أكرم خان ينزف رقصاً أمام غربة الحضارة الرقمية

24 03

وصفة اللقاء والاتحاد الإنساني بلغة بديلة عالمية

بداية لا بد من رفع القبعة للأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية احتراماً وشكراً للجهود الخلاقة التي استطاعت استقدام «باهوك» عرض الرقص المعاصر للفنان العالمي أكرم خان الذي اقترحه كادر خبير متذوق في المسرح والرقص هو الدكتور أسامة غنم الذي أتحفنا أيضاً باقتراح العرض المسرحي المذهل «النورس» لأرباد شيلينغ، وما زلنا في الشهر الثالث من الاحتفالية.
لا أحد يعلم بالضبط إلى أين ستصل تلك الأبعاد والتوظيفات التي تستطيع حملها خشبة المسرح التي بدأت طقساً دينياً بممثل واحد لتصل اليوم إلى إبداع اسمه الرقص المعاصر، وهو الحالة الأرقى من المسرح عندما تتحول الخشبة إلى فضاءٍ يقدِّم أقصى ما يمكن من الخلق معتمداً على كوادر استثنائية الطاقة والقدرة، في عرض درامي يعتمد على كل أدوات العرض المسرحي والممثل المحترف، طالباً من الجسد أن يكون سيد الإبهار، والتعبير هو عن طريق الرقص المنسجم والمنفعل بالحدث والفعل الدرامي.
دخل أكرم خان المولود في بريطانيا في 1974 لعائلة من أصل بنغالي، ميدان العمل الاحترافي وهو في الرابعة عشرة، عندما تم اختياره للعمل في عرض «المهابهارتا» المأخوذ عن الأسطورة الهندية الشهيرة وكان من إخراج بيتر بروك مبدع «تراجيديا كارمن». وأسس فرقته الخاصة عام 2000 بعد أن درس الرقص المعاصر، وهو الذي عرف قسوة هجرة الشباب إلى بلدان كبيرة وقوية مثل بريطانيا وتعايش مع ذلك وهي تقدِّم ما لا تقدمه بلادهم، فكان الوطن والغربة والحنين والحزن عناوين واضحة وقاسية في العمل الراقص الذي كان مزجاً متجانساً مع جمل مكثفة ومقتضبة بإصرار مسبق، لكن توسعت دلالاتها لتحتضن الإنسانية والإنسان في كل مكان، وليأسرنا أكرم خان في عالمه، على الرغم من بُعد اللغة والحداثة أمام هول ما نرى من عذاب وجمال وعمق.
الآلات لا تشعر!
وصولاً إلى «باهوك» يؤكد خان أنه ولد ملتصقاً بالحنين لجذر الإنسان الذي هاجر وانسلخ -رغماً عنه- إلى العزلة وغربة الانتماء وبلدٍ ليس له، بعيداً (يقول «وطني قصيّ») عن وطن يحمله معه أينما كان وأينما اتجه، جرحاً نازفاً لا يبرأ، وحنيناً قاتلاً، تمثلته ثماني شخصيات تعود بمرجعيتها الإنسانية والثقافية والدينية إلى أصول مختلفة من أنحاء العالم: الصين، كوريا الجنوبية، الهند، سلوفانيا، جنوب إفريقيا، إسبانيا. ويلتقون في صالة للانتظار في مطار، لكن ذلك الانتظار يطول كثيراً، وهم ثماني شخصيات (بلاد) يتسمرون أمام شاشة رقمية تخاطبهم وتقبض عليهم وتتحكم بمصيرهم وتسجنهم.
 والحكاية بالطبع لم تكن عبثية في اختيار تلك البلدان وتلك الجنسيات التي ارتبطت مع بريطانيا بقصص تاريخية سوداء أساسها الحرب والاستعمار، ليكون الإرث الديني والثقافي واللغوي أسساً مكونة متجذرة تدخل في بناء الإنسان وتركيبته الفكرية والعاطفية، وغيابها لا بد أن يصنع ما يصنعه من صنوف ردّات الفعل التي ربما نراها تحصل حولنا والدخول وتبّنيها ليس سهلاً على الإطلاق: عندما حاولت الفتاة التقرب إلى "الهندي" بذكر مقدساته «غيش» و«بوذا» لم يسعفها نطقها الخاطئ في كسر الجدار القائم بين حضارتين.
وبالرغم من غياب "العربي" بوصفه جنسية مهاجرة في الغرب عن ملعب خان المسرحي الذي ارتكز على المعاناة والغربة والاغتراب عن الوطن والعلاقات الإنسانية بفعل «الأرقام» و«الإلكترون»، فإن موسيقا نيتن ساوهني، التي احتوت قطعة كاملة شرقية أو ربما إسلامية أو صوفية، كانت حاضرة مترافقة مع كلمات مباشرة في الإيحاء لجذر الكلمة المغناة «آه يا ليلي، يا ليل»، وكذلك كانت موسيقا التراث الصيني التي أشرف عليها غيسيل إدواردز حاضرةً، وكان الاختتام بموسيقا الميتاليك كتعبير عن تحول الإنسان إلى آلة مادية تتحرك ضمن جملة موسيقية واحدة وبزوايا قائمة على طريقة «الروبوت» المبرمج، وبعد آخر مشهد كانت جملة «الآلات لا تشعر!».
الرابط الوحيد بين كل هؤلاء الموجودين بالمصادفة في مكان واحد كان الانتظار
ينفتح المشهد الأول على مجموعة من المسافرين يجلسون على كراسٍ في عمق المسرح، أما في المقدمة على اليمين وقف طويلاً شابٌ يحمل حقيبة، وعلى الجهة المقابلة جلست فتاةٌ على كرسي وبجانبها كرسي آخر فارغ، وتناوب في الجلوس عليه عدد من المسافرين الذين كانت الفتاة السلوفانية تجد صعوبة بالتواصل معهم في البداية بسبب اللغة، ولم تكن الفتاة الصينية تجيد اللغة الإنكليزية، فكان الإرهاق في إيصال الفكرة، أما إذا كان هناك فهم في اللغة فيبدو من الصعب الدخول إلى عوالم الآخر المختلفة عنا بما تحمله من إرث حضاري آخر. لكن العجز في التواصل كان موجوداً أيضاً بالرغم من تجاوز اللغة بسبب التشتت والخراب والبعد عن الأسرة والغربة التي كانت تعاني منها الفتاة، وبدا ذلك واضحاً في مشهد الالتفاف حول الشاب الكوري الذي أصيب بنوبة قلبية أداها بجسده رقصاً في المكان على موسيقا انتظام ضربات القلب، عندما عجزت الفتاة عن اختراق الكتلة البشرية التي احتضنته، وعبر عن ذلك العجز في التواصل الاتصال الهاتفي الذي أجرته مع أمها وسألتها «هل أنت تائهة؟ أنت تائهة؟» فيعود الشاب الهندي ويسألها: «هل تعلمين إلى أين أنت ذاهبة؟» فتكتشف وإيّانا أنها في مطار دون أن تعرف.
وهل يكفي أن تمتلك أوراقا نظامية كي تدخل بريطانيا؟ والجواب كان عند تجربة الكوري الذي لا يتقن اللغة الإنكليزية وصديقته الفتاة التي تكبدت عناء الترجمة: لا! لا يمكن أن يكون سهلاً دخول البلاد المتحضرة التي بنت حضارتها على استنزاف بلاد أخرى، وأول إذلال يكون في مطار الدخول الذي يتعرض فيه القادم إلى أسئلة إجاباتها مكتوبة ومرفقة مع الوثائق، لكن الموظفة لا تتعب نفسها، فصرخت صديقة الكوري لأنها تترجم: «كل الأوراق والوثائق أمامك فقط اقرئيها وستعرفين» فيبدأ الكوري بالتكلم: «مرة أضعت طريق العودة إلى البيت وكل ما أعرفه أن الطريق يسير بالقرب من نهر، وتبعت النهر فوصلت إلى مكان كان فيه رجال كثيرون يتحدثون ويصرخون وأحسست بشيء غريب لأن الناس لا يتصرفون هكذا في كوريا، لكنني ما زلت أحس بتلك العيون على جسدي، وأردت أن أختفي كما أفعل الآن»، وعند ذلك نعرف لماذا فكر هذا الشاب الكوري الجنوبي بالهجرة أو السفر إلى بريطانيا: ببساطة لأنه يريد أن يختفي لأنه لا يجد تفسيراً لما يجري في بلاده، بعد أن كانت إجابته الأولى عن سبب القدوم هي الرقص!
انتظار، تأخر، عطل
الشاشة الرقمية التي كانت مثبتة متدلية من السقف كانت البطل في العمل لما حملته من تدخل في الجرعات الدرامية التي حقنتها في شخصيات العمل بإظهار كلمات سيتم التصرف من قبل المسافرين بناء عليها: «انتظار، تأخر، عطل»، وكل هذا الوقت الذي أُجبِر المسافرون على قضائه معاً، فجّر ما فجّره من مواقف كانت نتيجة للحالة القهرية التي تعيشها كل شخصية على حدة، عندما اختلق شاب شجاراً مع شاب آخر بحجة التحرش بفتاته، أما الآخر فقد كان جالساً بقرب أخرى مالت برأسها عليه فدخلنا معه في مشهد حلم أدى فيه الشابان رقصة لالتحام جسدين عكست القدرة الهائلة على اختلاق المشهد بحلوله ورسمه ثم أدائه الذي يتطلب جسداً حرفياً مدرباً وقادراً. ولعبت الشاشة دوراً في قيادة عواطفنا عندما تتالى ظهور العناصر المكونة للطبيعة، مثل فواصل بين مشاهد راقصة أو متداخلة مع حوار يدور: «هواء، ماء، تراب، نار»، وتعود الكلمات ذاتها للظهور في آخر العمل إجابة عن سؤال عاملة الجوازات في المطار «ماذا في أوراقك؟» لتأتي الإجابة على الشاشة: «هواء، ماء، نار، تراب، لكن بغير عنوان»، أما السؤال الثاني فكان: «ماذا تحمل؟» فأجابت الشاشة «جسد، ذكريات، أمل، وطن».
اللغة التي شكّلت المحور الأهم في العمل، كخط فكري موازٍ للحدث الدرامي، وكوسيلة للتواصل الإنساني، كانت عند خان توالداً لركام من الصور والأبعاد والحالات والمفاهيم، وساهمت في تصعيد الانفعال في الحالة الدرامية عبر الضيق والوحدة اللذين شكلهما غياب القدرة على التواصل بها، وكُبت الكثير من الانفعالات والصور والبوح عندما لم يكن هناك من متلقٍ يفهم هذه اللغة ليصطدم العالم بالإكراه على تعلم لغة أخرى هي لغة الأقوى والمهيمن عسكرياً واقتصادياً ولغة مصنعي الحضارة الرقمية الحديثة.
الرقص معاً
 أول محاولة للتواصل كانت عبر «الحلم»، لكن المحاولة الثانية كانت عندما أصيب أحدهم بنوبة قلبية، فالتجمعُ الأخير على مواجهة محنة الإنسان في مواجهة الحالة الرقمية: «الرقص معاً (Dancing Together)» كان الختام الذي حمل وصفة اللقاء والاتحاد الإنساني كلغة بديلة عالمية، تتناهى في داخلها عوائق الهوية والثقافة، وقد لا يكون الرقص نوعاً بل كدلالة على الفعل الإبداعي الجماعي، وهذا بالضبط ما صادفته الفرقة على أرض الواقع عندما كان أعضاؤها كما كانوا في العمل من جنسيات ولغات مختلفة استطاعوا التجمع والاتفاق على هدف ما متجاوزين كل العوائق المحتملة، وكانت نقلتهم الكبيرة عندما وافقت فرقة «الباليه الوطني الصيني» على العمل والتعاون مع فرقة صغيرة للرقص المعاصر مثل فرقة أكرم خان التي «لا تزال في منتصف الطريق» وكما قال منتج الفرقة فاروق شودهري: «هناك تحديات واضحة مثل اللغة والثقافة وشكل الأداء والقدرات، لكن تحديات أخرى هي أقل وضوحاً مثل الأمل في إعادة الابتكار وتطوير توقعات جديدة»، وزوهاو روهينغ، المدير الفني للباليه الوطني الصيني يضيف: «اخترنا ثلاثة من أبرز راقصي الباليه الوطني الصيني ليقضوا سنة مع خان، ساعين إلى تطوير العرض والتدرب عليه، وأنا فخور بمساهمتهم الخلاقة وقدرتهم على الرقص خارج حدود الباليه الكلاسيكي».


الوطن

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق