الحنين إلى

إن الأشكال الفنية، بعد أن يجري إبداعها، وإخضاعها للتجربة، ونقلها و"تكريسها" بكل معنى هذه الكلمة، تتخذ طابعاً محافظاً إلى أقصى حد. ويحصل التمسك بهذه الأشكال القديمة، باحترام مهيب، حتى في الوقت الذي يُنسى فيه المعنى السحري الأصلي بوجه عام: فكل الأشكال الشفهية، والجوقية، والتصويرية الخ... التي كان لها في الماضي معنى سحرياً واجتماعياً خاصاً، قد انحفظت في فن المجتمعات المتطورة؛ ولم يتحرك قانون السحر الاجتماعي الجديد إلا ببطء كلي، ليفسح المجال لقانون جمالي. ولقد كان من الضروري دائماً، وجود محتوى اجتماعي جديد، لكي يدمّر أو يكيف الأشكال القديمة بشكل جزئي، ويمهد لنشوء أشكال جديدة. ولم يصبح بإمكان الفرد أن يخرج من الجوقة الجماعية القديمة بوضوح، ليدخل في الحركات الجوقية المنظمة، وفي أشكال اللغة والغناء المنظم سحرياً، إلا في مجتمع طبقي متطور نسبياً، كالمجتمع الإغريقي، زمن "الحروب الميدية" فقد تحول طقس تقديم الذبيحة، عندئذ، إلى تمثيل احداث اجتماعية جديدة، بحيث انصهر العنصر الديني والجماعي، في النهاية، بالعنصر الفردي الأكثر حرية وإنسانية. ولولا هذا النزاع بين المبادرة الشخصية (الناجمة عن الإنتاج وعن تبادل البضائع) وبين الأرستقراطية العقارية (المدنية أو الدينية) لما كان بوسع الفنون التشكيلية، أبداً، أن تحظى باهتمام الإنسان الفردي. وهذا النزاع ذاته آذن بنشوء الشعر الغنائي الجديد، الذي أدخل عناصر إنسانية وموضوعية في الترتيلة السحرية، وفي الصلاة الجماعية، وفي التعازيم الموجهة للآلهة وللأموات. لقد صبَّ الانسان خمراً جديداً في زقاق قديمة، وكان على المحتوى أن يبقى زمناً طويلاً لكي يجد أشكال تعبير جديدة.

نلاحظ إذن، أن أشكال الفن هي محافظة بوجه عام، ومقاومة لكل تبديل. إن بعض الأشكال المستخدمة اليوم، ما زالت تحمل أثر العلاقات الجماعية والفرائض القديمة. وهذا ليس صحيحاً بالنسبة لشكل الرواية "المنفتح"؛ كما أنه ليس بصحيح بالنسبة للدراما الحديثة أيضاً، ولكنه صحيح بالنسبة للموسيقى وللشعر الغنائي. لقد زالت وظيفة الفن السحرية منذ زمن طويل، أما أشكاله فقد انطبقت على الأوضاع والمتطلبات الاجتماعية الجديدة، عقب العديد من النضالات. ومع ذلك فإن شبح سحر ما قبل التاريخ مازال متسلطاً على الشعر والموسيقى المعاصرين.
إن العودة الطواعية إلى الأشياء القديمة، إلى ما هو خرافي، و"بدائي" في العديد من آثار وحركات الفن الحديث، ليست بلا علاقة مع ما تقدم ذكره. فالطابع الوثني، لا بالنسبة للبضاعة وحسب، بل بالنسبة لمجمل جهاز تكنيكي، اقتصادي، واجتماعي يتغرّب الفنان عنه بشكل تام، والتخصص والتمييز اللامتناهيين للمجتمع البورجوازي الحديث، كل هذا يخلق حنيناً إلى الينابيع، وإلى وحدة تكتفي بذاتها.

إن الحذر الذي يبديه الفنان تجاه كل ما هو سهل، نظيف، ليدفعه إلى العبوس والقساوة، وإلى أسلوب قديم يرفض دغدغة الحواس. إن فن الانطباعيين الحواسي الذي يحول العالم إلى نور، وألوان، وأجواء، كان ردة فعل، متمثلة: برفض المظاهر المتقلبة، والرغبة في لمس بنية الأشياء، وديمومتها، لا لحظتها الهاربة. فالتمركز الشكلي أصبح الهدف؛ وأصبحت مهمة أثر الفنان أو الروائي، الإثارة المباشرة، على نحو ما هي الموسيقى والشعر، وذلك بالاعتماد على الشكل أكثر من الاعتماد على الموضوع.

ولقد انصهرت عدة عوامل لكي تشكل انطلاقة جديدة إلى الحنين الرومنطيقي "للينابيع". وفي الشعر الغنائي المعاصر، ثمة اتجاهان متعارضان أحدهما يسعى لبناء القصيدة بطريقة واعية كل الوعي، ومستقلة عن كل "سحر"، والآخر يمثل الرغبة في العودة إلى "الينابيع"، وفي طرح المعنى ومزج الكلمات بشكل اصطلاحي، وإعطائها من جديد طراوة الشباب، والمعنى السحري الذي غُفل عنه منذ زمن بعيد. وهذا ما يعبر عنه أراغون في واحدة من قصائده الرائعة، فهو يقول:
"إنني بواسطة الكلمات أقول أشياء عفوية
أكثر عفوية من تساقط الثلج
كلمات عديمة الحظ، تقرأ في الصحيفة
أتكلم بها بلسان الناس.
...
وفجأة تصبح الكلمات كما لو أن فلساً سقط على الزفت
وأعادنا إلى منتصف خطوتنا
وكما يجعلنا نصمت صدى مصيبة غافل
تسقط كلمة صدفة، كلمة غير مقبولة.
...
وإذا تكلمت عن العصافير، وعن التحولات
في شهر آب الذي يذبل في أرض الحندقوق
وإذا تكلمت عن الريح، وعن الورود
فإن موسيقاي تتحطم، وتتحسر شاهقة".

