تدمر مدينة ذات طابع يوناني

10 09

يثير وضع تدمر التشريعي في الإمبراطورية الرومانية، وتنظيمها السياسي والإداري، تقديرات لا تروي غليل القراء في أغلب الأحيان. ولدى قراءة معظم هذه التقديرات يبدو أن خيرة المؤلفين ليس لديهم رؤية واضحة عن المؤسسات في مدينة تسير على النظام اليوناني في العصر الروماني الإمبراطوري. إن تشوش المصطلح المستخدم والصفة التقريبية في تقدير دور المسؤولين ومراتبهم لشاهد على هذا الاضطراب؛ ويرى الكثيرون أن تدمر تشكل استثناءاً وكياناً خاصاً لا تنطبق عليه أية نظم في غيرها من مدن الإمبراطورية الرومانية. ويبدو لي أن دراسة منهجية للنصوص التدمرية لا تترك أي شك حول طبيعة المؤسسات المدنية وسير هذه المؤسسات منذ ضم المدينة للإمبراطورية الرومانية في مطلع حكم الإمبراطور تيبيريوس حتى سقوطها أمام قوات أورليان في عام 272 م وحتى لما بعد ذلك.
إن الإجماع تام تقريباً على أن تدمر أُلحقت بالإمبراطورية الرومانية منذ مطلع العصر الإمبراطوري وفي بداية حكم الإمبراطور تيبيريوس على أبعد احتمال، الأمر الذي يستتبع أن نستخلص من ذلك كل النتائج وأن لا نقلق من كون تدمر أصبحت "مدينة تابعة (ملحقة) محرومة من الحكم الذاتي وخاضعة من ذلك الوقت لسلطة الوالي الذي يمثل حاكم الولاية". ومن العبث أن نرى مدينة ملحقة مهما كانت نشأتها تتخلص من وصاية سلطات الولاية أو يتناسى سراتها كما يقول بلوتارك "... أعضاء مجلس الشيوخ الذين يقومون على رؤوسهم". لكن ذلك لا يمنع من الحكم الذاتي إذا وجدت المؤسسات المدنية الخاصة بمثل تلك المدينة.
لقد عُرفت المؤسسات المدنية الخاصة بتدمر، لكن إذا قرأنا أفضل المؤلفين يتشكل لدينا انطباع بأن ثمة اضطراباً وتشوشاً مهماً كما لو أنهم يشكّون في حقيقة وجود هذه المؤسسات وحسن سيرها. ومن ذلك أن أفضل مؤلَّف شامل عن تدمر لا يقدم لنا أي تعريف وافٍ للمؤسسات المدنية كما يقلل من شأن دور هذه المؤسسات. فمجلس المدينة (أي البولي) الذي يرد ذكره كثيراً في القرن الثاني الميلادي يبدو أنه قد بقي، في رأيهم، "مجلساً بلدياً بسيطاً حتى عهد الإمبراطور هادريان وكان المندوب هو الذي يتخذ المقررات الهامة". يتشكل لدى القارئ شعور بأن في ذلك أسفاً على الاستقلال المفقود. وفي أمر تحديد دور "مجلس الشيوخ" قد يتصور المرء بأنه من الممكن أن يكون هذا المجلس شيئاً آخر غير "مجلس بلدي بسيط".
إن هذه التحديدات قد دعمتها أيضاً تقديرات عامة أخرى تتعلق بالنظم اليونانية في تدمر ومن ذلك ما ذكره مؤخراً ج.د. بورسوك حيث قال "إن تدمر نفسها لم تكن مدينة ذات طابع يوناني حقيقي لأنه كان ينقصها مسرح رغم أن فيها آغورا ومجلساً للشيوخ. والأهم من ذلك أنه كانت تعوزها المباريات الرياضية والموسيقية والشعرية". وتلك إشارة واضحة لملاحظة أوردها لويس روبير في خطابة عند افتتاح مؤتمر أثينا حيث قال: "إن حدود الهيلينية تنتهي عند نقص مؤكد لهذه المباريات: ففي تدمر مئات من النصوص اليونانية لكن المدينة ليست هيلينية فليس هناك المباريات الستيفانية التي تدعو إليها المدن اليونانية".
وعلى هذا يبدو لي أن من الضروري أن نتناول مجموع النصوص ونحاول أن نقدم وصفاً منهجياً للمؤسسات ونذكر بوضوح انطباقها أو تفردها قياساً على ما نعرفه في المدن اليونانية الأخرى من الشرق الروماني. وإذا كانت سورية بذاتها لم تزودنا مع الأسف إلا باليسير من الوثائق في هذا الصدد فإن آسيا الصغرى تقدم لنا أكثر مما نحتاج للقيام بالمقارنات التي نبحث عنها.
1ـ مؤسسات المدينة اليونانية:
إن أول سمة من سمات الانتماء إلى عالم المدن اليونانية يكمن في الطريقة التي تعرف بها المدينة. ولا تترك كتابات تدمر أدنى شك حول هذه النقطة. فثمة كتابة كبيرة في الرواق الشرقي لمعبد بل تذكُر باليونانية نصب تمثال لمقيمو بن عجيلو من قبل المدينة التدمرية في آذار عام 51 وفي النص التدمري المقابل نقرأ "من قبل الشعب التدمري" وتلك جملة أقل دقة والرجحان عادة للنص اليوناني:
إن عبارة "ﭙوليس" أي المدينة رغم قلة استعمالها قياساً مع تعابير أخرى للدلالة على الجماعة المدنية في تدمر فإنها واردة في نصوص عديدة: فهناك كتابة على شرف قائد جناح الخيالة الأول الأوغستي التراقي جاء فيها ﭙوليتين تيس ﭙالمورينون ﭙوليوس. والنص من منتصف القرن الثاني الميلادي. يضاف لذلك إهداء ليوليا مايسا وآخر على شرف سبتيموس أﭙسايوس في زمن أذينة وزينب (زنوبيا). إن الندرة النسبية في استعمال تعبير "ﭙوليس" أي المدينة يعوض عنها في تواتر استعمال ﭙوليتس أي مواطن (مدني) الكثير الذكر في الكتابات التكريمية وسنعود لذلك فيما بعد.
في كل مدينة ينقسم الديموس (الشعب) المذكور في العديد من النصوص إلى عشائر تتشعب بدورها أحياناً إلى أفخاذ. وقد أوضح د. شلومبرجيه مستنداً إلى كتابات من القرن الثاني الميلادي وجود أربع عشائر تضم جميع سكان المدينة وهي بنو معزين وبنو كمرا وبنو متيبول وبنو ميتا ومن المرجح أن طرحه صحيح. فالعشيرة المسماة باليونانية "كونيتي" هي قبيلة بني كمرا (قمرا) كما هو واضح في أحد النصوص باللغة التدمرية. ويوافق ج.ت. ميليك شلومبرجيه في أن بني متيبول هي إحدى العشائر الأربع في تدمر، وينسب إليهم معبد آريس ـ أرصو الذي يتجمعون حوله لكنه يختلف عن شلومبرجيه في أمر عشيرة بني عتر سدنة معبد عترغايتس. والعشيرة الرابعة تبقى غير مؤكدة والغالب أنها بنو معزين التي جعلها شلومبرجيه من العشائر التدمرية الأربع، استناداً الى نص تكريمي من عام 64 ميلادي. لكن ثمة عشائر أخرى قد تكون إحداها من العشائر الأربع.
كانت هذه العشائر تحمل أسماء محلية، كما كانت الحال في السويداء/ديونيزياس. وعلى العكس من ذلك كانت في بصرى عشيرة تلقب بالرومانية ولا فائدة من الجدل حول كون تدمر قد عرفت تنظيماً عشائرياً قبل أن تصبح "مدينة" لأن العشائر المدينية الجديدة ليس لها علاقة بالتركيب الأسروي السابق. فالعشيرة المدينية هي أسلوب في تقسيم المواطنين لاعلاقة له بأية بُنى أسروية. ويعتقد د. فان برشم أن تقسيم التدمريين إلى أربع عشائر كان على أساس جغرافي وكل عشير تحمل اسم حي في المدينة أو أن العشيرة تحمل اسم أحد الأبطال أو أحد الأسلاف الأسطوريين. وليس الأمر كذلك فعشيرة بني كهنبو (أي كاهن نبو) تحمل اسماً مهنياً. وفي المدائن المؤسسة في العصر الإمبراطوري الروماني نجد بخاصة أسماء مقدسة مشتقة من مجمع الأرباب المحليين المهلينين أو من الأسرة الإمبراطورية وحقاً كانت عبادة الإمبراطور في مطلع حكم الإمبراطور تيبيريوس موضع تكتم من قبل الإمبراطور. ويمكن أن يفسر ذلك استخدام أنواع أخرى من تسميات العشائر الجديدة.
ووجه الغرابة في تدمر أن العشائر المدينية الأكيدة مثل بني كمرا وبني متيبول مذكورة في تاريخ سابق لإعادة تأسيس المدينة في زمن لا تدل فيه هذه العبادات إلا على بُنى أسرية واجتماعية تقليدية. لقد اختار الرومان إذن من مجمل المجموعات العشائرية أربع مجموعات متميزة اعتبرت مكونة للمدينة الجديدة. لكننا نجهل تسلسل العشائر التدمرية قبل إلحاق تدمر وقد يكون الرومان قد أوكلوا للتدمريين أنفسهم اختيار التنظيم الداخلي الذي يناسبهم. ولم يكن من شيء يفرض العدد أربعة على العشائر. ومثل هذا الاختيار قد يكون متفقاً مع واقع محلي سابق نجهله. وكذلك لا شيء يحتم أن يكون كل السكان الأحرار في تدمر قد حصلوا آلياً على حق المواطنية التامة في المدينة الجديدة.
وعلاوة على هذه العشائر المحلية ورد ذكر العشيرة الكلاوديوسية واستبعدها شلومبرجيه وميليك بحجج غير مقبولة. إن العشائر التي تحمل أسماء أباطرة شيء مألوف ويمكن أن تعود إلى تكوين عشائر جديدة إضافة إلى العشائر القديمة (كما هي الحال في العشيرة الهدريانية التي عنت العشيرة الثالثة عشرة في أثينا) أو أن عشيرة قديمة قد أصبحت تحت رعاية الإمبراطور. وفي هذه الحال لا يعرف اسمها الأصلي. وإذا صح ما عرضه شلومبرجيه في تفسير النقش على الجسر (ب) في سقف هيكل معبد بل في تدمر فإن ذلك يدل على أن العشائر الأربع كانت موجودة عند تأسيس هذا المعبد. فهو يقول إن الأربعة رجال والأربع نساء على الوجه (آ) من الجسر هم أسلاف العشائر الأربعة مع زوجاتهم يشتركون في حفل اختيار مكان المعبد بإطلاق حصان. وكذلك الكهنة الأربعة الممثلين على الوجه (ب) وهم يقدمون القرابين على أربعة مذابح. فالعشيرة الكلودية لم تُضف إلى العشائر الأربع المحلية، لكن اسمها الجديد أصبح اسماً ثانياً لعشيرة قائمة. ويهدم وجود هذه العشيرة فرضية ميليك الذي يرى أن العشائر الأربع هي من التنظيمات التي أحدثها الإمبراطور هادريان. إن تقسيم شعب تدمر إلى العشائر الأربع هو سابق لهادريان بوقت طويل. ويعود في أحدث تاريخ إلى عام موت الإمبراطور كلوديوس وليس من دليل على تغيير الوضع العشائري لتدمر في زمن هادريان.
إن ذكر العشائر التدمرية الأربع في النصوص يتبع الصيغ اليونانية حيث يقرر المجلس كما تقرر العشائر كل بدورها كما هي الحال في نص معبد بعلشمين والضمير المزدوجين على شرف إيليوس بورا (شباط 198) وعجيلو بن مكان (ك2 عام 199) وذلك هو المألوف في مدائن اليونان ومن ذلك القبيل قرار ستير من برغام. فبعد احتفالات رسمية جماعية "تقوم الجماهير بتقديم القرابين قبيلة إثر قبيلة ويترتب على شيوخ القبائل أن يقدموا تلك القرابين".
وإلى جانب الشعب يقوم مجلس "البولي" بدور أساسي في كل المدائن اليونانية. فقد جرت العادة أن يترجم مجلس "البولي" باسم "مجلس الشيوخ". وعلينا أن نلاحظ أن اليونانية تفرق بين "البولي" وهو "المجلس المديني" ومجلس الشيوخ الروماني "السوكليتوس" فالبولي لدى التدمريين هو مجلس بلدي (أي مجلس المدينة) ولا يقلل ذلك من سلطته ومسؤولياته المحلية في الإمبراطورية الرومانية، وهي الطرقات، والتموين، وصيانة المباني العامة والاحتفال بالأعياد وإصدار النقود الخاصة بالمدينة وعند الضرورة تكريم المحسنين لها، بدءاً بالإمبراطور وانتهاءاً بالمواطنين البسطاء، وفرض الضرائب والمكوس والرقابة على الموظفين الخ. ويجب ألا ننكر على هذا المجلس كل سلطة بحجة أنه لم يعد يدير السياسة الخارجية في دولة ذات سيادة ولا أن نحدد "استقلاله العابر" ونقصره على الحياة الدينية و"تدبير أمور" التجارة الدولية لكن هل كان لهذا المجلس مثل تلك المهمات من قبل، إذا كان وجوده نفسه قد تحقق من اكتساب تدمر صفة المدينة "البوليس"، أي اعتباراً من ضمها للإمبراطورية الرومانية.
وعلى كل حال يظهر اسم مجلس "البولي" دوماً إلى جانب الشعب "الديموس" في مطلع القرارات، كما هي الحال في جميع المدن التي تتبع النظام اليوناني. وفيما عدا السهو أو الخطأ فإن ذكر ذلك يبدأ من عام 74 ميلادي وحتى 266 ميلادي. وقد يرد ذكر مجلس "البولي" وحده.ولا مجال لاستنتاج شيء من هذا الشكل فالكتابات من النوعين مستخدمة في زمن واحد وتمتد تواريخها من 75/76 إلى آذار 179م. ومن المؤكد أن مجلس "البولي" موجود في أبعد تقدير منذ زمن الأباطرة الفلاﭭيين غداة إعادة تأسيس تدمر كمدينة. وكان يرأس هذا المجلس رئيس (يلقب برويدر) كما هو المتبع ونعرف عدداً ممن يحملون هذه الصفة.
وفي تدمر قلة من النصوص التي تذكر "الديموس" وحده دون مجلس "البولي" ومن هذه النصوص نص من تشرين الثاني عام 24 للميلاد، يكرّم فيه مالكو من نيسا وقد صدر باسم "الديموس التدمري" والثاني صدر في حزيران 25 م يكرم فيه الشخص نفسه. وفي القسم التدمري من هذا النص يرد ذكر شعب التدمريين (جبل تدمريا) ونعرف أن هذا التعبير يترجم ما ورد في القسم اليوناني من نص مؤرخ في 51 م. فمن المنطقي إذن أن نقول أن ذكر "الديموس" وحده مع نسبته لتدمر هو شكل من أشكال ذكر المدينة بأسرها كما هو وارد في نص تكريس تمثال لسلام اللات بن يرحبول في 64 م باسم الربة نيميسيس وعشيرة بني معزين والشعب التدمري. ويمكن أن نستنتج من ذلك أنه خلال ذلك الزمن المبكر الذي تلا تحويل تدمر إلى مدينة لم يكن مجلس "البولي" قد أنشئ.
وإذا كان وجود مجلس "البولي" ليس موضع شك فإن ج. تيكسيدور لاحظ بحق أن كتابات تدمر تكاد لا تستخدم أبداً اسم "البولوت" أي صفة عضو هذا المجلس إلا في نصين متأخرين من 258-259 م حيث تستخدم هذه الصفة لسبتيموس وورود وذلك شيء غريب. إذ أن هذه الصفة مذكورة في بصرى حوالي ثلاثين مرة. وهذا الأمر جعل تيكسيدور يتصور أن مجلس "البولي" في تدمر لا يضم إلا الرئيس وأمين السر والأراخنة (الحكام) وأعضاء مجلس العشرة.
هل نستنتج أن منصب "البولوت" لم يكن من الأهمية بحيث يفكر أحد بذكره. إن ج.تيكسيدور يعتقد أن عضوية مجلس العشرة، الذي يظن أنه جزء من "البولي". كانت مؤقتة ولا أهمية لها. ولذلك لم يكن أصحابها يرغبون في ذكرها. وهنا لابد من البرهان على هذا الرأي لأنه مخالف للمألوف في العصر الإمبراطوري الروماني. فأعضاء البولي المدنيون كانوا يعينون مدى الحياة وأصبح منصبهم شبه وراثي اعتباراً من زمن السلالة السيفيرية.
وفي الحقيقة إن إغفال ذكر "البولوت" في النصوص الجنائزية أمر نجهل أسبابه. ومع ذلك نلاحظ أن هذه الكتابات الخاصة لا تذكر كذلك الألقاب الرسمية الأخرى مهما كان شأنها. ومن المرجح أن أغنياء التدمريين الذين شيدوا أكبر مدافن المدينة وأعظمها كلفة، كانوا قد تولوا مختلف المناصب البلدية الهامة دون أن يرد ذكرها إلا نادراً. فلماذا نستغرب عدم ذكر عضوية "البولي". ولعلنا نجد لقب "سيندر" المذكور في عدد من الكتابات بديلاً عن لقب "البولوت" الأمر الذي يرفضه تيكسيدور قائلاً إن "السينديريين" هم ممثلو الحاكم الروماني في مجلس المدينة.
إن هذا الرأي يحمل المصطلحات اليونانية معنى فريداً مختلفاً للمألوف في تلك اللغة. فمجلس الحاكم يحمل أيضاً اسم "سينيدريون" لكن هذه الكلمة لا تقتصر على هذا الاستعمال بل يمكن أن تدل على العديد من المجالس واللجان حتى أنها في مدينة كييريون بتساليا تعنى مجلس "البولي" نفسه فليس من المستحيل أن يكون مجلس "البولي" في تدمر مأهولاً "بالسينودريين" أو أن هؤلاء يشكلون لجنة خاصة في ذلك المجلس. وليس من مؤيد لرأي ج. تيكسيدور إذ أن ممثلي السلطة الرومانية لا يكونون أبداً من أهل المدينة.
إن المقررات التي يصوت عليها المجلس والشعب لا تنطبق على المألوف فليس فيها أسماء أصحاب القرار والمشاركين فيه. والمصطلحات المستخدمة للدلالة على قرارات المجلس والشعب قد أثارت التعليقات.
من المعروف أن مصطلح "ﭙسيفسَما" هو المستخدم عادة وهو الوارد في قرار يكرم يرحبول بن لشمش وينوه مجلس "البولي" الذي نرى اسمه وحيداً في القرار أن الشخص المذكور الذي كرِّم بقرارات كثيرة أخرى قد أُرسل قرار تكريمه الجديد للحاكم للفت نظره إلى استحقاقاته والمصطلح نفسه يرد في النص الطويل الذي يكرم سواد بن بوليدع في شباط 132 م الذي أُرسل قرار خاص به أيضاً، مكتشف في معبد بعلشمين، الى الحاكم آﭭيديوس كاسيوس شاهداً على علو شأنه لكننا نجد استعمال كلمة "دوغما" في مطلع القانون المالي وفي الأمر تغيير في المفردات كما لاحظ ج. تيكسيدور. ولكني اعتقد أن المصطلحين ليسا بالضرورة متطابقين. ويبدو أن تيكسيدور يعتقد أن "البولي" في تدمر لم يكن له سوى سلطة اسمية في سن التعرفة المالية في تدمر التي تتضمن قراراً من الوالي الروماني وليس ذلك من المألوف. والمرسوم، وهو المصطلح المناسب أكثر من القرار، الذي يصدر عن حاكم سورية يسمى "دياتغما" وليس "دوغما" فالأخيرة تعني غالباً قرارات مدينية والأمثلة كثيرة في اليونان ومكدونيا ويبدو أن من الصعب التفريق بشكل دقيق بين "دوغما" و"ﭙسيفسما" ولعل "دوغما" في تدمر تعني قراراً من مجلس "البولي" وحده بينما "ﭙسيفسيما" تعني قراراً من مجلس "البولي" والشعب. ولا أعتقد بالمقابل أن المصطلح الأول يتضمن تدخلاً أكبر من سلطات الولاية. وأخيراً، لقد لوحظ استعمال "ﭙروستاغما" التي تعني الأمر المترتب على قرار من مجلس الشعب فالكلمة لا تدل على قرار بالمعنى الأصلي للكلمة.
وفيما يخص الحكام ليس الأمر أكثر وضوحاً وقد تعقدت المسألة بسبب الترجمات التقريبية أو الخاطئة. لابد أن تدمر كان لها آرخونت رئيسي تؤرخ بعهده القرارات وفي التعرفة يظهر اسم أرخونين. ونادراً ما يكون في المدن اليونانية الطابع موظفان من هذا النوع، لكن دون المقارنة. مع وضع القناصل في روما نلاحظ أن تدمر بعد حصولها على وضع المعمَّرة (الكولونيا) أصبح الحاكمان العسكريان هما اللذين تؤرخ بعهدهما القرارات، وفي هذه الشروط ينتفي كونهما موظفين من النسق الثاني كما اعتقد ج. تيكسيدور انطلاقاً من نص التعرفة الجمركية فهما الأولان من حيث المكانة ومن حيث الأهمية الحقيقية.
إن المسؤول الرئيسي في المدينة كما في المدائن كلها كان هو "الغراماتوس" أي "أمين المدينة" أو "مجلس الشعب" كما توضح التعرفة الجمركية وصلاحياته أساسية فهو الذي يحدد جدول أعمال اجتماعات المجلسين ويراقب سير أعمالهما ونعرف أسماء عدد من الأمناء في تدمر في 75/76 م. وعندما كان مالي أغريبا بن يرحاي المكرَّم من المجلس والشعب في 130/131 م يشغل هذا المنصب للمرة الثانية ظهر سخاؤه خلال زيارة الإمبراطور هادريان إذ قدم الزيت لمواطنيه ولجميع الزوار. ومن هؤلاء الأمناء ألكسندروس بن ألكسندروس المذكور في مقدمة التعرفة التدمرية عام 137 م وهناك أمين مذكور في نص من معبد بل وآخر من معبد نبو وكذلك تيبول المكرَّم من قبل المجلس والشعب في نيسان 218 م.
إننا نجهل مكان اجتماع المجلس والشعب وما هو عدد المجتمعين من أبناء الشعب وما إذا كانوا يجتمعون أصلاً، وهل كانوا يجتمعون في المسرح؟!. لكن اجتماع المواطنين لم يتوقف في الشرق بخلاف الغرب رغم وجود تمييز أحياناً بين مجموع المواطنين والفئة ذات الامتياز. لكن ثمة قرارات يمكن أن يصوت عليها باسم الشعب دون أن يكون هذا الشعب مساهماً فعلياً في إعدادها وحتى إقرارها.
وتذكر النصوص بيت المحفوظات (بيت أركا) ومثل هذا المكان موجود في كل المدن اليونانية وهو مقر لبعض الموظفين ومستودع للمحفوظات. وكان يحفظ الوثائق الرسمية وغير الرسمية ومن مهامه حفظ الوثائق المتعلقة بنظم الدفن وغرامات مخالفتها. أما الخُزّان فقد ورد ذكرهم في نص مؤرخ في حزيران عام 25 م. وعددهم ليس محدداً في النص ولا مهامهم بدقة. لكن هناك نص إهداء للرب العلي الأعلى في 21 آذار 114 على نفقة الخزّان الأربعة على أربعة مذابح نصبتها مدينة تدمر في موقع الكراسي على طريق حمص باسم القبائل الأربع دون شك. وفي غير تدمر من المدن نجد ذكر الخازنين في نص من النصوص التكريمية له صلة بالتبرع لنفقات استدعت التكريم. ولابد أن يكون الأمر كذلك في تدمر ولكن ذلك غير واضح في النص. وعلى كل حال ليس هناك مبرر لأن نفترض مسبقاً أن الخزّان قد انتهى أمرهم بعد 114 م وأنهم استبدلوا بالأراخنة.
ويرد ذكر لرب السوق (الأغورانوم) في تدمر، كما هو المألوف في المدن ذات الشكل اليوناني. وقد ورد ذلك مرة قبل أن تأخذ تدمر لقب معمّرة (كولونيا) ومرة أخرى في نص غير مؤرخ.
إن مهمات رب السوق معروفة، فهو يراقب الأسواق وتموين المدينة ويصون مباني السوق ويحافظ على أسعار المواد الضرورية. وفي أحد النصوص المتعلقة برب السوق يرد ذكر محترفات أو دكاكين وإنفاق 3500 دينار. أما المسؤولون العسكريون الذين يديرون الميليشيات التدمرية وواحدهم يسمى "ستراتيج" فيمكن أن يكونوا من الحكام المدنيين ونعرف منهم سبعة على الأقل قبل إنشاء المعمّرة التدمرية أي قبل أن يتغير معنى المنصب. كما نعرف واحداً منهم يقوم بمهماته في وادي حوران في 98 م وفي القطاع نفسه ذكر لآخر اسمه يرحاى من منتصف القرن الثاني الميلادي. وهناك إتفاني قائد الرماة المعسكرين في دورا أوروبوس من عام 169 وزنونيوس من دورا أيضاً من عام 170-171 وقد يكون الاثنان ضابطين رومانيين أوقائدي ميليشيا في تدمر وإيليوس بوراس الذي أصبح قائداً عدة مرات وعجيلو بن مكايوس الذي قام بمهمات عسكرية عديدة ضد البدو ويمكن أن نضيف قائداً مجهول الاسم مولجاً لقيادة الوحدات التدمرية في مدينتي عانة وجملا على الفرات.
وزودتنا تدمر بنص واحد يدل على أن الموظفين الكبار وأعضاء مجلس المدينة (البولوتيون) كانوا يتبرعون بمبلغ من المال لدخول الوظيفة كما هو المألوف في غير تدمر من مدائن الشرق وهذا النص هو نص تيبول المؤرخ في نيسان 218 م.
أما الموظفون المدينيون الذين ورد ذكرهم عند تأسيس المدينة ومن ثم عند قيام المعمّرة. وهم شيء مألوف في المدن ذات الشكل اليوناني ومهماتهم هي إدارة الألعاب الرياضية وحفلات الرقص والعناية بميادين الرياضة أو مهمة وضع المكوس للمدينة أو الضريبة الإمبراطورية.
إن هذه المهمات ورد ذكرها في العديد من النصوص. ففي نص من القرن الثالث الميلادي يُمتدح واسيوس والد يوليوس أوريليوس مالكوس رئيساً للسوق (أغورانوم) وقائداً لأنه قام بكل الوظائف دون تفصيل. وقد يكون من هذه المسؤوليات مهمات دينية مختلفة في المعابد التدمرية أو مهمات مألوفة في التقاليد المدينية اليونانية ومن هذه الفئة نعرف في تدمر مسؤولاً عن الرياضة كان في نفس الوقت سفيراً وعضواً في مجلس العشرة. وقد يتحمل السفير نفسه نفقة المهمة التي يرسل بها إلى الإمبراطور أو الحاكم أو إلى مدينة أخرى. ونعرف من السفراء في تدمر يرحبول بن لشمش المتطوع بسفارة لدى أحد الملوك في 138 م، ولا يوضح النص إذا ما كان هذا السفير قد موّل مهمته وهناك ذكر لأحد المسؤولين عن ميادين الرياضة (جمنازياركوس) في نص تدمري من القرن الثاني الميلادي وهو المولج بالملاعب الرياضية في المدينة أو بالعناية بها وتقديم الزيت لها والحطب وهذا الشخص كرّمه الإمبراطور بلبس الأرجوان، أي عضوية مجلس الشيوخ. وفي مدينة الإسكندرية نجد المسؤولين عن الرياضة في مقدمة المواطنين كما في أمهات المدن المصرية وفي مدن العالم الإيجي.
ومهمة "الديكابروت" هي الجباية بخلاف ما قال تيكسيدور وهذا مألوف في أمهات مدن مصر منذ نهاية القرن الثاني. ولن نتعرض إلى المهمات الكهنوتية المدينية الكبرى ومنها رئاسة كهان معبد بل لأن هذا الموضوع قد كثر البحث فيه.
ولقد تغافلت حتى الآن عن الرأي الشائع الذي يقول إن تدمر قد انتقلت من مدينة تابعة في القرن الأول إلى مدينة حرة في عهد هادريان إن القول بهذا التعديل في وضع المدينة يقوم على أسس واهية فقد ذكر إيتين البيزنطي في نص غير واضح أن التدمريين غيروا اسمهم وأطلقوا على أنفسهم اسم "الهادريانو ﭙوليتين" لأن هادريان أعاد تأسيس مدينتهم من جديد والصدى الوحيد لهذه الرواية ورد في بعض النصوص التدمرية التي تبين أن لقب الهادريانية الصق باسم المدينة ولعل ذلك حصل خلال زيارة هادريان في عام 130 م وتم الاستنتاج بأن المدينة غيرت وضعها القانوني. ولكن ماذا نفهم من عبارة "إعادة تأسيس" فتدمر أعيد تأسيسها منذ أكثر من قرن قبل هادريان وما إضافة صفة الهادريانية لها إلا دلالة على أن الإمبراطور قد شملها برعاية فأصبحت تصور نفسها كأنها أسست من جديد. ويمكن أن يكون ذلك نتيجة لمساعدات قدمها الإمبراطور شأن بعض مدائن آسيا الصغرى التي أعفاها الإمبراطور هادريان من دفع الجزية مدة خمس سنوات لتنهض من كبوتها بعد زلزال 17 م. وسميت نيكوميديا الهادريانية بعد أن ساعدها هذا الإمبراطور لتنهض من كبوتها بعد زلزال 120 م. وليست أي من هذه المدن مدينة حرة.ولم تكن بصرى والبتراء مدينتين حرتين رغم اتخاذ كل منهما لقب الهادريانية، فذلك لا يدل على أن المدينة حصلت على صفة المدينة الحرة. وإذا كانت المدينة حرة فمن المستغرب أن لا توضح ذلك في وثائقها وبخاصة على نقودها المضروبة. فحرية تدمر هي موضع شك كما بين تيكسيدور الذي ينكر حقيقة ذلك.
وإذا قبلنا أن تدمر كانت مدينة حرة فيترتب على ذلك نتائج مؤسساتية ويبدو أن اختصاصي تدمر ليس لديهم عن ذلك فكرة واضحة فالأب ستاركي وغاوليكوفسكي لا يذكران من هذه النتائج إلا واحدة إذ يقولون "إن الضرائب لم تعد روما تجيبها مباشرة فثمة قيِّم إمبراطوري يراقب حسن سير الأمور المالية. وقد لوحظ بمناسبة هذا النص أن القيمين كانوا يخصصون بصورة رئيسية للمدن الحرة في الإمبراطورية وفي هذا الأمر خلط غير جائز بين شيئين فالقيم هو مبعوث خاص ومؤقت، موظف روماني مكلف بإعادة الأمور إلى نصابها وليس له علاقة مباشرة بتحقيق الضرائب. أما الضرائب المترتبة لروما فلا مجال لها إذا كانت المدينة حرة.
وفي الواقع إن وضع المدينة الحرة هو امتياز تتحاسد فيه المدن حتى إذا كانت ميزاته ليست بالغة الأهمية. هناك ولاشك ميزة مالية لأن الحرية تجعل المدينة نظرياً خارج تشكيلة الولاية الرومانية أي خارج قائمة الوحدات التي تشكل الولاية. وإن إعلان نيرون حرية يونان آخائيا قد استتبعه انحلال هذه الولاية. لكن هذا لا يحرر المدن من كل جزية وكل التزام تجاه الخزانة الإمبراطورية: فالمدن الحرة كانت تدفع الجزية. وبالمقابل فإن المدينة الحرة لا يمكن أن تكون مجبرة بالطقوس المتعلقة بالولاية كالعناية بالمعابد والمشاركة باحتفالات العبادة الإمبراطورية. ومن الناحية العملية لا يستتبع وضع المدينة الحرة الاستقلال الناجز للمدينة. ويكفي أن نرى كم من المدن الحرة كانت داخل حدود الولايات في آسيا واليونان وفي سورية نفسها. إن الحرية تسمح للمدينة أن تحكم وفق قوانينها الخاصة. لقد أوضح شيشرون لأتيكوس كيف ترك مدن ولايته تصرِّف شؤونها الخاصة. وفي الفترة الإمبراطورية من الحكم الروماني يتضح أن المدن كانت تحتفظ بمؤسساتها. لكن المدينة الحرة تمتاز بأنها تطبق أنظمة هذه المؤسسات حتى إذا كانت تتعارض مع التوجيهات العامة للأباطرة. وفي تبادل رسائل بين المؤرخ بليني والإمبراطور تراجان نرى كيف أن مدينة آميسوس في بلاد البونت سمحت بإجراءات مخالفة للأنظمة الإمبراطورية.
والخلاصة: يبدو لي أن تدمر لم تكن أبداً "مدينة حرة" وحتى إذا تمت البرهنة مستقبلاً أن هذه الحرية قد منحت لها يوماً فإن ذلك ليس له أي انعكاس على مؤسساتها، وأن ما تعدّل فيها هو بعض المظاهر المالية والتشريعية الطفيفة.
2ـ المؤسسات في "الكولونيا" و"المتروكولونيا":
إن أول تغيير طرأ على وضع تدمر كان حصولها على مرتبة المعمَّرة الرومانية (الكولونيا) بعد إصدار القانون الايطالي من قبل سيبتيموس سيفيروس أو كاراكلا ورغم عدم وجود حجة دامغة في تأريخ هذا الحدث فإن هناك اتفاقاً على الاعتقاد بأن ذلك من عمل كاراكلا. وبقيت هذه المرتبة الجديدة لتدمر في عهد أذينة أيضاً وكذلك بعد استيلاء أورليان على المدينة إذ أن ميلاً من أميال الطريق يعود لعهد ديوقلسيان يطلق هذه الصفة على تدمر (الكولونيا التدمرية). إن المدينة لم تختف عند هزيمة زنوبيا ووهب اللات لأن قيماً إمبراطورياً كان موجوداً فيها في عام 328 م.
إن تغيير وضع تدمر تجلى في بعض مؤسسات المدينة، لكن ليس بالقدر الذي يتوقعه الإنسان لأن بعض الممارسات المألوفة في المعمّرات الرومانية في القرن الأول قد زالت في مطلع القرن الثالث. ومن ذلك أن المعمّرة الرومانية كان يتوجب عليها استعمال اللاتينية في وثائقها الرسمية. ومثل هذا الأمر لم يعد مستعملاً. وفي القرن الثالث كانت معمّرات قديمة مثل كورنث تستخدم اليونانية، ومع ذلك ظل استخدام اللاتينية مألوفاً جداً في نقود المعمَّرات مع إصدار مجموعات أخرى من النقود تستخدم اليونانية. ولم تظهر في تدمر إصدارات باللاتينية (فيما عدا إصدارات وهب اللات في أنطاكية التي هي من طبيعة أخرى). فإذن لم تلاحظ التغييرات إلا في أسماء الحكام.
إن مصطلح "الستراتيج" هو موضع التباس لأنه مستخدم في مفردات مؤسسات "المدينة" كما في مفردات "المعمَّرات الرومانية" وبمعنيين مختلفين، كما مر معنا من قبل ونعرف في النصوص التدمرية عدداً من هؤلاء القادة.
ـ يوليوس أوريليوس سيباس أثياكابوس ويوليوس أوريليوس تيتيانوس أثينودوروس في 224-225 م.
ـ يوليوس أوريليوس زبديلاس ـ زينوبيوس الذي كان قائداً عند زيارة ألكسندر سيفيروس للواحة في 223 م، وقد كرّم في 242/243 م.
ـ يوليوس أوريليوس ماليكوس، قائد المعمّرة التدمرية ورئيس السوق في نص تال لعام 212 وقد يكون من منتصف القرن الثالث الميلادي.
ـ يوليوس أوريليوس عوجا الملقب سلوقوس بن عزيز وهو قائد سابق كرّم من قبل المجلس والشعب في تشرين الأول 254 والراجح أن هذا هو تاريخ قيادته إذ أن هذا اللقب غير وارد في كتابة مؤرخة في نيسان 259.
ـ يوليوس أوريليوس نبوزبد بن سواد قائد "المعمّرة العظيمة" في كانون الثاني 262 لكن في ذلك خطأ في قراءة النص لأن قائد هذه السنة كان سيبتيموس وورود.
ـ الشخص نفسه وزميل له مذكوران في نص إهداء وجد في قوس الشارع الطويل مؤرخ بين 262 و267 (ويحتمل أن فيه ذكراً لملك الملوك) وقد يكون زميله يوليوس أوريليوس نبوزبد هو صاحب إهداء كانون الثاني 262.
ـ نجد اسم سيبتيموس وورود في كتاب مؤرخ بين 267-271 وقد ذكر بمناسبة كونه قائداً.
إن المعمّرات الرومانية تتبنى أسماء المناصب الكلاسيكية في المعمّرات الموجودة في إيطاليا وفيها أن "الدومفير" تترجم في اليونانية دوما بالستراتيجيين (القادة) وهم عادة الحكام في المعمّرات الأخرى السورية. إن تقويم الأعوام باسم الحكام في تدمر منشؤه من تماثل وظيفتهم مع وظيفة الدومفير. وفي مثل هذه الظروف يجب النظر بعين نقادة لازدواج استعمال هذا المصطلح في أحد النصوص التدمرية.
إن الموظفين الذين يأتون بعدهم من حيث الأهمية هم الأمناء المدنيون الذين يحملون في اليونان اسم "آغورا نوم" وكلهم قد مارسوا من قبل وظيفة الستراتيج كما يظهر من النصوص لكننا لا نجد أي موظف مالي في ذلك الوقت يقابل عمله عمل "الكستور" في المعمَّرات.
وهناك لقبان آخران يظهران في كتابات المعمّرة التدمرية وهما من أواخر أيام المدينة الأولى وأولهما هو "ديكيودويتس" الذي كان يحمله سبتيميوس وورود وقد فسِّر بأشكال مختلفة فكان جان كانتينو يرى أنه "الجوريديكوس" وهو المقابل للقب باللاتينية في الإسكندرية. وهو يطلق على موظف روماني مكلف بالقانون، ويساعد الوالي بتطبيق أحكامه. لكن في مثل هذه الحال كان وورود يمارس منصباً من مناصب الولاية لا من المناصب البلدية الأمر الذي لا يطابق تماماً لتعبير المستعمل "ديكيودويتس". فهل أحدث الحكم الروماني مثل هذا المنصب في تدمر. إنني لا أرى سبباً لذلك ويتساءل ف. ميللر ما إذا كان ذلك يقابل اللقب الفارسي "أرغابيت" (حاكم) الذي يحمله وورود في نصوص أخرى. ولا سبيل للتأكد من ذلك. لكن المؤكد أن هذا الاسم لم يحدث من قبل الإدارة الرومانية وأن هذه الوظيفة مرتبطة بتطور المؤسسات في تدمر خلال السنوات التي علا فيها نجم أذينة.
وفيما يتعلق بلقب "بروستاتيس" الذي أطلق على سيبتيميوس أبسايوس (حفشي) في نصب تكريمي أقامته المدينة له فهو معادل تماماً للقب "ﭙاترونوس" رغم أن النص اليوناني يستخدم في الغالب مباشرة المصطلح اللاتيني فنقع عليه في نصوص يكرّم فيها مواطنون عاديون سبتيميوس وورود صديقاً وزعيماً وراعياً. إن إعادة استعمال ألقاب الزعامة المدنية التي كانت قديمة في المدن الغربية قد انتشرت في المدائن ذات النظام اليوناني. إن أهمية الأمر تكمن في شخص سبتيميوس أبسايوس الذي يحتمل أنه هو زعيم ثورة تدمر الثانية بعد سقوط المدينة.
إن صعود نجم أذينة وأسرته وارتفاع شأنهم في تدمر قد كان مؤخراً موضع دراسة جديدة مقنعة قام بها م. غاوليكوفسكي لكن إقامته هذه "الإمارة العربية" لم تنه وضع تدمر كمعمّرة ولم تغير مؤسساتها. فقد استمر انتخاب "الستراتيجين" وأن وضع المعمَّرة بقي لتدمر حتى آخر القرن الثالث الميلادي. في الحقيقة لقد أحدث أذينة مناصب جديدة ومنها منصب "الآرغابيت" لكن سلطته العليا "المستبدة" في تعابير العصر الهلينيستي كانت فوق المؤسسات القائمة دون أن تزيلها.
3ـ تدمر وسلطات الولاية الرومانية:
إن وصاية إدارة الولاية الرومانية على تدمر لم تكن أقل أو أكثر مما هي عليه في بقية مدن الإمبراطورية وتمارس بالمقياس الذي تمليه مصالح تدمر المالية. إن الحاكم أو ممثله لهما الحق في استدعاء المجلس أو منعه من الاجتماع لكن ذلك لا يحرم المؤسسات المدينية التدمرية من كل حكم ذاتي. والسلطات الرومانية مستترة كثيراً في المدينة فيما عدا الجنود المعسكرون فيها.
إن "المكلف" بتدمر المذكور في فقرة من النص اليوناني للتعرفة له مثيل في الإدارة الرومانية بسورية التي كانت تتميز بطابعها المشكل والمتبدل كما يتضح من مسألة إلحاق غزة واتحاد المدن العشر. كانت روما تلجأ لإرسال مندوبين من قبل الحاكم في أنطاكية مكلفين بمهمات خاصة. ومن هؤلاء منتدب لمقاطعة يهوذا اعتبر حاكماً في الوقت الذي كان فيه تحت إمرة حاكم ولاية سورية، مكلفاً بحفظ النظام في هذا الجزء من سورية (ويهوذا لم تشكل ولاية رومانية إلا اعتباراً من عام 70) واتحاد المدن العشر قد عهد به بالطريقة نفسها إلى منتدب، الأمر الذي يبرر وضعه الخاص في القرن الأول.
إن المكلف بتدمر هو من النوع نفسه لكن لقبه مختلف ويوحي بالمألوف لدى الهيلنستيين. وكما في يهوذا واتحاد المدن العشر لم يكن من مهمة مندوب الحاكم إدارة المدينة لكن تأمين حضور وسهر على احترام مصالح روما وتأمين النظام والعدالة. وقد يكون هذا المندوب عسكرياً كما كان في الحالتين المذكورتين لكننا نرى في التعرفة الجمركية (السطور 127 ـ 130 من القسم اليوناني) أنه مدعو للتحكيم في النزاعات وأفراد الشعب.
إن "اللوجسيتس"المذكور في نص من النصف الأول من القرن الثاني لا يتبع للإدارة البلدية. ومن النصوص المكتشفة في أرجاء الإمبراطورية الرومانية نعرف أنه عبارة عن قيِّم مكلف من قبل الإمبراطور بتنظيم المالية المضطربة في مدينة من المدن فهو إذن غريب عن المدينة.
4ـ ممارسة القيم المدينية:
إن إقامة مؤسسات يونانية رومانية في تدمر أمر لا شك فيه لكن البعض يرى أن هذا التنظيم كان شكلياً، لكننا نرى أنها في ذلك أفضل من مدائن سورية المتأثرة باليونان. فصيغ قرارات المجلس والشعب والعبارات المستخدمة في تكريم من جواد وكريم ومنقذ ورفيق النصر ومحب وطنه هي كلها مقتبسة من التقاليد المدينية اليونانية.
والأمر نفسه في الإحسان الذي هو كما تمت البرهنة مراراً في صلب الممارسات المدينية في العصر الإمبراطوري الروماني ونراه في تدمر مماثلاً تماماً لما في المدائن الأخرى، وتدل على ذلك النصوص التدمرية وبخاصة نص التدمري مالي الملقب باسم أغريبا وكرمه الاستثنائي عند مجيء هادريان الذي يشبه تصرف مواطن آخر في أفاميا والأمثلة على تقديم تبرعات للمدينة من مال وعقار وبناء أقسام فيها مذكور كثيراً في النصوص، ويكفي للبرهان على غنى الروح الهلينية في تدمر ذكر بلاط زينب (زنوبيا).
ومما يدهش الإنسان غياب المرأة التدمرية في القرارات التكريمية الخاصة بالتبرعات إلا في حالة واحدة تتعلق بتومالاخيس بنت حدودان التي قدمت 2500 دينار لبناء حمام في 2 آب 182 م، فهل ذلك من بقايا التقاليد القديمة التي تغيب المرأة عن الحياة العامة.
وأخيراً إن لويس روبير قد لاحظ غياب المباريات في تدمر وهو أمر غريب في مدينة بمثل أهميتها وغناها. لكن وجود ساحة رياضية يدل على أن تدمر لم تهمل هذا النوع من النشاط اليوناني النموذجي. على أن مثل هذا الأمر لا يكفي لنفرغ "مدينة" تدمر من كل جوهر. لأن كل شيء في مؤسسات المدينة منذ تأسيسها كمدينة إلى أن أصبحت في رتبة معمّرة (كولونيا) يدل على نجاح المؤسسات اليونانية الرومانية المنطبقة على المألوف في ذلك العصر.


موريس سارتر

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

اسمك

الدولة

التعليق

:

جميل جدا