المحتوى والشكل

إن تفاعل المحتوى والشكل لمسألة حيوية في الفنون، وهي كذلك في غير الفنون. فمنذ أرسطو الذي كان أول من طرح القضية، والذي كان جوابه الخاص عليها أقرب إلى الخطأ منه إلى الصواب، اعتبر الكثيرون من الفلاسفة والفنانين أن الشكل هو بمثابة العنصر الأساسي والأعلى والروحي للفن، وإن المحتوى هو بمثابة العنصر الثانوي، الناقص، وليست له القدرة على الإحاطة بكل جوانب الواقع. ويزعم مثل هؤلاء المفكرين، أن الشكل الخالص، إنما هو جوهر الواقع؛ وأن كل مادة ترمي بإلحاح إلى أن تذوب، ضمن نطاق الممكن، في الشكل، وأن تصبح شكلاً، وتحقق إتقان الشكل، وبالتالي، تحقق إتقان الشكل بوصفه شكلاً. أن كل ما في هذا العالم مكوّن من شكل ومادة، وبقدر ما يتسلط الشكل، تتضاءل مقاومة المادة، وتعظم قيمة الإتقان المحقق. وهكذا فإن العلوم الرياضية هي أكمل العلوم في نظر هؤلاء المفكرين، وإن الموسيقى هي أكمل الفنون، ذلك لأن الشكل في كل منهما قد أصبح يشكل محتواه الخاص. وقد لوحظ الشكل، على طريقة "أفكار" أفلاطون، بأنه بمثابة شيء ما أولي، ترمي المادة إلى الانشغال به، وأنه مبدأ ذهني ذو نظام يدير المادة. إن هذا المفهوم يعكس تجارب الخزّاف البدائي، القائل: "لقد خلقت شكلاً في الأساس، ثم سكبت الكتلة الخام في الشكل المجهَّز".

لقد أعد هذا المفهوم في مدرسة علم الكلام، وفي فلسفة توما الإكويني، الذي طرح فكرة نظام ميتافيزيقي على نطاق العالم. كان الإكويني يعلّم بأن كل كائن يتحرك وفق تدبير ميتافيزيقي غائي؛ فالنظام (نظام التباين في نطاق الوحدة) يستلزم الغائية؛ وفكرة النظام هي مبدأ غائي. كل الكائنات تتجه نحو هدفها الغائي؛ وكل المخلوقات مصفوفة حسب نظام، ذلك لأن الله هو الذي خلقها. إن كل الكائنات، ما عدا الله، هي ناقصة، وفي كل الكائنات رغبة إلى الكمال. وهذا الكمال يُمنح لأشياء هذا العالم بشكل كمون باطني، ومن طبيعة هذا الكمون النزوع ليصبح عملاً أو واقعاً. فالكائن الناقص يجب أن يكون فعّالاً لكي يبلغ الكمال. إن فعالية كل مجموع مادي إنما هي الشكل: هذا هو المبدأ الفعال. وكل نشاط يتم بفضل الشكل، ولكل نشاط هدف إكمال طبيعة صاحبه. إن كل مخلوق يبلغ، ضمن هذا النظام، أكبر درجة من الاتقان بواسطة فعالية توافق طبيعته، أي بواسطة فعالية تتعلق بشكله الطبيعي. إن العلة الشكلية تطابق العلة الغائية. والشكل يتجه نحو هدف، فهو غاية، وهو المصدر الأصلي للكمال. وهكذا فإن الشكل يطابق جوهر الأشياء، وتُردّ المادة إلى درجة ثانوية، غير أساسية.

إن العديد من نظريي الفن، في المجتمع البورجوازي الحديث يستقون ثقتهم ومبرراتهم من أمثال هذه المذاهب التي مازالت تؤثر على العديد من أشكال فنون، وعلوم، وفلسفة عصرنا الراهن. فإذا ما كان الشكل مشرِّع الطبيعة بأسرها، فهو اذن بالتأكيد العنصر الحاسم في الفن، ويكون المحتوى عنصراً غير أساسي وأدنى قيمة. ولهذا، قبل أن نعالج قضية الشكل والمحتوى في الفنون، يجب أن ننظر في الطبيعة ذاتها، وأن نتساءل عما نريد أن نقوله، بالضبط، عندما نتحدث عن "شكل" الأجهزة الطبيعية، وما إذا كان صحيحاً إن كل مادة تميل نحو شكلها النهائي.


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق