وسيم قطب يعزف في دارة الفن
أمسية موسيقية رائعة ممتعة

28/آذار/2008

دعت لجنة الفرانكفونية بدمشق بالتعاون مع «آرت هاوس» محبي الموسيقا لحضور أمسية موسيقية كلاسيكية لعازف البيانو وسيم قطب.
تقع هذه الدارة في غربي دمشق على تلٍّ مليء بالأشجار والخضرة لم تطَلْه يد البتر والقطع التي أبادت معظم الجنان الخضر التي كانت تحيط بدمشق حتى نصف قرن مضى. وكانت في سالف الزمان طاحونة تدور رحاها بدفق مياه بردى، نهر بانياس على الخصوص، إن لم تخنّي الذاكرة. وبناؤها من حجر السويداء الأسود الذي يتحدى السنين بل القرون بصلادته ومتانته ومقاومته لكل عوامل التفتيت الجوية وعوامل بني آدم المُخربة. وأُعيد تجديد هذه الطاحونة لتغدوَ قاعة فسيحة للمعارض الفنية والأمسيات الموسيقية والثقافية إلى جانب مسبحٍ وحمام وفندق.
امتلأت القاعة بحضورٍ منتقى، وحيّى العازفُ الشاب الجمهورَ ثم ابتدأ أمسيته بعزف صوناتة «ليوس ياناتشيك»، وهذا المؤلِّف الموسيقي المورافي الرائع ولد في منتصف القرن التاسع عشر، وألف العديد من الأعمال الموسيقية الرائعة ذات الاتجاه القومي البارز، وكتب هذه الصوناتة إثر مقتل شاب تشيكي بالرصاص أثناء تظاهرة تطالب بإنشاء جامعة تشيكية في مدينة برنو، وتتألف الصوناتة من حركتين: الأولى بعنوان «حدْس» والثانية «موت» وهي غنية بالألحان العذبة والإيقاعات القوية والحزن العميق. وأدى وسيمٌ المقطوعة بفنٍ وإتقان يُغبط عليهما.
المقطوعة الثانية كانت «قصيدة لبيترارك رقم 104» لفرانز ليست وهي درّة موسيقية مؤلفة على لحن كان ليست قد كتبه لقصيدة من أشعار فرانشيسكو بيترارك، وهو شاعر إيطالي عاش في القرن الرابع عشر، وهي موسيقا رائعة معبّرة شاعرية، وكان أداؤها رائعاً أيضاً.
ثم جاء وسيم بوصفه مؤلف موسيقا إلى جانب وسيم العازف الموهوب فعزف مقطوعتين من تأليفه: الأولى بعنوان «حنين» والثانية «ظُلمة». والأولى أهداها لأمه ولأمهات الوطن والعالم بمناسبة عيد الأم، وهي موسيقا هادئة، مسالمة في غاية الوئام مع النفس ومع العالم. أما المقطوعة الثانية فهي بحر هائج يثور ويمور بالعنفوان بل الغضب! ما السبب رغم ما عُرف عن وسيم من هدوء وأناة؟ وهي مقطوعة رائعة لا تخلو من مسحة عربية شرقية تنمّ عن موهبة أصيلة للتأليف. وحبذا لو أتحفنا وسيم دوماً بلآلئه الرائعة.
بعد ذلك عزف وسيم مقطوعة «ليلية» من تأليف الموسيقار والصديق طيب الذكر ومؤسس الحياة الموسيقية في دمشق: صلحي الوادي. هذه المقطوعة الرائعة الساحرة تعتمد لحناً شرقياً شعبياً معروفاً بوصفه أساساً وتُطوِّره ليغدو مقطوعة سحرية صافية الروح، شرقية السمات فيها مناجاة وبوح سماويان. وإنها خلاصة ما كان يعتمل في قلب ذلك العاشق الموسيقي من حب للفن الرائع وللتعبير الإنساني الصادق، رحمك الله يا صلحي! لكأنك تعيش معنا تلك اللحظة، بل من المؤكد أنك تعيش فعلاً في نفوس كل من عرفوك وكل من أحبوك ومن قدّروا الرسالة العظيمة التي كنت تحاول حتى آخر لحظة لك على مسرح المؤتمرات أن توصلها إلى قلوب الشباب مثل الكهول والشيوخ في هذا البلد، لتكون هناك أرضية ثابتة للموسيقا الجادة والعالمية والبليغة التي تتخطى الحدود وتبلغ رسالة الحب والإنسانية لكل أطراف الأرض، والأمل كبير في أن يتابع رفاقُك وتلاميذُك رسالتَك التي تصدح ما دام هناك نفس بشرية واحدة على سطح هذه اليابسة. وكان أداء وسيم لموسيقا صلحي مؤثراً ومن القلب، كما دلّ على المحبة والتقدير الذي يكنها لصلحي كلّ من عرفه حقّ المعرفة.
الآن أتى دور كلود ديبوسي وهو علَم من أعلام الموسيقا الفرنسية وسيد المدرسة الانطباعية، فعزف وسيم له «مقدمة» و«قصيدة» وفيهما عالم فريد من الأصوات الصادحة والسماوية. وكان أداؤه رائعاً حقاً. وختم وسيم أمسيته بأداء «مقدمة» و«دراسة» لسيرجي راخمانينوف، هذا الموسيقار الروسي العظيم الذي هجر وطنه الأم إلى العالم الجديد ليشكو طوال سنين، من خلال موسيقاه، حنينه وحبه واشتياقه لموطنه، وموسيقاه هي عصارة كل هذه المشاعر الإنسانية العارمة، ولو بقي مقيماً في وطنه مثل ياناتشيك لما كان ألّف كل تلك الموسيقا الرائعة التي تقطر حباً وحنيناً وشوقاً، وربّ ضارة نافعة!
صفق الجمهور عالياً للفنان الشاب المتميز وقُدمت له الورود الجميلة، فما كان منه إلا أن عزف مقطوعتين من تأليفه استجابة للحضور المتحمس، وهكذا انتهت أمسية موسيقية رائعة ممتعة نتمنى لو تتكرر بين الحين والآخر فتداوي المشاعر المريرة التي يعيشها الإنسان في هذا الجزء المضطرب من العالم. أما قوى الشر والعدوان ونزوة إعادة استعباد البشرية فهي بحاجة إلى قدر كبير من مثل هذه الموسيقا لتنزع من أعماقها رذيلة الشر والعدوان وسفك الدماء. هل هناك أمل في أن تتخلص الإنسانية من نوازع الشرور هذه أم أن العالم مقدم على كوارث قد يرتكبها هذا النظام الموسوم بـ«الجديد» فيزرع الفناء في أرجاء هذا الكوكب العاثر سيئ الحظ؟
إلى وسيم وكل من شارك في هذه الأمسية جزيل الشكر مع آمالٍ عريضة في أن يقيّض لهذا الكوكب مجموعة من الشعوب والأمم الحضارية والطيبة والتي ستنقذ هذا العالم من شيطان هذا العصر.



تشرين

المشاركة في التعليق

اسمك
بريدك الإلكتروني
الدولة
مشاركتك