إن الشاعر هنا يبغض الكلمة التي تنتقل من يد إلى يد، كالفلس، ولكن الفلس يسقط فجأة ويرنّ على الأرض، وعندئذ لا يبقى فلساً، بل مجرد معدن، رنينه مشاعر هاجعة منذ زمن طويل، في نفايات اللغة اليومية. وليس لكلمة القصيدة معنى إيجابياً وحسب، وإنما لها معنى أكثر عمقاً، هو بشكل ما سحري. إن انفعال الانسان البدائي الذي يخلق شيئاً من جديد عن طريق تسميته، ويستخدمه أيضاً لايزال مضمراً في الشعر. فكثير من الكلمات في القصيدة، تبدو كأنها تنبجس من "الينبوع" بشكل مباشر، وتترك فينا انطباعاً يخيّل لنا معه أنها ملفوظة للمرة الأولى، في هذا الإطار الخاص، وبهذا المعنى الخاص. إن كلمة القصيدة لفتية، ونقية، وسليمة، كأنها واقع مخبأ تبلور في التو. وهناك أناس جادون، تقلقهم المشاغل المفيدة يعتبرون الشعر الغنائي صبيانياً وتافهاً، بسبب أن هذا الشعر لا يتحدد بتأكيدات بسيطة، بل يمتزج بالسحر، ويتلاعب بالكلمات، ويتكلم لغة بعيدة عن لغة عصرنا. وبالحقيقة، يغلب الظن على أن لغة الشاعر ليست لغة "عادية"، مستخدمة للاتصال العادي بين الناس، وهذا الظن له ما يبرره: فكل شاعر يعاني رغبة خلق لغة جديدة كل الجدة، وقادرة على التعبير المباشر، أو رغبة للعودة إلى "الينابيع"، إلى أعماق لغة قديمة، سليمة، مزودة بقدرة سحرية. ومعظم الشعراء الغنائيين الكبار، أضافوا إلى اللغة كلمات جديدة، مجهولة حتى الآن، واكتشفوا كلمات كانت منسية، أو أنهم أضفوا على كلمات مستخدمة معنى مزيداً مليئاً بالطراوة. والمحاولات التي يقوم بها العديد من الشعراء الحديثين، بغية إدخال تعابير عامية، واصطلاحية تقنية، لمتصلة بهذه الرغبة اتصالاً وثيقاً. وهذا ينطبق على بريشت الذي قطَّر لغته، ابتداء من لهجة مسقط رأسه "أوغسبور"، حتى لغة التوراة اللوثرية وانطلاقاً من أغاني الاحتفالات الشعبية وغيرها من المنابع.

إن التعبير عن التجربة الذاتية بلغة ذاتية، عندما تكون جميع الشروط قد دمّرت واستحالت كل أسباب الاتصال بالآخرين، لمما يتعارض مع وظيفة الشعر. فحتى تجربة الانسان التي يستحيل التعبير عنها عملياً، هي تجربة إنسانية، وبالتالي، تجربة اجتماعية، وإن تكن في أعلى درجة من الذاتية. وحتى العزلة المطبقة التي تميز فناني اليوم، فهي تجربة اجتماعية مشتركة بين أناس عديدين. والشاعر هو مكتشف التجربة، وبفضله يكتسب الناس القدرة على معرفتها، وعلى تمثلها، منذ ما يعبر عنها عقب اكتشافها. إن اكتشاف وحشة المدن الحديثة في شعر بودلير، لم "تخلق رعشة جديدة" وحسب، بل أشارت إلى نقطة رنّ صداها في ذهن ملايين الناس المستعدين، عن لا وعي، لاجتنائها. ولكي يحدث مثل هذا الرنين، استخدم الشاعر وسائل موجودة في اللغة، بشكل جعل كل كلمة فيها تتخذ معنى جديداً. فالتجديد إنما يكمن في العلاقة الجدلية، في تفاعل الكلمات داخل القصيدة، ومن خلال كون الكلمة لا تنقل محتوى وحسب، ولكنها تنقل محتوى قائماً بذاته أيضاً، إذا جاز التعبير، أي، واقعاً مستقلاً. إن لكل كلمة مكانها في القصيدة، مثلما للذرة مكانها في البلور: ومن هنا ينتج شكل القصيدة وبنيتها. وعندما يحدث الشاعر تبديلات غير هامة، وطفيفة المظهر، في وضع بعض الكلمات فإنه يجعل القصيدة عديمة الجدوى، ويدمّر بنيتها وشكلها، فيتحول جسمها المتبلور إلى كتلة عديمة الشكل.


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق