Discover-Syria
 

 



مسرحية خمسون للجعايبي سوناتا الغضب

من حضر أو سيحضر «خمسون» سوف يدرك بالتأكيد أنّ الظلام يجعل حدقة العين أكثر اتّساعاً والصوتَ أكثر غضباً، وحينئذ، تكون الضربات أكثر إيجاعاً لأنّها أكثر عشوائيّة.

تَضيق الآفاق فتخلع العبارات ربطات عنقها وتتخلّى الأساليب عن مساحيقها ويمسي المسرح ­كما لم يكن أبداً­ دعوةً لاعتناق الحياة في زمن قتل الحياة.‏

هذا هو الفاضل الجعايبي «بروميتوس» آخر من عصر آخر وفي مواجهة أخرى مع ذاته والآخرين، ومن لا يقدر على مواجهة الذات لن يواجه الآخر أبداً.

منذ زمن طاعن في الهزائم والانتكاسات والرّهانات الخاسرة راهن الجعايبي على المسرح فاكتشف -واكتشفنا معه- أنّ المسرح هو أيضاً يراهن عليه فلم تعد «فاميليا» مجرّد تجمّع للإنتاج المسرحي وكفى المشاهدين شرّ السّجال وإنما عائلة كبيرة تجمع البارّ والضّال تحت سقف المواجهة.‏

«خمسون» ليس عملاً مسرحيّاً يعني البلدَ الذي قدِمت منه الحكايةُ وتوجّهت إليه بل الوجعَ الذي يشبه حكّة تحت الجلد لا ندري مصدرها وقد نختلف في تشخيصها ولكنّها موجعة إلى حدّ الفزع والهلع.‏

التطرّف ومحاربته بالتطرّف، والقمع ومداواته بالقمع، والإرهاب ومضاهاته بالإرهاب، كل ذلك مواجهة عدميّة بين الحديد والحديدِ لا تحيل حتماَ إلاّ إلى الخواء، فمن عساه يكون هذا النيرون الذي سوف يعزف على آلته وروما تحترق!‏

قد تتكسّر النّصال على النّصال ولكن أين الجسد؟ قد تهدأ المعركة ولكن من هم الأحياء؟! من هم المنتصرون؟ وهل المتفرّج في منأى عن طواحيننا؟‏

أين كيانات الكرامة التي حلمت لأجلها أجيال وماتت لأجلها أجيال وسوف تشوَّه لأجلها أجيال؟ وهل الكرامة تستحقّ كلّ هذا الألم الملحمي؟‏

«خمسون» عمل مسؤول غاضب يرافق من جاء يحضره إلى غرفة نومه ويتلصّص عليه في علاقته مع أفراد أسرته وعشيرته وخصومه ويجعلك لا تنتبه إلى لغته الفنيّة وهذه فنّيتُه، كمن لا يدقّق في مخارج الحرف والنحو والصرف عند ساعات الحب والحلم والغضب.‏

من تابع مشروع الجعايبي ورفيقة دربه وعمره جليلة بكّار في أبرز محطّات مسيرته المسرحيّة منذ «غسّالة النوادر» و«التحقيق» و«لام» و«العوّادة» و«عرب» و«كوميديا» و«فاميليا» و«عشاق المقهى المهجور» و«سهرة خاصّة» و«جنون» وغيرها، يعلم أنّ الرجل لا يمزح ولا يسترزق من هذه الحرفة كمهنة اختارته أو اختارها بل خطَّ لغة عصيّة على التقليد أو التدليس.‏

الممثّل لدى الفاضل يشبه الشاعر الذي عليه أن يتعلّم ألف بيت كي ينساها فلا وجود لديه لممثّل ماثل من دون أن تشتعل الخشبة تحت قدميه ولا مكانَ لديه لثرثرة بصريّة أوحركيّة، كل شيء متقصّد ومدروس إلى حدّ العفويّة.‏

بلغت أدواته من النضج عتيّاً، حتّى صار يلعب مع المباشرة والتكثيف اللذين يصدمان المبتدئين وحديثي المهنة، إنّهما النضوج الذي يجعل صاحبه ينام ملء الجفون عن شواردها بينما يسهر الخلق جرّاها ويختصم.

كل شيء لديه أنيقٌ وفي فوضويته، هل يصحّ أن ننعته باسم «بغنيني» المسرح العربي، ربّما كذلك، ومهما تكن القراءات وتتعدّد فمن منّا لا يستمتع؟ ومن ذاك الأحمق الذي فرّق بين المتعة والجدوى؟‏

قد تتشعّب المرجعيات والتهويمات والإحالات في مسرحيّة «خمسون» من الموت والعذراء إلى نبض الشارع التونسي بصعاليكه وحاناته وعَسَسه وعشّاقه ومغتربيه وقد يصفّق له المعمَّمون والعلمانيون والمحجّبات والسّافرات والمعارضة والموالاة على حدّ سواء ولكن لا أحد يدّعي أنّ هذا العمل لا يعنيه.‏

جليلة بكّار حاضرة في «خمسون» كما لم تحضر أبداً بحضورها الآسر نصّاً وروحاً وتمثيلاً، وصغيرةٌ هي كلمة تمثيل، أمّا جمال مداني فله تُرفع القبّعات والستائر والأقلام وكذلك نوال إسكندراني في كوريغرافيا مدهشة تستنطق الموروث وتحاوره دون عُقد سياحيّة.‏

الآخرون لم يكونوا آخرين ولكنني نسيت الأسماء وحفظت المسمّيات، فقد حضرتُ العمل منذ بضعة أشهر في مهرجان قرطاج. عموماً وباختصار، لا وجود لإبهار وفرجة من دون إتقان وتناغم ومايسترو.‏

نعم، سنقبل بتهمة الانحياز للجمال والتآمر على البشاعة ومعاداة الموت كما سنقبل -غصباً عنّا- برأي آخرَ شرط ألا يكون سكّيناً أو مسدّساً أو عبوة ناسفة بسبب حقّنا في الاختلاف وذلك ما أرادت أن تقوله «خمسون» الجعايبي فشكراً لتلك السلالة الملعونة من صنّاع الإبداع وحرّاس المحبّة.

 



تشرين

ضيف اكتشف سورية
ضيف اكتشف سورية
دمشق القديمة
 



هذا الموقع برعاية:
MTN Syria

جميع الحقوق محفوظة © اكتشف سورية 2008
جميع الأعمال التقنية تمت في الأوس للنشر

:Powered By
الأوس للنشر