الفن والرأسمالية

يجد الفنان نفسه، في العصر الرأسمالي، في وضع جد خاص. لقد كان الملك ميداس يحوّل كل ما يلمسه إلى ذهب: أما الرأسمالية، فقد حوّلت كل شيء إلى بضائع. وعن طريق رفع الإنتاج والإنتاجية إلى درجة لا يمكن تصورها، وعن طريق امتداد النظام الجديد، بصورة عارمة، إلى كافة أنحاء العالم، وإلى جميع حقول التجربة الانسانية، فككت الرأسمالية العالم القديم، وحوَّلته إلى غمامة من جزيئات مدوّمة؛ ودمرت كل علاقة مباشرة بين المنتج وبين المستهلك، وطرحت كل المنتجات في سوق غفل، لكي تباع أو تشرى.
ففي السابق، كان الحرفي يعمل، حسب الطلب، لمستهلك من نوع خاص. أما منتج البضائع في العالم الرأسمالي، فهو يشتغل الآن من أجل مشتر مجهول. كانت منتجاته تبتلعها موجات المزاحمة وتذهب شطر المجهول. إن الانتاج السلعي المنتشر في كل مكان، وتقسيم العمل المتزايد، وانقسام المهنة ذاتها، وظهور القوى الاقتصادية المغفلة، كل ذلك دمَّر ما كان موجوداً من طابع مباشر في العلاقات الإنسانية، وأدى بالإنسان إلى التغرب عن الواقع الاجتماعي أكثر فأكثر، وعن ذاته أيضاً. ففي مثل هذا العالم أصبح الفن سلعة أيضاً، وأصبح الفنان منتجاً للسلع. وحلت محل الدعاية الشخصية السوقُ الحرة التي كانت عملياتها صعبة أو مستحيلة الفهم، والمؤلفة من مجموعة هائلة من الزبائن الذين يطلق عليهم اسم "الجمهور". وقد خضع الأثر الفني، أكثر فأكثر، لقوانين المزاحمة.
ولأول مرة في تاريخ الإنسانية، أصبح الفنان فناناً "حراً"، وشخصية "حرة" الى حد العبث، إلى حد الشعور بالوحدة الجليدية. لقد أصبح الفن شاغلاً نصف خيالي ونصف تجاري.
لقد ظلت الرأسمالية، مدة طويلة، تعتبر الفن كشيء مشبوه، تافه، مريب؛ "لم يكن الفن مريحاً". وكان مجتمع ما قبل الرأسمالية يميل إلى التبذير، وإلى إنفاق لا مبالٍ وواسع، ويميل إلى التسليات المزهوة، فكان يشجع الفنون. أما الرأسمالية، فقد أدخلت على الفن روح الحساب البارد والتزمت البيورتياني المتشدد. كانت الثروة، في شكلها السابق للمرحلة الرأسمالية، متقلبة ومنتشرة بشكل واسع؛ أما الثروة الرأسمالية، فقد تطلبت التراكم والتمركز الثابتين، والنمو المستمر. يصف كارل ماركس لنا الرأسمالي على هذا النحو:
"إنه عميل التراكم المتعصب، يجبر الناس، بلا رحمة ولا شفقة، على الإنتاج من أجل الإنتاج، ويدفعهم هكذا بشكل غريزي إلى تطوير القوى المنتجة والشروط المادية التي تستطيع وحدها أن تكون قاعدة مجتمع جديد ومتفوق.
"إن الرأسمالية لا يمكن أن تلقى الاحترام إلا بمقدار ما تكون رأسمالاً ممثلاً في رجل. وهو، في هذا الدور أيضاً، يشبه البخيل الذي يسيطر عليه حرصه الأعمى على الثروة المجردة وعلى القيمة. ولكن الذي يظهر لدى البخيل في صورة هوس فردي، هو لدى الرأسمالي نتيجة الآلية الاجتماعية التي لا يعدو أن يكون سوى ترس من تروسها.
"إن تطور الإنتاج الرأسمالي يتطلب نمواً مستمراً في رأس المال الموظف في المؤسسة، والمزاحمة تفرض القوانين الملازمة للإنتاج الرأسمالي، باعتبارها قوانين خارجية إلزامية لكل رأسمالي فرد. فهي لا تسمح له بالحفاظ على رأسماله بدون تنميته، وهو لا يستطيع أن يستمر في تنميته إلا بواسطة التراكم المستمر والمتزايد".
ويقول ماركس في مكان آخر:
"جمّعوا، جمّعوا! تلك هي الشريعة والأنبياء! إن السبب المباشر لزيادة الرأسمال هو الاقتصاد لا الصناعة. وفي الحقيقة، إن الصناعة تقدم مادة المدخرات التي يخلقها الاقتصاد ("آدم سميث" في ثروة الأمم).
"وفروا، وفروا دائماً؛ أي أعيدوا من جديد، وباستمرار، تحويل أكبر قسم ممكن من القيمة الزائدة أو من المنتوج الصافي إلى رأسمال! التكديس لأجل التكديس، والإنتاج لأجل الإنتاج، ذلك هو شعار الاقتصاد السياسي الذي أعلن المهمة التاريخية للعصر البرجوازي".
إن ثروة الرأسمالي المتزايدة قد جاءت بالطبع بمتارف جديدة، ولكن ترفه، كما لاحظ ماركس لم يرتدِ... أبداً المسلك الإقطاعي الصريح، برغم أنه كان من الصعب عليه إخفاء البخل الأكثر دناءة، وروح الحرص الأكثر ضِعة.
إن الترف، بالنسبة للرأسمالي، قد يعني اشباع رغباته الشخصية المحض؛ ولكنه يشكل أيضاً إمكانية لعرض ثروته لأسباب تتعلق بالهيبة. فالرأسمالية ليست في جوهرها قوة اجتماعية ذات حدب أو عطف على الفنون، وليست هي ميالة إلى تشجيعها؛ فإذا ما احتاج الرأسمالي الوسط الى الفن، فذلك لكي يجمّل حياته الخاصة، أو أيضاً لكي يوظف ماله توظيفاً جيداً. ولكن صحيح، من ناحية أخرى، أن الرأسمالية قد أطلقت قوى إنتاج فني هائلة، كما أطلقت أيضاً قوى اقتصادية هائلة. وقد أثارت مشاعر جديدة وأفكاراً جديدة وأتاحت للفنان وسائل جديدة للتعبير عنها. ولم يعد من الممكن التشبث بأسلوب جامد بطيء التطور؛ فقد تحطمت الحدود الإقليمية التي تشكلت في إطارها هذه الأساليب، وأخذ الفن يتطور فوق رقعة فسيحة من الأرض،وفي زمن يسير، بوتيرة سريعة. ولهذا فإن الرأسمالية، رغم كونها، أساساً، غريبة عن الفنون، فقد ساعدت على انطلاق الفنون، وعلى إنتاج مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية المركبة، والمعبرة، والأصيلة.
ومن جهة أخرى، فإن وضع الفنون العارض في العالم الرأسمالي لم يتضح بشكل كامل، طالما أن البورجوازية مازالت طبقة صاعدة، وما دام الفنان الذي يعتنق ويعبر عن أفكار بورجوازية، لا يزال يشكل جزءاً من قوة تقدمية ونشيطة.
ففي عصر النهضة، وخلال الانطلاقة الأولى للنهوض البورجوازي، كانت العلاقات الاجتماعية لاتزال شفافة نسبياً، ولم يكن تقسيم العمل قد اتخذ بعد الأشكال الجامدة الضيقة، التي وجب أن يتخذها فيما بعد، ولم يكن غنى القوى الانتاجية الجديدة موجوداً إلا بالقوة داخل الشخصية البورجوازية. كان البورجوازي الحديث الثروة، والأمراء التعاونيون معه، سادة كرماء. وكانت عوالم جديدة تنفتح إذن، أمام الإنسان صاحب الموهبة الخلاقة. وكان العالم الطبيعي، والمخترع، والمهندس، والمعماري، والنحات، والرسام، والأديب يختلطون غالباً في شخصية واحدة، تؤكد إيمانها بعصرها. وكان موقفها الأساسي يتلخص في هذه الصيحة: "ما أعظم بهجة العيش!". أما الموجة الثانية فقد تدفقت مع الانتفاضة الديموقراطية البورجوازية، التي بلغت ذروتها في الثورة الفرنسية. وهنا أيضاً، عبر الفنان، بذاتيته المئناف، عن أفكار عصره، ذلك أن هذه الذاتية كانت بالضبط ذاتية الإنسان الحر المدافع عن قضية الإنسانية، وعن توحيد بلده هو بنفسه، وعن الإنسانية بأسرها، بروح من الحرية والمساواة والإخاء. كانت هذه راية العصر، والبرنامج الإيديولوجي للبورجوازية الصاعدة.
يقيناً أن التناقضات الداخلية للرأسمالية كانت قد بدأت تظهر. وقد أخذت الرأسمالية تنادي بالحرية، وهي تدركها عملياً على أنها العبودية المأجورة. وقد أخضعت اللعبة الحرة، التي طالما نادت بها لكل الطاقات البشرية، لشريعة الغاب، شريعة المزاحمة الرأسمالية. وفرضت على الشخصية الإنسانية، المتعددة الجوانب، نطاق تخصص ضيق. وبدأت هذه التناقضات تطرح المسائل، وكان لابد للفنان الإنساني المخلص من أن يشعر بخيبة أمل عميقة، أمام النتائج التافهة تماماً، والخائبة والمقلقة جداً للثورة الديموقراطية البورجوازية. وعقب سنة 1948، سنة انهيار هذه الثورة في أوروبا، أصبح ممكناً التحدث، بحق، عن ضرب من خيبة أمل في الفنون. فقد انتهت المرحلة الفنية الباهرة بالنسبة للبورجوازية. ووجد الفنان نفسه، والفنون، في غمرة الإنتاج الرأسمالي للبضائع، مع ما فيها من استلاب كامل للكائن الانساني، وأصبحت جميع العلاقات البشرية ظاهرية ومتسمة بطابع مادي، مع ما في ذلك من تقسيم للعمل، وتجزئة، وتخصص صارم، وظلامية في كل العلاقات الاجتماعية، وعزلة للفرد ورفض متزايد له.
ولم يعد بوسع الفنان الإنساني الصادق أن يمحض مثل هذا العالم إيمانه، ولم يعد في وسعه أن يؤمن بوعي كامل أن فوز البورجوازية يعني انتصار الإنسانية.


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق