تدمر، البتراء، البحر الأحمر وطريق الحرير

18 08

يذكر بلينيوس (Pliny) القديم في كتابه "التاريخ الطبيعي" الذي ألفه في عام 77 للميلاد فصل (VXX, 88) بأن تدمر تتمتع بمركز خاص بها بين الإمبراطوريتين العظيمتين الرومانية والفرثية (البارثية) وكل منهما يتودد إليها كلما برزت خلافاتهما.
وقد قيل عن هذه الشهادة أنها خارجة عن زمانها، بما أن تدمر كانت قد فقدت استقلالها في مطلع القرن الأول للميلاد ومع ذلك وكما فسره تيخيدور (J.Teixidor) (1984: 13ـ14)، ورغم خضوعها لروما فإن هذه المدينة التجارية استطاعت الاحتفاظ بحريتها بمواجهة هاتين القوتين اللتين كانتا تتقاسمان العالم الشرقي في ذلك العهد واحتفظت باستقلالية العمل فيما يخص بعلاقاتها التجارية وذلك من أجل مصلحة روما نفسها. وبفضل هذه اللعبة الدبلوماسية الماهرة استطاع أصحاب القوافل التدمرية السيطرة على الطرق التجارية الرئيسية. فالطريق الشمالية الذي كان يربط تدمر بسورا (Soura) على نهر الفرات مروراً بأرك والسخنة والرصافة كانت مطروقة منذ الألف الثاني قبل الميلاد على الأقل. (انظر ورقة كلينجل Klengel في هذا المجلد). إلا أن الرُقم التي وجدت في مسكنة Emar إيمار، لا تشير إلى وجود نشاط تجاري في ذلك العصر (أرنو 1975) على أية حال فإن مثل هذا النشاط كان غير معقول في هذه الفترة لأن استخدام الجمل لم يكن شائعاً في ذلك العصر لنقل البضائع. ومن ناحية أخرى فإن الطريق التي كانت تصل تدمر بالهند والصين عن طريق أفغانستان لم تكن آمنة بسبب القبائل البدوية التي لم تكن الممالك في ذلك العهد تستطيع السيطرة عليها. (غاوليكوفسكي Gawlikowski 1988: 183). وفي وقت لاحق أي في العصر الهيلنستي فإن التدمريين كانوا يُعتبرون الوسيط بين الشرق الأقصى والبحر الأبيض المتوسط وهكذا فإن أبيانوس الذي روى غزوة فرسان مارك أنطوني على الواحة عرّف التدمريين بأنهم: "تجار يجلبون من بلاد الفرس منتجات الهند والجزيرة العربية ليبيعوها إلى الرومان" (الحروب الأهلية 5، 9). ويجب أن نضيف إلى هذه منتجات الصين. وفي الواقع فإنه في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد عادت العلاقات التجارية بين الصين والإمبراطورية الفرثية إلى الحياة لتسمح لطريق الحرير بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط بواسطة تدمر (انظر ري كوكي Rey-Goquais- 1987: 228) غير أن التوتر لسياسي بين الفرثيين (البارثيين) والسلوقيين وانحطاط هؤلاء في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد لم يعد يسمح لبضائع الشرق الأوسط بالمرور.
لقد حاول أنطيوخوس الثالث الكبير إعادة النشاط إلى الطريق الشمالية بعد انتصاراته في آسيا وإقامة علاقات ودية مع أمراء وادي كابول في أفغانستان. وحاول أيضاً إقامة علاقات تجارية مع الجرهة Gherra وتيلوس (البحرين) على ضفاف الخليج لكن جهوده اصطدمت بالطموحات الإمبريالية للرومان حيث مُنيَ بالهزيمة على يد الفيالق الرومانية في مغنيزيا في سيبيل وجُرّد من كل انتصاراته وأُرغم على دفع غرامة حرب مقدارها ألف وخمسمائة مثقال سنوياً (فيل Will 967: 181 وما يتبع). أما ابنه أنطيوخوس الرابع ابيفان فإنه اجتاح إيران ووصل إلى الخليج. (بلينيوس التاريخ الطبيعي 6: 147). على أية حال فإن الأنباط تواجدوا هناك بكثرة (ري كوكيه Rey-Goquais 987: 227). ولم يحالف جهود أنطيوخوس الحظ بتنشيط حركة التجارة من سورية إلى الهند بينما كان التدمريون أكثر فعالية من السلوقيين: إذ أنه من مطلع القرن الأول للميلاد أخذ رجال القوافل التدمرية في الواحة ينظِّمون طريق الفرات التي كانت تمر بدورا أوروبوس (الصالحية) ثم تنزل بمحاذاة الفرات عن طريق عانه ثم فولوجزياد (أولوشيا) لتصل إلى خراكس (لمحمّرة) في مملكة ميسان بالقرب من البصرة على شط العرب. وإن أقدم كتابة للقوافل من 19 قبل الميلاد هي نص تذكاري نقشه التدمريون والإغريقيون في سلوقية على نهر دجلة ليكرموا تاجراً غنياً هو "يدع إل" بن عزيزو من بني متيبول.
وكما ذكرت سالفاً فإن الرومان سمحوا للتدمريين بإقامة علاقات طيبة مع الفرثيين وذلك لمصلحتهم. وهكذا فإنه خلال مهمته في الشرق في 117 و118 للميلاد فإن المبعوث الروماني جرمانيكوس أوفد إلى ملك خراكس الكسندر التدمري (ستاركي ـ Starcky ـ جافليكوفسكي Gawlikowski ـ 1985: 37) وإن جرمانيكوس هذا ذهب إلى الحارث الرابع ملك البتراء (سيريغ Ant. Syr I, 46 et 52 Seyrig) وأثبتت هذه المهمة بتأكيد أن العلاقات كانت قائمة بين عاصمة الأنباط وتدمر منذ القرن الأول للميلاد وتطورت هذه العلاقات في القرنين الثاني والثالث بسبب المصالح الاقتصادية التي نشّطها الأنباط في منطقة البحر الأحمر (انظر كاسون 1989 ـ Casson ـ 1989 وري ـ كوكيه 1987: 228). وقد ذكر سترابون نشاط الأنباط الذي امتد من خليج إيلة (العقبة) حتى الجرهة على الطرف الآخر للبحر الأحمر في القرن الأول قبل الميلاد (جغرافيا 4،16). والبحر الأحمر يمتد من خليج العقبة حتى الخليج العربي. أما التدمريون فقد اضطروا إلى إقامة محطات تجارية لهم على الخليج العربي، فإذا كان ملك ميسان قد عيَّن في عام 131 للميلاد يرحاي بن نبوزبد كحاكم لجزيرة البحرين فهذا يعني أن تجار تدمر كانوا قد استقروا على ضفاف الخليج منذ وقت طويل (سيريغ 1941: 252). أما طريق الحرير التي أغلقها الفرثيون فإن تجار تدمر قد استعاضوا عنها بطريق بحرية، فإنه من المحتمل أن التدمريين كانوا ينزلون الفرات على قوارب من القرب (جافليكوفسكي 1988: 168) وذلك لينطلقوا من موانئ الخليج العربي في رحلات برية جريئة. وهكذا فإن ماركوس ألبيوس يرحاي قد أقيم له اثنا عشر تمثالاً. وان أحد النقوش في السوق التجارية تؤكد بأنه ساعد التجار الذين ذهبوا إلى سكيثيا ومرفؤها الرئيسي برباريكوم يقع على مصب نهر الهندوس. وإن هؤلاء التجار قد استقلوا مركب حُنين بن حدودان (شكل 5) (سيريغ، 1941: 259ـ263) وكان هذا البحار الجريء يعود محملاً بالبضائع الثمينة التي كان من بينها الأقمشة القطنية والحجارة الكريمة مثل اللازورد والفيروز ولكن بالأخص حرير الصين. وإن الرومان الذين عرفوا هذا النسيج الثمين في القرن الأول قبل الميلاد في معركة كار Carrhes أصبحوا من المولعين به. ويبين اكتشاف أقمشة حريرية في مقابر تدمر أن الواحة قد أصبحت مركزاً هاماً لاستيراد مثل هذا النسيج (انظر فيل Will وستاوفر Stauffer 1992 في هذا المجلد)؛ وكانت البتراء كذلك محطة توقف هامة على طريق الحرير بما أنها مذكورة في حوليات ملوك أسرة "هان" Hans الصينية المتأخرين تحت اسم لي ـ كان وهو تحريف لاسمها القديم "رقيم" لأن حرف الراء غير موجود في اللغة الصينية فيستعاض عنها باللام (انظر ميلر Miller 1969: 134 وجراف Graf في هذا المجلد)، وكان بالإمكان أن يصل الحرير بواسطة المراكب التدمرية أو الإسكندرانية إلى الخليج ثم يُنقل على ظهور الجمال حتى البتراء أو يستطيع بواسطة الطريق البحرية الوصول إلى لوكي كومي ـ الحوراء وهو المرفأ الرئيسي للأنباط على البحر الأحمر. أما التدمريون فكانوا من جانبهم يرسلون بضائعهم إلى موانئ فينيقيا على البحر الأبيض المتوسط عن طريق حمص أو دمشق ـ بانياس ولم تذكر الكتابات شيئاً عن هذه الطريق لأنها ربما كانت تحت سيطرة أجنبية مثل الرومان أو الفينيقيين وعلى أية حال فإنه مؤشر ذو مغزى أن يضع بلينيوس البتراء على ملتقى طريقين "الأولى متجهة من سورية إلى تدمر والأخرى قادمة من غزة ". كان لابد للأولى أن تتبع طريق الملوك والتي عرفت فيما بعد باسم طريق تراجان الجديدة. أما الثانية فكانت تنزل من البتراء باتجاه غرندل ثم وادي العربة لتتصل بطريق غزة بواسطة كنتلة عجرود في سيناء (انظر نقب 1966: 89ـ98). ودون أن نبالغ بأهمية هذه المعلومات فإنه بالإمكان أن نستنتج وجود طريق مواصلات مباشرة بين البتراء وتدمر من ناحية ثم منها إلى سيناء وغزة. وسنرى فيما بعد أهمية هذه المعطيات بالنسبة لاجتياح التدمريين لمصر. غير أنه بالإمكان أن نستنتج حالاً وجود طريق جنوبية تصل بين الجزيرة العربية وتدمر.
الطريق الجنوبية والعلاقات بين الأنباط والتدمريين:
إن المصادر والكتابات تكاد تكون معدومة على العلاقات التجارية بين الأنباط وأهل تدمر. ولكن يمكننا أن نقدر بأن هذه العلاقات كانت وديّة وسلمية بين الشعبين اللذين كانا ينتميان إلى أصل عربي واحد. فالأنباط الذين وصلوا إلى بلاد أدوم في القرن السادس قبل الميلاد تقريباً، خزّنوا في صخرتهم البخور والمر اللذين نقلوهما من العربية السعيدة ـ كما ذكر ديودوروس الصقلي (Bib. His. XIX, 95). وفي القرن الأول قبل الميلاد انتزعوا هذه التجارة المُجدية من المعينيين وأخذوا يزودون الغرب بهذه الكماليات الفاخرة عبر موانئ رينو كولورا ـ العريش وغزة. كما وأنهم على أثر تحويل التجارة نحو الإسكندرية في عهد أغسطس قيصر (سترابو جغرافية 16، 4، 24) أخذوا يحولون أنظارهم نحو طريق الشمال، تلك الطريق التي كانت تتجه إلى دمشق ثم إلى تدمر. ولم يكن عبثاً أن بلينيوس جعل البتراء على التقاء الطريقين الذين تم ذكرهما آنفاً.
وإذا كان رابيل الثاني (70ـ106 م) قد اختار بصرى عاصمة ثانية، فلم يكن ذلك بالتأكيد بسبب سهول حوران الغنية فقط، وإنما بسبب تحول طرق التجارة نحو الشمال، فإن وجود الأنباط على طريق قنوات كان أكيداً (انظر دنزر وآخرون 1985: 69) وذلك بسبب وجود معبد نبطي الأصل، يرجع إلى عهد رابيل الثاني. كما وأن وجودهم كان مؤكداً في الضمير على بعد أربعين كيلومتراً الى الشمال من دمشق على طريق تدمر. وذلك باكتشاف نقش في معبد زيوس إله السماء. (انظر كليرمون غانو ـ Clermont Ganneau 1888: 47 وما يتبع).
"هذا هو المذبح الذي نصبه هانئ. مُعتق جديلة ابنة بجرة أم أدرمو الحاكم ونجيدو أبناء عبد منكو بالتبني، الحاكم ـ في شهر أيار سنة 405 حسب تقويم الرومان وهي السنة الرابعة والعشرين لرابيل الملك".
إن تاريخ هذه الكتابة هو 94 م في حكم الإمبراطور دومسيانوس ويؤكد أن السنة الأولى لرابيل هي في 70 م. إن زيوس إله السماء هو بعلشمين السوري وربما كان يقابل الإله ذو الشرى عند الأنباط (زيادين 1985أ: 245).
أما الحاكمان أدرمو وعبد منكو فلا نعرف عنهما شيئاً ومن الصعب معرفة وظيفتهما. فالأسماء في هذه الكتابة هي نبطية (مثل هانئ وعبد منكو الخ....).
ومن الممكن وجود جالية نبطية في ضمير نفسها على طريق تجارية من دمشق إلى تدمر والتي كانت نشطة في القرن الأول للميلاد.
في نفس هذه الفترة دشن وهب الله من السويداء في جبل العرب معبداً في البتراء "للإله صعب الذي يسكن في أصل الخبثا" (انظر ميليك، 1970: 158 و1982: 264). لم يتم اكتشاف هذا المعبد بعد، غير أن جبل الخبثا الذي يرتفع إلى الشرق من جبال البتراء يشتمل على أعظم الواجهات الصخرية والتي يقع عند نهايتها مدفن سكتيوس فلورنتيتنوس، الحاكم الروماني للمدينة. وكما يعتقد ميليك فإن الإله صعب هو الإله القبلي للأنباط، قبل هجرتهم إلى بلاد أدوم (1982: 264).
وهناك نقش تدمري يشير إلى هذا الإله على أنه "الإله صعب الذي يُدعى جَد الأنباط" أي رائد حظهم (ميليك 1982: 163ـ64). إن هذا النقش التذكاري إلى الإله "الجد" للأنباط لهو شاهد جيد على طيب العلاقات التي كانت سائدة بين الشعبين. وإن ضم تراجان لمملكة الأنباط عاد بالفائدة على تجار تدمر إذ فتح لهم أسواق الجزيرة العربية ومصر على البحر الأحمر. وإن طريق تراجان الجديدة التي رُصفت ما بين 11ـ114م من البحر الأحمر وحتى بصرى، إنما نشّطت التبادل التجاري بين سوريا والجزيرة العربية. إذ أننا نعلم أن الرومان قد احتلوا المحطات التجارية النبطية من الحجر / مدائن صالح وحتى دومة /الجوف. في وادي السرحان (Bowersock بورسوك 1984: 133ـ136).
وبالاستفادة من هذا التغلغل الروماني في الجزيرة العربية فإن العلاقات التجارية بين مملكة الأنباط السابقة والولاية السورية قد تطورت.
ففي عام 132م أهدى في تدمر "عبيدو بن غنمو بن سعد اللات النبطي في حيرة ومعسكر عانه مذبحين إلى الإله شيع القوم الذي لا يشرب الخمر، من أجل سلامته وسلامة مُعيتي وعبدو إخوانه وسعد اللات ابنه. في شهر أيلول عام 443. ولذكرى زبيدا بن شمعون بن بلعقب مضيفه وصديقه وذلك أمام شيع القوم الإله الطيب. وليُذكر كذلك كل من يزور هذه المذابح ويقول: الذكرى الطيبة لأسماء كل هؤلاء". (مدونة النقوش السامية رقم 285، RES).
كان عبيدو فارساً في الخدمة على ضفاف نهر الفرات في معسكر عانة بين دورا أوروبوس وهيت ولقد ظن البعض أنه كان يأتمر بأمر الفرثيين ولكن ستاركي (1985: 86) يعتقد أن الضفة الشرقية لنهر الفرات إلى الأسفل من دورا أوروبوس أصبحت تحت سلطة تدمر الإدارية بموجب اتفاق كان الإمبراطور هادريان قد أبرمه مع الفرثيين. نحن نعلم على أي حال أن رماة تدمريين كانوا يقومون بدوريات في الأراضي الفرثية لحماية القوافل. ومن المعروف أن شيع القوم الذي أهداه عبيدو المذبحين كان الإله الحامي للقوافل وأن تحريم احتساء الخمرة كان مفروضاً على الرماة دون شك (حتى لا يخطأوا هدفهم).
وكما يذكر النقش فإن عبيدو كان ينزل على الرحب والسعة في تدمر بما أنه كان في ضيافة صديقه زبيدا. وبدورهم فإن التدمريين طرقوا دروب الجزيرة العربية. ومن الغريب أن المر والبخور وهما المادتان المرغوبتان كثيراً في الشرق وفي الغرب غير مذكورتين في تعرفة تدمر. "وان الزيت وحده والمنقول في أواني الالبستر" كان يخضع للضريبة (تكسيدور 1984: 86). هذا رغم أن التدمريين ساروا على طريق بلاد العطور، أي حضرموت وعاصمتها شبوة والتي كانت نقطة انطلاق القوافل المحملة بهذه المنتجات الثمينة. فقد وجدت نقوش بالعربية الجنوبية على صخرة يعتمرها بناء مربع ضلعه 6.70 متر ويبعد عشرين كيلومتراً إلى الجنوب من شبوة. ويعرف "بالعُقلة". وكانت بعثة فرنسية قد نقبت داخل البناء عام 1976 ووجدت "حجرة مطلية بملاط جميل" (بيرين جاكلين Pirenne J. 1990: 98). وفيها مصطبة ملاصقة للجدار الشرقي. ويذكر أحد النقوش (مدونة النقوش السامية 491 RES)، العاديلوط الذي جاء إلى هذا المكان "أنوادوم" من أجل "توزيع الألقاب" الرسمية، إلا أن جاكلين بيرن تظن أن النقش "يعود إلى طقس للسحر ولطلب الاستسقاء" ولكن دون أدلة مقنعة، وعلى أي حال فإن النقش رقم 4859 يبين أن أجانب كانوا يحضرون هذا الاحتفال ومنهم كلدانيان اثنان، وهنديان وتدمريان هما حيري وعيدودوم.
وإن الملك العاديلوط قد تم تحديد ملكه بين 120ـ220 ق.م. (انظر غراف 1989: 147). وفي وادي السرحان، وهو معبر مهم بين الخليج العربي ـ الفارسي وسورية بواسطة واحة الأزرق ومملكة الأنباط عن طريق تيماء، باير والجفر، وُجد نقش تدمري في القرقر إلى الشمال من دومة/الجوف وقام بقراءته ستاركي (1970: 161ـ162):
"في شهر سيوان سنة 85 (4) ليذكر بجشو بن قملا بن سعد بالخير. نقشه ابنه" أن المرحوم الأب ستاركي يفضل تأريخ هذا النقش عام 174م ولكنه لا يستبعد عام 274م. ومن الصعب أن نعرف إذا كان هذا النقش الجنائزي يخص أحد رجال القوافل أم مستوطناً يقطن وادي السرحان. وهذه الفرضية هي الأكثر احتمالاً لأن النقش نحته ابنه. إذ أنه كان بإمكان أحد تجار تدمر أن يستقر على إحدى طرق الجزيرة العربية الهامة.
تغلغل التدمريين في الجزيرة العربية ومصر في القرن الثالث للميلاد:
في عام 268ـ269م عند وفاة الامبراطور كلود القوطي غزا جيش زنوبيا بقيادة سبتيموس زبدا قائدها بلاد مصر للمرة الأولى على رأس جيش بلغ سبعين ألف مقاتل على ذمة زوسيموس المؤرخ البيزنطي (1: 144). ولكن هذا الرقم على ما يبدو مبالغ فيه (راجع شوارتس Schwartz 1953: 68). وعمل تناجينو بروبوس Probus حاكم مصر على دحر الجيش التدمري. إلا أن تيماجين Timagene زعيم الحزب الزنوبي هاجمه بحيلة من أعلى قلعة بابل (أي جبل المقطم حيث توجد قلعة صلاح الدين الحالية) (انظر فولكوف Volkoff 1971: 4ـ5) ولما وقع بروبوس في الأسر أقدم على الانتحار. فاحتل الجيش التدمري مصر للمرة الثانية وظل فيها من 14 آذار 270م حتى 13 نيسان 271م (شوارتز 1953: 74 ـ Schwartz).
ورغم قصر هذا الاحتلال فإن زنوبيا ووهب اللات قد ضربا العملة في مصر. وبذلت ملكة تدمر الجهد لاسترضاء المصريين عندما ادعت أنها من سلالة البطالسة متحدرة من كليوبترا ثم إنها تقربت إلى الشعب من أصل سامي (اليهود) في مصر. إلا أن الإمبراطور أورليان هاجم تدمر عن طريق أنطاكية فهرع القائد زبدا لنجدة وطنه.
إن نهاية طموحات زنوبيا بمواجهة قوة روما كانت كارثة وإن النقش الإغريقي على شاهد جنائزي والذي نشره سيريغ هو تعبير مؤلم عن حداد قومي عانت منه سورية وذلك في عقب الحملة التدمرية (سيريغ 1958: 12ـ123: 7): "مصر القبيحة قبضت العديد من الأرواح في نفس الوقت الذي أودت بحياتك. ولكن خالك وأمك الكريمة استطاعا أن يقيما لك الطقوس الجنائزية التي تستحقها. غير أن أحداً لم يعتن بالآخرين فجعلتهم الطيور الجارحة طعاماً لها. تشجع". كما بين ناشر هذا النقش الجنائزي فإن هذه الشكوى الحزينة "تتألم على مصاب جماعي هلك بسببه عدد كبير من الرجال في مصر" (سيريغ نفس المرجع: 121 وما يتبع). وإن الظرف الأكثر ملائمة هو اجتياح الجيوش التدمرية لمصر من 268 إلى 271م. وإن سؤالين يتبادران إلى الذهن:
1ـ ما هي الطريق التي سلكها الجيش للوصول إلى مصر؟
2ـ ما هي أسباب هذه المغامرة المأسوية لتدمر؟
إن بعض الباحثين يجعلون الطريق التي سلكها الجيش الغازي تمر بدمشق ثم تنزل من معبر بانياس إلى صور لركوب البحر. إن جزءاً من جيش زنوبيا ربما سلك هذه الطريق ليصل إلى الإسكندرية. ولكن كما أشرنا سالفاً فإن المعركة المصيرية قد تمت قرب القاهرة، ثم إن نقشاً آخر وُجد في بصرى الشام يدل على أن جيش تدمر قد قضى على معسكر ومعبد الفيلق الروماني في تلك المدينة (سيريغ 1941: 46ـ48).
وإن أفضل الطرق من عاصمة الولاية العربية إلى مصر هو السير على طريق تراجان الجديدة حتى البحر الأحمر ثم ركوب السفن على البحر الأحمر في إيلة ـ العقبة إلا أن صعوبات اجتياز البحر معروفة منذ حملة إليوس جالوس على الجزيرة العربية في 25 ق.م. (سترابو، جغرافية 16، 4، 23) إذ أن القائد الروماني خسر العديد من مراكبه ورجاله. وإن الطريق الأكثر أمناً بالنسبة لجيش محارب إنما هي أن يتبع درب القوافل في سيناء، مروراً بالبتراء. وإن جيش السلطان بيبرس قطع الصحراء في خمسة أيام من القاهرة إلى البتراء عام 1276، (انظر زيادين 1985 ب: 159ـ174). وإن هذه الطريق لتفسر بشكل أفضل النقش الجنائزي الذي ذكرناه إذا كان العديد من الجنود السوريين قد هلكوا في الصحراء أثناء انسحابهم.
إن حفريات معبد قصر البنت في البتراء قد بينت أن هذا المعبد الرئيسي قد دُمّر عن قصد في العصر الروماني المتأخر. إن قطعة نقد من جاليانوس (252ـ268) قد وجدت بداخل هذا المعبد، بين كسر الأسود الرخامية والكتابات الرومانية التي حطمت. كما وجدت قطعة أخرى من عهد مكسميان هرقل (295ـ296) في الساحة الخارجية للمعبد تحت طبقة من الأنقاض (زيادين 1986: 244). لا يوجد أي إثبات بأن جيش زنوبيا دمر معبد قصر البنت في البتراء وليس هناك أي سبب ليفعل ذلك. ولكن يمكن أن نتصور بأن الاضطرابات قد نشأت في البتراء بمناسبة ثورة تدمر على الرومان وأن السكان قاموا بتدمير المعبد الرئيسي الذي أصبح مركز عبادة الإمبراطور الروماني بعد الاستيلاء على مملكة الأنباط.
أما الإجابة على السؤال الثاني حول أسباب ثورة تدمر فهي أكثر صعوبة. ولكن ضعف الإمبراطورية الرومانية والانتصار الذي حققه الفرس على الإمبراطور فاليريان في عام 260م تم انتصار أُذينة أمير تدمر على شابور الأول وحصوله على لقب "ملك الملوك" "وقائد الرومان" ثم "مقوّم الشرق كله" إنما أثارت الطموحات العادلة لتدمر. ولكن إلى جانب التوسع في الممتلكات فإن المصالح الاقتصادية هي التي دفعت زنوبيا إلى مغامرتها العدائية. فمنذ عهد أغسطس قيصر كان بحارة الإسكندرية الذين عرفوا الاستفادة من الرياح الموسمية في الصيف يجهزون ما لا يقل عن مئة وعشرين سفينة في البحر الأحمر للوصول إلى الموانئ الهندية (انظر سترابو، جغرافية 2، 5، 12) وكانوا بذلك ينافسون البحارة التدمريين الجريئين الذين كانوا يبتغون توابل الهند وحرير الصين في موانئ سكيثيا. وفي القرن الثاني قبل الميلاد كان الأنباط يهاجمون السفن المصرية في البحر الأحمر للأسباب ذاتها (سترابو، جغرافية 16، 4، 8) وفي عهد الإمبراطور كراكلا كانت مجموعة الرماة التدمريين مستقرة في قُفط على نهر النيل وهذا المرفأ كان ينقل إلى الإسكندرية بضائع الهند والصين والجزيرة العربية. وكان لوجودهم علاقة بمصالح تجارية كانوا يقومون على حمايتها (برناند Bernand 1984: 238). فلا يوجد شك في هذه الحال أن التدمريين قاموا بالاستيلاء على الإسكندرية وهو أضخم المرافئ في الشرق لكي يحوّلوا تجارة هذا المرفأ المجزية لصالحهم.
ولم يكن في وسع الأنباط إلا أن يشجعوا زوال القوة البحرية الإسكندرانية وأن اجتياح مصر بنجاح لم يكن ليتم إلا بالتواطئ معهم. كما وأن رمز التبادل والتعاون بين تدمر والبتراء كان وجود المفكر كالينيكوس Calinicus النبطي الأصل في بلاط زنوبيا وهو الذي ألف تاريخ الإسكندرية في عشرة مجلدات وأهداه الى كيلوبترا/زنوبيا (انظر جراف Graf 1988: 146).
وفي الخلاصة فإننا نستنتج من هذا البحث بأن تعاوناً بين الأنباط والتدمريين يحتمل أن يكون قائماً رغم صمت المصادر التاريخية. وفي عهد ازدهار مملكة الأنباط في القرن الأول للميلاد فإن تجار الشعبين لابد وأنهم التقوا في الجرها أو في تيلوس (البحرين) على الخليج وفي قنا مرفأ اليمن الجنوبي أو في قفط على نهر النيل. وليس هناك أي أثر للتنافس بين هذين الشعبين. فإذا كانت البتراء إحدى محطات طريق الحرير باسم لي كيان فإن هذا النسيج الثمين لم يكن بإمكانه الوصول إلى العاصمة النبطية بدون وساطة التدمريين الذين كانوا مستقرين في خراكس (المحّمرة) أو يمخرون عباب البحر الأحمر. ومن ناحية أخرى فإن اجتياح زنوبيا للولاية العربية لم يكن ليتحقق بنجاح بدون مساعدة الأنباط. إن هذه الانتفاضة العربية لم يكن من الممكن ـ كما نعتقد ـ إلا أن تحرك المشاعر القومية لسكان البتراء.


فوزي زيادين

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق