اكتشف سورية يحاور التشكيلي جمال العباس

01 08

جمال العباس: اللون أهم عناصر اللوحة بالنسبة لي

ولد في مكانٍ لا بحر فيه، لكنّه بقي مواصلاً غرقه اللامحدود بين الألوان التي لم تروي عطشه، له من اسمه النصيب الكبير، فهو في بحثٍ دائب عن الجمال، مرة في الطبيعة وأُخرى عندما يروي رؤيته للحياة والوجود، ويستطرد في كلامه ليرسم خطوطاً في السياسة هكذا هو الحديث مع الفنان جمال العباس.

يبدأ في حديثه من الاكتشافات الأولى لموهبته التي تعود إلى المدرسة الابتدائية، حيث كان الأساتذة ينبهونه على كثرة شروده في الرسومات التي يخطها على وجه دفتره، لكنّهم في النهاية قرروا أن يستغلوا ما لديه من إبداع فكلفوه بإعداد الرسومات التوضيحية في العلوم والجغرافية وغيرها، ويذكر أيضاً أن هناك عدداً من الأساتذة ساندوه ووجهوا موهبته، يقول العباس لـ «اكتشف سورية»: «في المرحلة الإعدادية رعاني أستاذ أتى إلى السويداء من دمشق عام 1955 وهو محي الدين طالو ليدرسنا الرسم فوضع اسمي في عداد النشاط المدرسي بعد الدوام، كما أتى إلينا عام 1957 الأستاذ سعد الدين الشواردي من مصر الذي أسس لنا نشاط بعد الدوام نزاول فيه أعمالنا الفنية، وكانت تلك الفترة هي فترة مد قومي فحتّى رسوماتنا كطلاب كانت تخدم توجهات العمل القومي».

لا تخون جمال العباس ذاكرته بالذات في الأحداث المهمة خلال حياته فهو يذكر أنّه عام 1959 تأسس في مدينة السويداء نادي الفنون الجميلة، والذي اهتم بالمفاصل الثقافية والفنية والموسيقية والمسرحية، فاستقطب نشاط الفنانين الشباب وساعد على إقامة معارض لهم. مطلع الستينات سمع إشاعات عن تأسيس كلية للفنون الجميلة في سورية، لكنّه لم ينتظر فحمل أوراقه وتوجه بها إلى أكاديمية الفنون الجميلة في مصر، ولم يعرف أنّه قبل في الكلية إلا بعد مضي 6 سنوات، كان خلالها قد انتسب إلى دار المعلمين ليتخرج ويصبح مدرساً، وهنا يذكر كيف عاكسه القدر مرةً أخرى فيقول: «كنت أطمح أن آخذ إجازة من التدريس لأدخل كلية الفنون بعد تأسيسها، وبالفعل عندما كنت أدرس مدة الرسم في ثانوية سلقين جاءني مفتش المادة من حلب واسمه الأستاذ غالب سالم وكان خريج أوروبا فمنحني تقدير بدرجة ممتاز، وانتظرته في العام القادم كي آخذ تقديراً تفتيشياً جديداً وأتقدم بعدها لكلية الفنون لكنّه للأسف مات، فتأخر دخولي إلى الكلية حتى عام 1964 وكنت أول الطلاب من مدينة السويداء وثاني الطلاب من المحافظة ممن يدخلون الكلية بعد الفنان المرحوم سعيد حمزة».

من يتابع لوحات العباس يرى فيها بداية واقعية، أخذت تتجه في مراحل لاحقة نحو التعبيرية مستندةً إلى خلفية تجريدية واضحة، وشهادة فاتح المدرس به تؤكد هذا أما هو فيقول: «أعتقد أنّ الفنان يملك طاقة فنية لا يمكن توظيفها وإعطائها مفاعيلها إلا إذا تمكن من الرسم والتشريح، لكن هذا لا يعني أنّ كلّ رسام هو فنان، وأنا في البداية كان محاكاة الواقع والطبيعة العامة مع التركيز على الكتلة هو الشاغل الأساسي في عملي، وبعدها لمست توجهاً تلقائياً إلى ملامح أخرى هي عبارة عن الواقع مضافاً إليه رؤية فنية، ومع الاستمرار في العمل ومواصلة ملئ المخزون أخذت هذه الحالة التعبيرية تستند إلى خلفيةٍ تجريدية أكثر وضوحاً، ونشأت العلاقة في عملي بين تجريدية الرضية والملامح القائمة على التعبيرية ولا زلت أتصارع بود ومحبة مع هذه التوجهات».

لا يعرف جمال العباس سبب الغنى اللوني الذي يشبع به لوحاته، فيعزوه مرة إلى جوع للألوان، أو لأن السويداء بطبيعتها غنية لونياً بين الحجارة السوداء والتربة الحمراء، لكنه يستذكر أيضاً أنّه عندما كان طفلاً جاور منزل أهله صبّاغ أرمني كان يصبغ الأقمشة بألوان ربما علقت في الذاكرة، أو أنّها بسط وسجاجيد منزل الطفولة التي تذكره بالمدرسة الوحشية في أوروبا هي من خلقت هذه العلاقة الشديدة باللون حتّى أنّه يلون الكلام وعن هذا يقول: «أشعر أنّ الكلمات ملونة فعبارة أهلاً وسهلاً تحمل اللونين الأحمر والأزرق، حتّى أيام الأسبوع أشعر أنّها ملونة فالأحد لونه في مخيلتي بني أما الاثنين فله اللون الأبيض، واللون هو أهم عناصر اللوحة بالنسبة لي».

هذه الألوان لفتت نظر الكثيرين فأجمع فاتح المدرس، ومحمود شاهين، وإلياس الزيات والناقد اللبناني زهير غانم على أن جمال العباس يملك طاقة من عجائن الألوان الدسمة والمشبعة بسلسلة من الاستشراف اللوني.

تشغل الأجساد والوجوه كثيراً من لوحات العباس فالإنسان بكلّ تفاصيله شكّل موضوعاً تَشوق العباس إلى معالجته وتقديمه في مختلف مراحل حياته الفنية، وهو يجد أنّ هذه العلاقة بين الفن أو الفنان والإنسان مبررة أو حتّى ضرورية على الأقل بالنسبة له ويقدم أسبابه قائلاً: «كان الإنسان ولا يزال هاجسي، ومنذ تفتحي على الحياة انشغلت بالقضايا العامة بالذات السياسية منها، ربما لأنّ بعض أقاربي شاركوا في المعارك الوطنية خاصة ضد الاحتلال الفرنسي، فجدي لأبي ترك زوجته الثانية بعد ساعات من زواجه منها والتحق حافياً وبزوادة من الخبز واللبن بمعركة المزرعة. أعتقد أنّه كان يرى فيها جماليةً أعمق من الزواج للمرة الثانية كلّ هذه الأحداث تجعلني أعتقد أن الحياة لا تستوي إلا بالإنسان الحقيقي المبني بشكل صحيح وهذا ما تعلمته من عملي في التدريس أيضاً».
يرى العباس في اللوحة اليوم توجهاً غير خفي نحو التجريد، وهنا يستذكر من أيام الدراسة في كلية الفنون الأستاذ الإيطالي لاريجينا ويعتبر أنّه أحدث ثورة في الفن التشكيلي في سورية، ويذكر أول مشروع شرحه لهم لاريجينا: «كان يعلمنا في ذاك المشروع كيف نرسم أشكال هندسية، ومن ثمّ نقوم بتحريكها وخلق علاقات بينها، إضافةً إلى عملية الربط بين المنتج والأصل التشخيصي كان يريد تعليمنا أن أصل الأشياء تجريدي».

عام 1981 انتقل جمال العباس إلى الجزائر للتدريس، وهناك تعرف إلى الطبيعة الجزائرية وتعرف معالم الثورة التي شغلت باله عندما كان في العشرينات من عمره، ليقيم في المركز الثقافي الفرنسي عدة معارض وهناك باع مجموعة من أعماله لمختصين أتوا من مدرسة البوزار الفرنسية، وكان ما سمعه من النقد والإطراء من الفنانين الجزائريين والأجانب أهم دوافعه للعمل والاستمرارية، ومن الجزائر انطلق لزيارة فرنسا فزار مدرسة البوزار، بالإضافة إلى متحف اللوفر ليرحل بعده إلى إسبانية، ثمّ اليونان، وينزعج جداً لأنّه لم يستطع زيارة روما في تلك المرحلة عام 1983 فقط لأنّها كانت تمنع دخول السوريين إلى أراضيها.

بعد الحديث عن البيئة الجزائرية يتحدث العباس عن بيئة السويداء التي لا ينكر أثرها في منجزه الفني، فهو يرى فيها تمايزاً حقيقياً، وبالتالي فإنّ حراكها ومؤثراتها وواقعها الحالي وحتّى تاريخها ترك كبير الأثر في أعماله.

خلال مسيرته لم يكتف بالعمل الفني فقط بل مارس النقد الفني أيضاً، لكنّه ينظر إلى الساحة النقدية في سورية على أنّها ينقصها الكادر النقدي الذي يعتبره صلة الوصل بين المبدع والمتلقي، ويذكر أيضاً أسماء في الحركة النقدية منها: عبد العزيز علون، وعفيف بهنسي، كما لا ينسى أستاذه الأثير الذي كان ناقداً وفناناً فاتح المدرس.


في النهاية يذهب العباس إلى مكتبته يتناول ظرفاً ويفتح أوراقه ليؤكد أنّه صاحب المبادة في المطالبة بتأسيس مركز الفنون التشكيلية في السويداء عام 1973، كما اقترح إقامة فرع لنقابة الفنون في المدينة أيضاً، وهو صاحب اقتراح إقامة معرض مركزي سنوي بعنوان «تحية إلى الثورة السورية»، وأول من طالب بتأسيس كلية الفنون في السويداء منذ 1989، ويلفت النظر إلى كثير من المبادرات التي قام بها في سبيل دعم الحركة التشكيلية، كما يلفت إلى عدة شهادات بخط اليد تلقاها من أساتذة كبار أمثال إلياس الزيات وفاتح المدرس.

يودعنا جمال العباس عند باب منزله ولا ينسى أن يخبرنا عن مشروعه المستقبلي وهو الذهاب إلى منطقة اللجاة وتلمس إيحاءات صخورها ليرى أثرها في إبداعه، مشروعه هذا مؤجل إلى أن ينهي عملية القلب المفتوح التي سيخضع لها ويؤكد أنّها «بسيطة كثيراً من أصدقائي خضعوا لها» ويودعنا بابتسامة أمل.

ونحن في «اكتشف سورية» نتمنى بكل الحب الشفاء العاجل للتشكيلي الأستاذ جمال العباس ليعود إلينا ويستمر في مشاريعه وعطاءاته الفنية، ويتابع تطور الحركة التشكيلية في السويداء خصوصاً، وفي سورية عموماً، والتي كان المرصد لها والموثق الصادق لإنتاجها الفني، وللتشكيليين السوريين.


اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

عمار :

والله الاستاد جمال خفيف الظل تعلمنا منه الكثير عندما كان يدرسنا له سمة خاصة ولمسة فنية رائعة فتحية اجلال وتقدير استادنا الكريم .

الجزائر

الجزائر