ والأساس، الصورة الكونية الدينية السابقة عليها.
وبالإمكان استخلاص المقومات الأساسية التي قامت عليها المادية الميكانيكية من كتاب نيوتن «المبادىء الرياضية للفلسفة الطبيعية» على النحو التالي:
1- المكان المطلق:
أسبغ نيوتن على المكان المطلق مجموعة من الخصائص:
أ- المكان المطلق سرمدي وضروري بطبيعته وسابق في وجوده على الأجسام الكائنة فيه، ولو أبيدت المادة الموزعة في أنحائه إبادة تامة لما مسه أي تحول أو تغير.
ب- يتكون المكان المطلق من نقاط لا أبعاد لها، وهو غير متناهٍ بالفعل لأن نقاطه متجانسة تجانساً تاماً.
ج-المكان المطلق ثلاثي الأبعاد وإقليدسي الخصائص، أي أن أقصر مسافة بين نقطتين من نقاطه هي الخط الهندسي المستقيم.
د- إن تصور خصائص المكان على أي نحو آخر مستحيل، والهندسة هي العلم اليقيني القبلي الذي يدرس طبيعة المكان المطلق ويزودنا بالحقائق الضرورية الثابتة عنه وعن خصائصه.
2- الزمان المطلق:
ينساب الزمن المطلق الحقيقي والرياضي بذاته وبطبيعته بتساو وبدون علاقة بأي شيء خارج عنه ويعرف باسم آخر هو الدوام، ويميز نيوتن بين الزمن الرياضي المطلق، والزمن النسبي الظاهري وهو الزمن المعروف الذي يحدد نظام العلاقات بين الأحداث، والزمن السيكولوجي النفسي وهو إحساسنا الذاتي والخاص بمرور الوقت.
ويتصف الزمن النيوتني بأربع خصائص رئيسية وهي:
أ- الانسياب أو الجريان بمعدل ثابت مطلق.
ب- الآنية أو اللحظية: حيث يتكون الزمان من لحظات أو آنات لا مدة لها ولا بقاء تقع عندها الأحداث، أي أن الآنية أو اللحظية المطلقة هي حقيقة واقعة في الكون.
ج- التعاقب: حيث تنتظم لحظات الزمن النيوتني في سلسلة لا متناهية من التعاقب في اتجاه واحد.
د- التآني: يشكل تآني الأحداث حقيقة واقعة مطلقة في الكون يمكن تحديدها وقياسها بدقة صارمة، ولذلك فاللحظة الزمنية الواحدة موجودة في أماكن متعددة، ويقول نيوتن بهذا الصدد: «كل جزء من أجزاء المكان موجود دائماً وكل جزء لا يتجزأ من الزمان (أي اللحظة) موجود في كل مكان».
3- المادة:
تتألف جميع الأشياء في الكون من ذرات مادية مفردة لا تتجزأ إلى ما هو أبسط منها على الإطلاق، وكل ذرة من هذه الذرات موجودة في نقطة معينة من نقاط المكان المطلق، وحادثة في لحظة من لحظات الزمان المطلق. وتتصف هذه الجسيمات المادية البسيطة بالخصائص الأولية الرياضية فقط (الحجم، الكتلة، السرعة، القصور الذاتي ...إلخ)، وأما الكيفيات المحسوسة (اللون، الرائحة، الطعم، الملمس ...إلخ) فهي ليست من خصائص الذرات المادية أصلاً وتتولد من تأثير حركة الأجسام على أعضاء الحس في الكائنات الحية، إن الكيفيات المحسوسة التي نخلعها بحكم العادة على العالم المحيط بنا وكأنها من صفاته الحقيقية المستقلة، هي في واقعها ذاتية ونسبية إلى الذات المدركة والمتأثرة بحركات الذرات المادية.
4- الحركة:
تخضع الذرات المادية لحركة دائمة مستمرة وفق قوانين يمكن صياغتها صياغة رياضية صارمة هي قوانين الحركة المعروفة مثل قانون القصور الذاتي، وتجدر الإشارة أن التغير الوحيد الذي يطرأ على الذرات المفردة هو تبديل مواضعها في المكان المطلق وفق قوانين الحركة. وبما أن الذرات المفردة بحد ذاتها لا تخضع لأي نوع من أنواع التحول الداخلي (كالنمو مثلا) أو التغير العضوي سميت هذه النظرية بـ«المادية الساكنة»، وبما أن الحركة الوحيدة التي تخضع لها الذرات المفردة هي الانتقال الآلي المحض من مكان إلى آخر فقط سميت النظرية بـ«المادية الساكنة».
لقد حققت نظرية المادية الميكانيكية نجاحاً باهراً، حيث اقتفت جميع العلوم أثرها وأصبح التفسير العلمي لظاهرة ما، يعني بالتحديد فهمها وفقاً للنموذج الميكانيكي، أي بردها إلى وحداتها البسيطة وكيفية تأثير هذه الوحدات على بعضها البعض حسب قوانين آلية محضة. والأمثلة كثيرة على ذلك، فتوماس هوبز تبع المنهج الميكانيكي حيث نرى أن العنصر البسيط الذي يتألف منه المجتمع عنده هو الإنسان الفرد الذي تحركه غريزة البقاء، فالإنسان في حالته الطبيعية أي قبل دخوله الحياة الاجتماعية المنظمة، ذرة مفردة تصطدم بمثيلاتها من الذرات البشرية المغلقة على نفسها فتؤثر وتتأثر بها، وكنتيجة لهذا الصدام والتأثير المتبادل بين الذرات البشرية تنتج الحياة الإنسانية المنظمة تحت إشراف السلطة السياسية التي تخفف من حدة هذا الصدام. أما عند آدم سميث فيتركب النشاط الاقتصادي العام للمجتمع من مجموع التأثيرات المتبادلة بين «الذرات الإنسانية الاقتصادية» وفقاً لحركتها الآلية وضمن مجال السوق الحرة بخصائصها وقوانينها الثابتة، وواضح هنا أن فكرة السوق الحرة التي تضم ضمن حدودها حركات «الذرات الاقتصادية» وفقاً لخصائصها الثابتة، قريبة جداً من فكرة المكان الفارغ المطلق الذي يحتوي على كافة الحركات التي تطرأ على الذرات المادية وفقاً لخصائص المكان الثابتة.
ونجد النزعة ذاتها تسود دراسة الأخلاق كما عبرت عنها المدارس النفعية، حيث ينزع «الإنسان الأخلاقي» بطبيعته إلى زيادة كمية سعادته إلى أقصى حد ممكن، ونتيجة لتفاعل هذه «الذرات الأخلاقية» تتولد الحياة الأخلاقية في المجتمع، وهذا ما حاول أن يفعله مفكر كلاسيكي مشهور مثل جرمي بنتام في فلسفة الأخلاق والتشريع التي وضعها. ومع قدوم سيغموند فرويد، سادت النزعة المادية الميكانيكية علم النفس، فالتفسير الفرويدي يرجع شخصية الإنسان المعقدة إلى عناصرها البسيطة ثم يفسر هذه الشخصية على أساس التفاعل الآلي المحض بين هذه العناصر.
بالرغم من سيادة المادية الميكانيكية قرابة ثلاثة قرون، إلا أنها جابهت الكثير من النقد والتجريح، حيث جاءت أول موجة من النقد من جهة اليمين الذي قال أنها نظرة مادية ملحدة ومتشائمة بالنسبة للإنسان ومصيره النهائي، كما أخذ عليها تخصيص الزمان والمكان بصفات مطلقة لا يجوز خلعها إلا على الذات الإلهية. كما برز هذا الاتجاه في رفض المادية عند مجموعة من الشعراء والفنانين الإنكليز الذين ينتمون للمدرسة الرومانسية، ذلك لأنهم رأوا أن النظرة الميكانيكية تجرد الوجود من كل معنى وغاية وتجعل الطبيعة عمياء في مجرى أحداثها، وأخذوا عليها كذلك تجريد الطبيعة من الصفات التي نعتبرها عادة زينة الأشياء ومصدر جمالها وسحرها.
أما النقد الأهم الذي وجه للمادية الميكانيكية فقد جاء من جهة اليسار وتحت اسم المادية الديالكتيكية، ويتلخص نقد المادية الديالكتيكية الموجه للمادية الساكنة بالنقاط التالية:
1- رفضت الديالكتيكية فكرة الذرة المفردة التي لا تخضع بحد ذاتها لأي نوع من أنواع التغير أو التطور أو النمو، ليحل محلها مفهوم حركي للمادة بحيث تكون الصيرورة الدائمة هي جوهر المادة ولبها بدلاً من أن يكون التغير صفة خارجية طارئة على ذرة ساكنة بذاتها، وترفض الديالكتيكية تصور المادة على أنها جسيمات بسيطة لا تتجزأ لكل واحدة موضعها المكاني المحدد تماماً في كل لحظة من لحظات الزمان المطلق، وبعبارة أخرى تشدد المادية الديالكتيكية على أن مرور الزمن لا يترك طبيعة المادة دوماً على ما هي عليه لأن واقع المادة هو صيرورة دائمة.
وتشدد المادية الديالكتيكية كذلك على حقيقة الترابط العضوي الجوهري القائم بين كافة الموجودات في الكون، وذلك مقابل العزلة المفروضة على كل ذرة من الذرات المادية وفقاً للمادية الميكانيكية القائمة على فكرة التموضع.
2- تأخذ المادية الديالكتيكية على المادية الساكنة نزعتها التجريدية التي تؤدي بها للخلط بين التجريدات الذهنية الكلية الساكنة من ناحية وبين الواقع العيني المتحرك المحسوس، فالمادية الساكنة لاتعتبر الذرة المادية بتموضعها البسيط مجرد تجريد ذهني مفيد بل تنظر إليها على أنها موجودة فعلاً كعنصر بسيط تتكون منه كافة الأشياء. كما ورفضت المادية الجدلية مجموعة الحقائق الأساسية للمادية الساكنة مثل المكان المطلق والزمان المطلق والحركة المطلقة، وأصرت على نسبية كل هذه الظواهر إلى الواقعة الأساسية في الكون وهي الصيرورة المادية وهنا يقول أنجلز: «السكون والتوازن ليسا إلا حالة نسبية وحسب، ولا معنى لهذه الحالة إلا بالنسبة إلى نوع محدد من أنواع الحركة (حيث تكون هي مناط الإسناد)، أما حركة الجسم الوحيد في الكون فليس لها وجود، كما أنه ليس بالإمكان التكلم عنها إلا بالمعنى النسبي».
لقد انطوى رفض المادية الجدلية للسكون المطلق، وقولها بنسبية الزمان والمكان على نتائج خطيرة لم تتضح كلياً إلا مع مجيء النظرية النسبية في بداية القرن العشرين.
وقد ترتب على إقرار هذه العلاقة الجديدة بين طبيعة المكان والزمان من ناحية، وصيرورة الواقع المادي من ناحية أخرى النتائج التالية:
أ- بطلان فكرة المادية الكلاسيكية في شطر الطبيعة إلى شطرين، أي إلى وعائين مطلقين أحدهما زماني والثاني مكاني، وإلى عدد متناه من الأشياء الموجودة فيهما.
ب- ليس للزمان والمكان طبيعة ضرورية مطلقة أو خصائص سرمدية لازمة بمعزل عن محتوياتهما المادية.
ج- بطلان القول النيوتوني القديم بأن «الآنية» و«التعاقب»، هي حقائق مطلقة وواقعية في الكون، كما ينتج عنها نسبية خصائص المكان التقليدية (المكان المتجانس، إقليدسي، ثلاثي الأبعاد، ....إلخ) إلى المادة التي نقول أنها موجودة في المكان وحادثة فيه.
د- بالإمكان وجود أزمنة مغايرة في خصائصها للزمن النيوتوني كما افترضته المادية الساكنة، وأمكنة إقليدسية مغايرة في طبيعتها للمكان المطلق التقليدي وذلك وفقاً لنوعية التطورات التي تطرأ على صيرورة المادة والصور المركبة التي تأخذها في تحولاتها المعقدة، وتستتبع هذه الإمكانية بطبيعة الحال وجود ميكانيكيات لا نيوتونية وهندسات لا إقليدسية تتناسب مع خصائص الأزمنة والأمكنة المذكورة.
3- ترفض المادية الديالكتيكية النزعة التبسيطية الشديدة التي تتصف بها المادية الساكنة في محاولاتها تعليل الظواهر، وتتجلى تلك النزعة التبسيطية في المادية القديمة على وجهين:
أ- محاولة النظرية الميكانيكية رد كافة أنواع الحركة والتغير، بما فيها الصيرورة التاريخية والنمو العضوي والتحولات الاجتماعية، إلى الترتيبات المتبادلة لأجزاء المادة الذرية، وهذا يعني الاعتقاد بضرورة إرجاع أنواع الصيرورة الأرقى والأرفع في تركيبها ومستوى تعقيدها إلى حركات أبسط.
ب- يتضح الوجه الثاني للنزعة التبسيطية التي تتصف بها المادية الساكنة في الاعتقاد القائل أنه لو توفرت لنا معرفة دقيقة وكاملة لخصائص الذرات المادية لأمكننا التنبؤ مسبقاً وبصورة يقينية بكافة التشكيلات التي ستدخل فيها هذه الذرات وبكافة الظواهر التي ستنشأ عن تشكيلاتها، وأفضل من عبر عن هذا الاتجاه العالم الرياضي لابلاس والذي قال: «لو فرضنا إن عقلاً رياضياً جباراً يعلم تماماً سرعة كل ذرة مادية في الكون، ويعلم موضعها المحدد في المكان المطلق، وذلك في كل لحظة من لحظات الزمن الرياضي سيكون باستطاعته أن يرى ماضي الكون وحاضره ومستقبله كواقعة واحدة حاضرة أمامه». وبمقابل هذا تقول المادية الديالكتيكية بوجود علاقات حركية متبادلة بين الجزء والكل بحيث تؤلف الأجزاء الكل، ولكن الكل نفسه يترك أثره على الأجزاء المؤلف منها، بمعنى أنه حتى لو توافرت معلومات دقيقة كاملة عن حركة الذرات المادية فإن ذلك لا يكفي وحده للتنبؤ بنوعية التشكيلات والظواهر التي ستنتج من تجمع الذرات، لأن معرفة حركاتها على هذا النحو تفترض مباشرة علمنا المسبق بنوعية التشكيلات المركبة نفسها وبنظام تركيبها الذي يؤثر على حركات الذرات ومجراها، أي لا تكتمل معرفة الجزء العلمية إلا بمعرفة أشياء عن طبيعة الكل الذي يدخل هذا الجزء في تركيبه. وعلى هذا الأساس ترفض المادية الديالكتيكية أي إرجاع قسري للظواهر الأرقى نمواً وتطوراً وأعقد تركيباً في الطبيعة إلى ظواهر أدنى منها وأبسط بدون الأخذ بعين الاعتبار الخصائص الجديدة المميزة لأنواع الموجودات على كل مستوى من مستويات التطور والتعقيد في التركيب، التي تفرزها صيرورة المادة.
جاءت الضربة الحاسمة التي قضت على المادية الساكنة كصورة كونية هامة في العصر الحديث من جهة علم الفيزياء نفسه الذي كان الدعم الأكبر للنظرة الميكانيكية والمنشأ الأصلي لها. وسأضرب ثلاثة أمثلة على نوعية المشكلات التي واجهت المادية الساكنة:
1- حين وضع علم الأجنة في القرن التاسع عشر، كانت النظرية السائدة وقتئذ تقول أن كل جزء من أجزاء الجنين المتطور ينمو من جزء معين من بويضة ما، بحيث إذا دمرنا جزءاً من بويضة ما، نتج عنها جنين تنقصه تماماً تلك الأعضاء التي يفترض أنها تنمو من جزء البويضة المعطوب. وقبل نهاية القرن التاسع عشر اكتشف العالم المشهور هانز درايش أنه في عدد كبير من البويضات بإمكاننا إعدام أجزاء منها بدون أن يؤثر ذلك على النمو المتكامل والطبيعي للجنين الناتج عنها. بمعنى أن النموذج الميكانيكي التقليدي غير قادر على تعليل علاقة نمو أجزاء الجنين من أجزاء البويضة وإيضاحها إيضاحاً علمياً سببياً ينطبق على الواقع والتجربة.
2- في أواخر القرن التاسع عشر قام العالمان مايكلسون ومورلي بتجربة مهمة جداً في تاريخ الفيزياء الحديثة، حيث كانت بداية النهاية للمادية الساكنة كصورة كونية علمية مقبولة، حيث ابتكر العالمان جهازاً معقداً يمكنهما من قياس السرعة المطلقة للأرض في حركة دورانها في «الأثير»، وجاءت نتائج التجربة سلبية تماماً مما اضطر العلماء إلى التخلي نهائياً عن فكرة السرعة المطلقة للأجسام وإسقاطها مع فكرة الأثير من الصياغة الجديدة للميكانيكا كما نجدها عند ماخ مثلاً، ثم جاءت نظرية أينشتاين لتخلص الفيزياء نهائياً من تصورات الزمن المطلق والوعاء المكاني المطلق وتبين أن المقادير الزمنية والمكانية نسبية إلى مجرى أحداث العالم المادي ومشتقاته.
3- كان لتطوير الهندسات اللاإقليدسية ونجاح العلماء في تطبيقها في الفيزياء النظرية و التجريبية، أثر هام في تقويض ركائز المادية الميكانيكية إذ تبين أن تصور نيوتن للمكان على أنه لا متناهي ومتجانس وثلاثي الأبعاد وإقليدسي الخصائص لا ينطبق على الواقع إلا ضمن حدود معينة (حدود المسافات القصيرة نسبياً، والأجسام غير الكبيرة جداً أو الصغيرة جداً، والسرعات المنخفضة نسبياً).
من التعليقات: على كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة»
علق الدكتور فيصل دراج بمناسبة إعادة طبع كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» بعد مرور أربعين عاماً على صدوره بما يلي:
1- لقد أراد الدكتور العظم في كتابه، أن يحلل أسباب الهزيمة، وأن يقترح نظرياً ما يرد عليها، قبل أن يدرك أنها هزيمة متوالدة تصدر عن عجز عربي مقيم، وهذه الهزيمة المتوالدة ترد على كل هزيمة بهزيمة جديدة هي التي تجعل من كتاب د. العظم يحتفظ براهنيته.
2- إن كتاب العظم ينطوي على شهادات ثلاثة: شهادة أولى على نبل الفكر النقدي واغترابه، وشهادة ثانية على بنية اجتماعية عربية محكومة بركود يتاخم الاستنقاع، وشهادة ثالثة على مآل القضية الفلسطينية، إن هذه الشهادات الثلاث تشير إلى واقع عربي جدير بالرثاء.
3- ينتمي العظم إلى عقول عربية قليلة حولت الثقافة إلى مداخلة نقدية، مارس نقده حراً، رافضاً تبرير الهزائم القاتلة باسم شعارات مستقبلية، لقد أراد في مساهماته النظرية - السياسية أن يكون مثقفاً حديثاً، يواجه استبداد العادات المتوارثة بيقظة العقل المتجددة.
4- لقد نقد العظم في كتابه بنية اجتماعية عربية ثابتة في هزائمها، ولعل مواجهة الزيف بالحقيقة، أي الاعتراف بالظواهر واضحة، إذ الهزيمة هي الهزيمة وإذ النصر هو النصر، هي فضيلة كتاب صادق الأولى، الذي يرسي النقد الواضح على تصور لا يفصل بين الكلمات ومواضيعها.
5- توقف العظم بأسلوب سجالي أمام ظواهر أساسية: الجهل بالذات وبالآخر، والتلفيق الذي يجزئ الوقائع وينسى أن يوحد بينها، وتلك القدرية المتجددة التي تذيب الوقائع اليومية في ثنائيات الكفر والإيمان والرشاد والضلال والرذيلة والفضيلة، وصولاً إلى «مواطن لا وجود له» يمسح المصالح الوطنية بمصالحه العائلية والقبلية والطائفية، محولاً الوطن إلى مكان محايد، يتعرف بالمصلحة ونقيض المصلحة لا أكثر.
6- أراد صادق العظم وهو يحلل مظاهر السلب إثر هزيمة حزيران، أن يحلل الظواهر الاجتماعية التي تقود لزوماً إلى الهزيمة، قبل زمن حزيران وبعده، فحلل صادق بهذا المعنى التخلف، لهذا يمكن أن يقرأ كتاب النقد الذاتي بمستويين: مستوى أول يحيل على واقعة تاريخية أسبابها قابلة للتفسير، ومستوى ثانٍ أكثر عمقاً يحيل على ثقافة الحداثة الاجتماعية، التي ترى إلى النظر في ممارسته، وإلى الخطاب في آثاره، وإلى العلم في تطبيقاته، وإلى العقل في اللغة التي يستعملها، وترى تالياً الهزيمة المتجددة في المراجع الثابتة التي تنتجها.
7- كان سؤال صادق العظم في كل كتاباته هو التالي: من أين يأتي التخلف؟ وما هي الآثار الفاعلة الناتجة عن التخلف؟ هذان هما السؤال اللذان طرحهما صادق بشكل سجالي منذ أكثر من أربعين عاماً حتى اليوم.
8- إن كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، لايزال يحتفظ براهنيته لأكثر من سبب: فالهزيمة التي فسر أسبابها لا تزال مستمرة، والأسباب التي نقدها لا تزال حاضرة، والعقلية التي تبرر ما لا يمكن تبريره متنامية متوالدة نشطة، بيد أن أهمية الكتاب الحقيقية لا تتمثل في إضاءة مأساة تاريخية محددة الزمن، بل في المنهج النقدي الطليق الذي يفسر الخيبات الإنسانية بأسباب إنسانية، دون الإحالة على مرجع من ضباب.
من مقالات العظم
إدوارد سعيد سياسياً في كتاب الاستشراق:
أودُّ، في هذا العرض، أن أطرح ثلاث نقاطٍ تنبعث من كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» و/أو تتعلّق به. ترمي النقطة الأولى إلى إبراز جانبٍ سياسيٍّ معيّن من جوانب كتاب سعيد الشهير. فقد كان سعيد، بوصفه أميركياً مخلصاً وفلسطينياً ملتزماً على حدّ سواء، عميق العناية وشديد القلق حيال ما أدعوه بمفارقة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط العربي بوجهٍ عامّ، وإزاء فلسطين والفلسطينيين بوجه خاص. ذلك أنّه في حين تقع جميع مصالح أميركا الحيوية واستثماراتها النفطية في العالم العربي، إلا أنّ استراتيجياتها وسياساتها لطالما انحازت إلى إسرائيل ودعمت أهدافها التوسعية ذلك الدعم غير المشروط، وكلُّ ذلك على حساب العرب وبأذيّةٍ بالغةٍ أُلحِقَت بالفلسطينيين.
منذ ولادة دولة إسرائيل شكّلت هذه المفارقة مصدر إحراج بالغ (بل مصدر تهديد) بالنسبة للأنظمة العربية التي تحالفت مع الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. وقد احتاجت هذه الأنظمة جميعاً، ودوماً، إلى «تفسيرٍ» ما لما تبدو عليه أمريكا من عدم القدرة على إنتاج سياسات تتناسب مع مصالحها الحيوية في المنطقة من جهةٍ أولى، ومن عجز عن تلبية الحدّ الأدنى من توقّعات أصدقائها المقرّبين وحلفائها الإستراتيجيين العرب، من جهةٍ ثانية. والنظرية السائدة –التي لطالما حبّذتها المملكة العربية السعودية ورعتها- تنحو باللائمة في ذلك على المنظمات، والقوى، وجماعات الضغط، والمصالح الخاصة، واللوبيات، ورؤوس الأموال، ووسائل الإعلام، والمؤامرات اليهودية-الصهيونية في تشويه تقدير أمريكا لمصالحها الحيوية في الشرق الأوسط، وفي إساءة تحديد الجهة التي ينبغي أن تقف بجانبها في المنطقة. وهذه أمثله على الكيفية التي فعل بها هذا التكتيك فعله في الممارسة، وهي أمثله مستمدَّة من بعض الإعلانات والتأكيدات السياسية العربية السابقة:
(أ)- «وهكذا نجحت القوى الصهيونية والأمريكية المؤيّدة لإسرائيل في جعل الرئيس الأميركيّ يتراجع عن التزامه بعبارة الحقوق المشروعة لشعب فلسطين».
(ب)- «استسلم الرئيس الأميركي للضغوط الصهيونية وتخلّى عن مساندة الحقوق العربية».
(ج)- «إنّ أصدقاء إسرائيل في الكونغرس والخارج مارسوا الضغط على الرئيس الأميركي وأقنعوه بعدم الإفصاح عن آرائه الحقيقية علناً نظراً إلى آثارها الضارّة بالنسبة لإسرائيل».
ولقد عَمِلَ هذا التفسير بصورة ملائمة على إعفاء الرئيس الأميركي من مسؤوليته عن سياساتٍ لا تحظى بأية شعبية في العالم العربي، كما عمل على التخفيف من إحراجات أنظمة المنطقة التي تربطها بذلك الرئيس أوثق التحالفات. والحال، أنّ الحكّام العرب راحوا يزعمون، في دعايتهم وقتها، أنهم قد حققوا تقدّماً على صعيد تبديد المفارقة التي تعاني منها السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بمساعدتهم الأميركيين على أن يروا، بصورة صائبة وواضحة، أين تكمن مصالحهم الحيوية طويلة الأمد في المنطقة العربية.
وما أريد قوله هنا، هو أنّ كتاب إدوارد سعيد (الاستشراق)، قد قَصَدَ أيضاً إلى تقديم تفسيرٍ أشدّ إتقاناً ورهافةً لمفارقة السياسات الأمريكية في العالم العربي باللجوء إلى نظرية الخطاب الفرنسية في طبعتها الفوكوية (نسبةً إلى ميشيل فوكو). فما يشوّه الرؤية الأميركية في المنطقة ويحدّد ما تنتهجه هنالك من سياسات ضارّة هو سجن الخطاب الاستشراقي الضخم الّذي بُني خلال قرون واستوعبه الآن جميع صنّاع القرار، وراسمي السياسات، والمدراء، والحكام، والدبلوماسيين، والخبراء، والمختصّين، والأكاديميين، والموظّفين، والقادة العسكريين، والمساعدين الغربيين (خاصة الأميركيين)، في تعاملهم مع هذا الجزء من العالم. فحوالي نهاية كتابه يشرح سعيد موقفه على النحو التالي: «إنّ لمنظومة التخيّلات الأيديولوجية التي أدعوها بالاستشراق نتائجها الخطيرة ليس لأنّها مشينة فكرياً وحسب، فالولايات المتحدة تستثمر اليوم بكثافة في الشرق الأوسط وعلى نحوٍ يفوق الكثافة التي نجدها في أيّ مكان آخر على وجه الأرض، وخبراء الشرق الأوسط الذين يُسدون النصح لصناع السياسة قد تشبّعوا بالاستشراق جميعهم دون استثناء. ومعظم هذا الاستثمار مبنيّ على الرمال، إذا ما استخدمنا هذه الاستعارة الملائمة بما يكفي، ذلك أنّ الخبراء يقيمون السياسة على أساس تجريدات يسهل تسويقها مثل النخب السياسية، والتحديث، والاستقرار، ولا يعدو معظمها أن يكون صوراً نمطيةً استشراقية قديمة أٌسبغت عليها رطانة سياسية، ولا يصلح معظمها البتّة لوصف ما حدث مؤخّراً في لبنان أو قبل ذلك في المقاومة الفلسطينية لإسرائيل».
ولاشكَّ في أنّ الكتاب قد رمى إلى تبديد هذا التّشوه – بفضح الجهاز الاستشراقيّ الهائل الذي يشكّل أساساً له– على أمل التوصّل إلى سياسات أميركية أحسن وأكثر واقعية حيال العرب عموماً والفلسطينيين بشكل خاص، وإبراز هذا الجانب من كتاب سعيد (الاستشراق)، إنّما يكشف كم كان هذا الكتاب سياسياً في العمق وكم كان فلسطينياً في حقيقته.
وفي النقطة الثانية، أودّ أن أنطلق من مثال على «الاستشراق» بالمعنى الأسوأ الذي يسبغه سعيد على هذا المصطلح، وهو مثالٌ مستمدٌ من كتاب جوناثان رابان، «بلاد العرب في المرآة»: «أن تحيى في اللغة العربية يعني أن تحيى في متاهةٍ من الالتواءات الزائفة والمعاني المزدوجة. فما من جملة تعني بالضبط ما تقوله. وكلّ كلمة يمكن أن تكون طِلَْسماً يستحضرُ شبحَ عائلةِ الكلمات المتحدّرة منها بأكملها. أمّا النحو العربي فهو خرافيُّ في تعقيداته المراوغة. العربية لغةٌ أقيمت تماماً لكي تعبّر بفصاحةٍ هائلةٍ عن لا شيء، لغةُ تكـلُّّف محض لا يكاد أن يكون فيها أية معانٍٍ حرفية على الإطلاق ويشكّل الإيماء الرمزي فيها كلَّ شيء. والعربية تجعل الإنكليزية تبدو ساذجةٍ، والفرنسية مجرّد رطانة يرطن بها خبراء المحاسبة وأسعار السوق. ويكفي أن تحدّق عبر شقٍّ في حائط هذه اللغة لكي ترى عمق وقتامة غابة الالتباس تلك. فلا عجب إذاً أنّ القرآن قد ذاع صيته على أنه لا يترجم».
من الواضح هنا أنَّ العربية يُحْكَم عليها (ويُرَى أنّها شديدة العَوَز)، تبعاً للمبادئ التي يشتمل عليها التصوّر الديكارتي للغة، وهو تصوّر يقوم ضمناً على مذهب «الأفكار الواضحة والمميزة»، وعلى صدارة الاستدلال شبه المنطقيّ من نمط: «أنا أفكّر فإذاً أنا موجود»، وعلى الطبيعة المنطقية التي يجب أن يتّسم بها كلّ قولٍ أو فهمٍ أصيل، وعلى الإمكانية الكاملة لتحديد المعنى القابل للإيصال وتمييزه.
فإذا ما تحوّلنا الآن إلى مقاربةٍ للّغةِ تفكيكيّةٍ ما بعد حداثيةٍ تقوم على مبادئ مثل انفصام كلّ من العلامة والدالّ والمدلول عن بعضها، وعلى المخادعات التي تنطوي عليها تقلّبات المعنى إلى ما لا نهاية، وعلى ما يتّسم به المعنى من ارتياب دائم، وعلى أنماط الالتباس السبعة عند ناقد ومنظّر أدبيّ كبير مثل وليم إمبسون، وعلى ما يتّصف به انعكاس الفكر على ذاته من ضروب العبث وما إلى ذلك من مبادئ تفكيكية مشابهة، ألا تبدو العربية التي يصفها رابان أشبه باللغة المثلى بالنسبة لمن أثقله القلق من «دزينات» الشرط الإنساني ما بعد الحداثيّ كما بالنسبة لمقدرة هؤلاء على التعبير عن حالهم؟
بروحيةٍ مماثلةٍ، يتبنّى داريوش شايغان نظرةً مشابهةً (ويوردها باستحسانٍ) عبّر عنها مستعرب فرنسي مشهور هو جاك بيرك، يقول شايغان: «يلاحظ جاك بيرك بحقّ، في إشارة إلى روح اللغة العربية، أنَّ اللسان العربيّ، الذي تفضي فيه كلّ كلمة من كلماته إلى الله، قد صُمِّمَ لحجب الواقع، وليس لفهمه». ويعيد ماليز روثڤن، في كتابه الممتاز «الإسلام في العالم»، إنتاج هذا النوع من الأحكام باقتباسه وصفَ جوناثان رابان اللغة العربية الواردة أعلاه ومن ثمّ تأكيده: (أ) أنّ العربية تمتنع على الترجمة إلى اللغات الأوروبية أكثر من معظم اللغات الأخرى، و(ب) أنّها «لغة تلائم التعبير الدينيّ كلّ الملاءمة». ثمّ يكمل روثڤن ليفسّر هذا الوضع الغريب فيقول: «اللغة العربية هي لغةٌ أقيمت حول الأفعال. فالأسماء والنعوت هي على الدوام مشتقّات من الأفعال، وعادة ما تكون صيغ فاعل أو مفعول أو الأسماء مشتقة من الفعل. فالشخص الذي يكتب هو كاتب، والكتاب هو مكتوب. أمّا الطائرات والطيور فهي أشياء تطير. وبالمقابل، فإنَّ اللغات الأوروبية، على تعدّد أصولها، تضرب بجذورها في الجواهر: معظم الأسماء في الإنكليزية هي أشياء في ذاتها وليست أجزاء من أفعال التي هي صيرورات. وما يجعل اللغة العربية لغة تلائم التعبير الدينيّ كلّ الملاءمة هو على وجه الدقّة أنّها تحجم عن تصنيف الكلمات في أجزاء متمايزة، وتبقي عليها بدلاً من ذلك في علاقة منطقية ومتوازنة مع مفهوم مركزي، هو جذر الفعل».
مرة أخرى، ألا تبدو العربية أشبه باللغة المثلى في ضوء هذا التحوّلٍ في الإطار المفاهيمي الديكارتي (تحول في البارادايم) صوب: (أ) نقد الفيلسوف ألفرد نورث وايتهيد كلَّ الفلسفات الأرسطية القائمة على فكرة الجوهر والماهية والتموضع البسيط، ودفاعه عن الواقع باعتباره صيرورة دائمة، أو (ب) نقد هنري برغسون الشديد للشيئية «Chosisme» ورفضه فكرة الأشياء كما هي في ذاتها لمصلحة واقع هو سيلان كوني متحرك على الدوام كما لمصلحة شكل من أشكال التطور الخالق المتواصل، أو (جـ) رفض لوكاش للتشييء بمختلف ضروبه دفاعاً عن واقع هو لا أكثر من أحداث وظروف وصيرورات.
إذا كان صحيحاً أنه «في البدء كان الكلمة»، فهل كانت «الكلمة» فعلاً أم اسماً؟ كانت فعلاً بالنسبة إلى اللغة العربية واسماً بالنسبة إلى اللغات الأوروبية، وفقاً لما يقوله روثفن. وسؤالي إذاً، أيّهما أقرب إلى روح الحداثة: الانطلاق من الاسم الساكن أم من الفعل المتحرّك؟ على أقلّ تقدير، فإنَّ جواب فاوست واضح من ترجمته الجديدة للآية الأولى من إنجيل يوحنّا على النحو المعروف: «في البدء كان الفعل».
بالإضافة إلى ذلك يمكنني أن أذكر الاعتبارات التالية دفاعاً عن اللغة العربية: أوّلاً، وجهة نظر روسو في مقالته حول أصل اللغة والتي تفيد أنّ اللغة المجازية هي التي ولدت أولاً، أمّا المعنى الصحيح فلم يكتشف إلاّ آخرًا، وهذا ما يتوافق مع الأطروحة التي ترى أنَّ لغة «مجازية» مثل العربية لا بدّ أن تأتي أوّلاً، أمّا اللغات المكرّسة للمعنى الحرفيّ الصحيح (مثل الإنكليزية والفرنسية) فلا بدّ أن تأتي آخراً. ثانياً، فإنَّ العربية كما صُوِّرَتْ أعلاه لا بدّ أن تلائم تماماً فكرة «إرجاء المعنى» عند فيلسوف مثل جاك ديريدا، كما مع قولته الشهيرة: «ما من شيء خارج النصّ»، كما مع الفكرة التفكيكية القائلة بـ «نهاية المعنى» كلياً. ثالثاً، حقيقة أنَّ العربية بـما فيها من «غابات التباس» مفترضة (على حدّ وصف رابان) تبدو أشدّ تلاؤماً من الإنكليزية، مثلاً، مع الترسيمة النقدية الشاملة لدى أستاذ ومنظّر أدبيّ عظيم مثل وليم إمبسون، خاصةً حين يثني على «الالتباس» بالعبارات التالية: «يمكن للالتباس ذاته أن يعني نوعاً من عدم الحسم بشأن ما نعنيه، ونيَّةً في أن نعني أشياء عديدة، واحتمالَ أن يكون شيئاً أو آخر أو كلا الشيئين قد عُنيا، وحقيقةَ أنَّ لقولٍ ما معاني عديدة… هكذا، قد تكون لكلمة ما معانٍ متعدّدة مميّزة أو معان عدّة مرتبطة ببعضها، أو عدّة معان يحتاج واحدها الآخر كي تكمل معناها؛ أو معانٍ متعدّدة تتّحد معاً كي تعني الكلمة علاقة واحدة أو صيرورة واحدة».
هنا، بمقدورنا أن نرفع الرهانات إلى درجة أعلى بهذا الصدد: (أ) بأن نتخيّل التحرّر الذي يمكن للغة العربية أن توفّره مما دعاه ستيورات تشيس ذات مرّة بـ «طغيان (أو استبداد) الكلمات»، و(ب) أن نتخيّل تلك التفريعات المعقّدة التي يمكن للعربية أن تضعها في متناول محاولة إمبسون أن يوضّح معنى النقاشات المرفوعة إلى الدرجة الثانية أو الثالثة حول فكرة «التباس الالتباس» أو تضعها في متناول محاولة ناقد مثل أي. أ. ريتشاردز لأن يقبض على «معنى المعنى». لذلك أقول إنّه على جميع عشّاق فيلم أكيرا كوروساوا الكلاسيكي «راشومون» (1950) أن لا يُعْجَبوا بالعربية لخصائصها الراشومونية المتأصّلة وحسب، بل أيضاً أن يُعْلوا من شأنها بوصفها الأداة الطبيعية «للواقعية السحرية» ولتعليق معايير الواقعيّة التقليدية جميعاً.
أمّا في النقطة الثالثة فأودّ أن أضع أمامكم الرواية التالية لتجربةٍ مررت بها وذلك بسبب عجزي إلى هذا اليوم عن تصنيف تلك التجربة ضمن سياق الاستشراق أو الاستغراب نظراً لما فيها من التباس عميق ولافت يبدو أنه يتحدّى مقولاتٍ مثل الشرق والغرب ويتجاوزها.
منذ فترة ليست بالبعيدة، شاركتُ في مؤتمر مهيب في «مركز الهند الدولي» في نيودلهي عُنِيَ بعلاقات الهند مع الشرق الأوسط وعُقِد بتوجيه من الدكتور سينغ، السياسي والبرلماني والباحث الهندي الرفيع وبرئاسته. وبذل الزملاء الهنود في هذا المؤتمر ما بوسعهم لدفعِ أجندةٍ معينة حيث أرادوا أن يُسقطوا بالكامل مفهوم «الشرق الأوسط» من الاستعمال مع كلّ ما يلحق به من حمولة ومضامين واستعمالات نظراً لأصوله الاستعمارية ونبرته الاستشراقية ومرجعيته في المركزية الأوروبية الصارخة.
غير أنّ ما أفزعني وصدمني هو اقتراحهم مفهوم «غرب آسيا» كبديل، أي كتسمية «صحيحة» وملائمة للجزء الذي أنتمي إليه من العالم (الشرق الأوسط العربي)، على أساس أنَّ هذا المفهوم يتفوّق على مفهوم «الشرق الأوسط» التقليدي بأصالته، ودقّته، وكفاءته.
ولقد زعموا، على وجه الخصوص، أنَّ مفهوم «غرب آسيا» يعيد ما شاعت تسميته بـ «الشرق الأوسط» إلى «مرساته الآسيوية» (كما دعوها)، وأنَّه «يتجاوز التصنيف المركزي الأوروبي للبلدان والثقافات والشعوب إلى شرق أدنى، وشرق أوسط، وشرق أقصى بحسب بعدها عن أوروبا أو قربها منها». فرددتُ في الحال مجادلاً: إِنْ كان عليّ أن أختار، على سبيل توصيف الذات و/أو تحديدها، بين رؤيتكم الطبيعية لنا بوصفنا «غرب آسيا» ورؤية أوروبا الطبيعية لنا بوصفنا «الشرق الأوسط»، فلن أتردّد لحظةً في اختيار التسمية الثانية، (أي الشرق الأوسط)، انطلاقاً من أسباب وجيهة تدفع إلى ذلك.
وأوضحت للمؤتمر:
أوّلاً- من بين هاتين الطريقتين المنحازتين والمشوّهتين أصلاً في النظر إلينا وتسميتنا، فإنَّ تسمية «الشرق الأوسط» لها ميزة الانتشار الواسع، ومزيّة الاستخدام الثابت المديد، وهيبة انبعاثها من المركز الفعلي للعالم الحديث (أي أوروبا) وإشارتها إليه.
ثانياً- أنّ تسمية «غرب آسيا» تنتهك على نحوٍ منفّر الطريقة الأساسية التي ننظر بها إلى أنفسنا بوصفنا عرباً «شرق أوسطيين»؛ لأنها تقطعنا عن مصر الواقعة في أفريقيا!؟ وبالمقابل، فإنّ ما من نظرةٍ استشراقية، أو تعريف مركزي أوروبي، أو تصوّر استعماري لـ «الشرق الأوسط» سبق له أن فصل مصر عن بقية المشرق العربي؛ أي عن الجناح الشرقي للعالم العربي، كما نشير إلى أنفسنا أيضاً. ولقد ألححتُ كذلك على أنَّ تسمية «غرب آسيا» هذه تطيح بصورةٍ أخرى لدينا عن أنفسنا كجزءٍ لا يتجزّأ من عالم عربي يضمّ شمال إفريقيا في حين تبدو التسمية الجديدة وكأنها تحيل شمال إفريقيا برمّته إلى مجال ثانٍ أو عالم آخر.
ثالثاً- إنّ تسمية «غرب آسيا»، بخلاف تسمية «الشرق الأوسط»، تسلبنا ما لوجودنا وتاريخنا وتصوّرنا لذاتنا من بعدٍ متوسّطي، لطالما كان مرتبطاً ومتشابكاً مع الضفّة الأخرى من بحيرتنا، أي مع الشاطئ الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط. وهنا، كان عليّ أن أتقدّم بحججي جميعاً، فقلت: فكّروا بالاسكندر المقدوني، وروما، وهانيبعل، وذهاب المسيحية إلى أوروبا من عندنا، وبتوسّع الإسلام إلى إسبانيا وأبعد منها، وبالصليبيين حين جاؤونا وبالعثمانيين في أوروبا، وبالاستعمار الأوروبي الحديث لبلادنا وهلم جرا. فكّروا بحقيقة أنَّ هذين الجانبين من المتوسّط يتقاسمان التراث اليهودي- المسيحي- الإسلامي، والإرث اليوناني- الروماني، وهبوط الإسلام على بيزنطة وعلى الشرق الأوسط المسيحي اليوناني ثقافياً، وبالهلّينستية التي شكّلت أساس العقل السكولائي القروسطي لليهودية، والعقل السكولائي القروسطي للمسيحية الشرقية، كما للمسيحية الغربية، والعقل السكولائي القروسطي للإسلام وتقاسمها كلها أفلاطون، وأرسطو، وأفلوطين، وآدم، وحواء، وإبراهيم، وموسى.
وختمتُ بالتأكيد على أنّ هذا النوع من الديالكتيك التاريخي العابر للثقافات واللغات والقارات لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يستوعب في مفهومٍ هزيل مثل «غرب آسيا»، ولذلك فإنني أتشبّث بمفهوم «الشرق الأوسط» على الرغم من عيوبه الواضحة ونقائصه المعروفة.
وعليّ أن أعترف أيضاً أن تدخّلي هذا قد أزعج مضيفيَّ الهنود وزملائي هناك- خاصة في اليوم الأوّل من الاجتماع - لما أثاره في الحال من اضطراب في أجندة المؤتمر. غير أنّ الجوّ تحسّن لاحقاً، لكنّني لم أستطع أن أتجنّب ما تنامى لديّ من ارتياب شديد بأنّهم كانوا يتوقون كلّ هذا التوق إلى تسميتنا بـ «غرب آسيا» لأنّهم يستوردون معظم بترولهم ممّا يُعَدّ بالنسبة إليهم غرب آسيا بالفعل.
خاتمة:
من خارج هذا السرب، رجال داوموا على مشقة الفــكر والنــقد، وعاهــدوا العــقل، أن لا يلينوا، من خارج هؤلاء، صادق جلال العـظم، الذي رفض بســلوكه وطريـقة تفكيره، أن يصبح جزءاً من آلة الضوضاء العربية، حيث ساد الخلط والإيهام والانتهاز والكلام الملتبس.
في خلال خمسين عاماً، دُمرت مدن عربية كثيرة (بيروت، بغداد، القدس، غزة، رام الله، مقديشو، وسواها) ولم تدمر إرادة الكلمة المستقلة الناقدة، التي انتظم العظم في صراطها الصعب، فاستحق أن يكون ذاته بلا مواربة. كان العظم في مسيرته، لحظة الوعي المضيئة، في أزمنة متعددة: زمن الهزيمة، وزمن الثورة، وزمن الظلاميات المستشري.
مثقفونا، في أكثريتهم، يبحثون عن مشروعية خارجهم، وعن مرجعية خارج عقلهم. صادق جلال العظم، ظل على خميرته، فأعطانا خبزاً، وهو طيب المذاق، في ليل الهزيمة الطويل، ونفق السقوط المدوي.
المراجع:
- الحب والحب العذري، صادق جلال العظم.
- النقد الذاتي بعد الهزيمة، صادق جلال العظم.
- نقد الفكر الديني، صادق جلال العظم، 1962.
- ذهنية التحريم، صادق جلال العظم، 1992.
- دفاعاً عن المادية والتاريخ، صادق جلال العظم.
- المقدمة وحياة المفكر وحياته وأعماله والخاتمة ومقالاته من المواقع الإلكترونية.
أسعد طربيه
مروان رضوان
اكتشف سورية
علي:
اذا اردت ان تتابع نقاد الدكتور العظم سوف تجد ان يحاولون قدر الامكان انتقاده علميا فيسقطون بالفخ الذي نصبوه لانفسهم انهم ينتقلون في وصف مخلوقاتهم بين الماده والطاقه والروحيه ان صح التعبير وهذا دليل الازمة العقليه التي يمرون بها حيث يكون التعبير عن هذه المخلوقات منوطا بنوع الحاجه التي يحتاجونها
العراق
صالح عبد الله التميمي :
لقد ناقش الدكتور صادق العظم مجموعة كبيرة من المفكرين منهم على سبيل المثال :
1- عبدالرحمن الميداني في كتابه ( صراع مع الملاحدة حتى العظم ) .
2- جابر حمزة فراج في كتابه ( البرهان اليقيني للرد على كتاب نقد الفكر الديني ) .
3- محمد عزت نصر الله في كتابه : ( الرد على صادق جلال العظم ) .
4- محمد عزة دروزة في كتابه : ( القرآن والملحدون ) .
5- كامل سعفان في كتابه : ( الذين يلحدون في آيات الله ) .
وغيرهم كثير كمثل : سليمان الخراشي , وحسن الأسمري , وعبداللطيف الفرفور , وأحمد أبوعامر .
السعودية