رقائق الطين دلالة على الاتصال بين تدمر ودورا أوروبوس

04 08

في عام 1955، قام السيد هنري سيريغ بنشر مجموعة من الرقائق الطينية والميداليات الكبيرة من تدمر. وقد قام الكثيرون برسم ووصف الأرباب التدمريين فيها، بينما قام البعض الآخر بوصف لها غير واضح تماماً. اقترح سيريغ أن لها علاقة بأسلوب يعبر عن رغبة ما. ولقد قام أيضاً بإيضاح بعض الأفكار المقابلة من دورا أوروبوس، والتي تم نشر القليل منها في ذاك الوقت.إن قوالب الطين الجاهزة والميداليات الكبيرة شكلت مجموعة هامة من مكتشفات دورا أوروبوس. وبما أن مثل هذه الفئة تعتبر نادرة من بين ما نجده من الإنتاج التشكيلي في مناطق الشرق الأدنى في العصر اليوناني الروماني، كان ظهور هذه المجموعة في دورا أوروبوس وتدمر في آن واحد شيئاً مدهشاً ولافتاً للنظر.
من خلال دراستي للألواح الطينية من دورا أوروبوس وتدمر في متحف دمشق وفي جامعة ييل، تبين وجود نماذج متشابهة من الألواح الطينية والميداليّات الكبيرة في كليهما، وفي حالات كثيرة، من المحتمل أنها صنعت من القالب نفسه وفي الوقت نفسه وظهرت بعض الأشياء في منطقة واحدة دون غيرها. ومن المحتمل أن تؤثر هذه الاختلافات على اختلاف درجات بعض الآلهة الموجودة في كلا المدينتين.
تبدو الأرباب التدمرية، مرتدية الدروع في الألواح الطينية الموجودة في تدمر. ومما أظهر أهمية الأرباب المسلحين في تدمر. وثلاثة من الأرباب الممثلين يرتدون رداء مزيناً بوشاح، الأمر الذي دفع سيريغ للاعتقاد بأن في كل منها صورة للرب بل. اثنان منهم كان على رأس كل منهما هالة وأشعة، ومن الممكن أن يكونا يمثلان يرحبول أوملك بل أو شمش. وإن الرب الذي تحيط برأسه أشعة وخلفها هلال (رقم 7) قد يكون إله القمر (أغليبول) رغم أنه يحمل علامة من علامات بعلشمين. إن الآلهة التي تحمل دروعاً ليست معروفة في الألواح الموجودة في دورا أوروبوس، ومن الممكن أن مثل هذه الآلهة لم تلعب دوراً أساسياً في العبادات الموجودة في المدينة. في الحقيقة، لقد مثلت المنحوتات والرسومات الموجودة في دورا أوروبوس أرباباً ترتدي دروعاً، ويوجد أيضاً لوح طيني في تدمر يرسم الأرباب الثلاثة (بل، يرحبول، وأغليبول)، ولكن لا يوجد شبه بينه وبين أية ألواح موجودة في دورا أوروبوس، بالرغم من أن الأرباب الثلاثة كانت تعبد فيها.
ومن جهة أخرى، فإن رباً ملتحياً يحمل صاعقة، من المحتمل أن يكون الرب حدد، قد ظهر على ثلاث ميداليات من دورا ولم يظهر في تدمر. لقد وجد تمثال حجري كبير لحدد يحمل الصاعقة في دورا ويدل على أهميته بالنسبة إلى المدينة.
لقد وصف سيريغ لوحاً طينياً مستطيلاً يمثل أبولون مع قيثارته وآرتميس تسحب سهماً من جعبة موجودة على يدها اليمنى وتمسك بيدها اليسرى قوساً. إن وضع آرتميس يتطابق تماماً مع الذي وجد على ثلاث ميداليات كبيرة لم تنشر بعد، وجدت في دورا. وقد كانت الربة الممثلة فيها ترتدي رداءاً كهنوتياً وتقف أمام نمر أو كلب، وهي بذلك تقلد الأسلوب المألوف في العصر اليوناني الروماني. لقد كانت التسريحة فقط غير واضحة بسبب التشويه. من الممكن أن تكون تسريحة شعرها هيلينستية بشكل عقدة أو كرة. إن التسريحة الأخيرة هي دلالة على الطابع الشرقي، نجدها مع النقود التي صكت في عهد الملك متيريدات الثاني. إن الشكل الموجود على ميدالية دورا أوروبوس قريب من الأسلوب اليوناني، وقد وجد منها ثلاثة نماذج. من الملاحظ أنه في دورا أوروبوس، يمثّل أبولو دون آرتميس وذلك في الزي الهيلينستي، بينما في ميداليتين من تدمر، يظهر أبولو ونبو مع آرتميس وهذا يؤشر إلى بعض الآلهة البابلية. يرتدي الرب نبو رداء خاصاً للرأس، بينما الربة أقل وضوحاً. لكن في النسخ المحفوظة بشكل أفضل، تظهر وهي تحمل جعبة سهام متصلة بحزام الكتف، وتظهر فيها أيضاً التسريحة العقدة، كما هو الحال في دورا. ولقد لاحظ سيريغ صعوبة تمييز الرب نبو في تدمر.
ومُثلت الربات الجالسات بين الأسود في تدمر ودورا. فيما أظهر لوح طيني من دورا، وبشكل دقيق، إترغاتيس مع صف من فرقة دينية يقف خلفها، ويوجد أيضاً صورة مصغرة من الفرقة الدينية التي كانت بارزة من مكانها، مع الإسقاط الهام لشريكها الأقل أهمية (حدد)، وقد تم التعرف بصعوبة على هذه الربة التدمرية في مثالين. وهي تحمل رمحاً أو صولجاناً ومحاطة بتمثالين نصفيين. قال سيريغ إن في ذلك تجسيد للربة الكبرى في سورية وهي إما إترغاتيس أو اللات وهو يميل لأنها أقرب إلى إترغاتيس.
إن أفضل مثال واضح نشرته كروغولسكا، وهو يبين بوضوح بأن الربة تحمل رمحاً، وهذا يدل على أنها الربة اللات. وقد وجد جزء من منحوتة مسطحة في تدمر تمثل الربة واقفة وتحمل رمحاً أو صولجاناً. وليس لذلك مثيل مطابق في دورا أوروبوس. ولم يجازف سيريغ بوضع تعريف ولكن احتمال وجود اللات يبقى قائماً.
إن أنواعاً متطابقة وموجودة في تدمر ودورا أوروبوس تشكل الفئة الأخيرة. إن بقايا ميدالية كبيرة دائرية من تدمر تظهر تمثال رجل يقود جملاً إلى اليمين. ويقول سيريغ أن هذا قد يكون أي شخص يقود جملاً، ومن الممكن أن يكون الرب آرصو. كما أن نسخة من الميدالية نفسها وجدت في دورا. في كل نسخة ينظر آرصو باتجاه مغاير للآخر ولكنهما متشابهان لدرجة تمكننا القول بأن الميدالية الموجودة في دورا تم صنعها من قبل التدمريين. الشيء المشترك بينهما هو أنه بالرغم من أن الجمل في كلتا الحالتين كان واقفاً، لكن ذيله كان مجعداً بطريقة تعطي الانطباع بأنه يجري.
وهناك لوح طيني بيضوي وجدت نسخة واحدة منه في تدمر، وست نسخ في دورا وهو يمثل امرأة واقفة ترفع يدها اليمنى وهي تلبس رداءً إغريقياً وحجاباً فوق رأسها، سلاسل وغطاء رأس دائري مزيناً بإتقان. إن القسم الأسفل من غطاء الرأس مثبت بشكل تاج غريب الشكل كالسور فقد تم فصل التمثال من منتصف الجسد، والألواح تم صنعها لتوضع على الحائط، بالرغم من أن مثل هذا اللباس وهذه الوضعية كان شائعاً في الشرق الأدنى في العهد اليوناني ـ الروماني، فقد ظهرت هذه الألواح فريدة من نوعها في دورا وتدمر وتعتبر دليلاً قوياً على الارتباط بينهما. إن وضعيات الوقوف أو الجلوس بالإضافة إلى اللباس والحلي كانت مناسبة للربات والمتعبدات، ولكن وجود أمثلة مختلطة في دورا وأمثلة متطابقة في تدمر تدل على الربات المعبودات بالرغم من الافتقار إلى الصفة الخاصة بكل منها. إن الافتقار إلى الشخصية المتميزة للربات في الشرق الأدنى بالمقارنة مع الأرباب قد لوحظت مراراً. وقد يعكس ذلك القوى المتشابهة التي تحملها الربات ذوات الأسماء المختلفة. في الواقع، لقد تم إيجاد ثلاثة ألواح أخرى في دورا، لم تنشر بعد، وهي تصور تماثيل نسائية، وهذه التماثيل تختلف بشكل طفيف عن التي نناقشها الآن.
في هذه الحالة، إن التاج على شكل السور قد يؤيد الرأي بأن الربة هي إترغاتيس وهذا الرأي طُرح من قبل السيد سيريغ.
إن التمثال النصفي الذي يمثل امرأة والموضوع على ميدالية، يوجد نسخة واحدة منه في تدمر، ونسختان في دورا، هو الأكثر غموضاً. حيث أن تسريحة الشعر غير واضحة تماماً، إما أن الشعر قد جمع على شكل دائرة أعلى الرأس، أو أن التمثال يرتدي لباساً مقوّر الصدر والظهر، أو أن الربة تمسك بكلتا يديها ضفيرتين من الشعر الطويل وتزين كرة أو ميدالية الصدر. لقد قارن بيركنز ميدالية دورا بالتماثيل الجنائزية التدمرية. ولكن سيريغ اعتبر أن الكرة هي دليل على الألوهية ولربما تكون لها علاقة بالربة إترغاتيس. لقد تم العثور على ميداليّات كبيرة في كل من الموقعين وهي تحمل صورة امرأة وهي متشابهة ولكنها ليست متطابقة تماماً، في الميدالية التي وجدت في دورا، نجد أن التسريحة مختلفة، واليد اليمنى مثنية أمام الصدر ولا يوجد كرات. وقد شبهها ويلز بالتماثيل الجنائزية التدمرية. إن الجزء الأسفل من الميدالية التي اكتشفت حديثاً في عمليات التنقيب البولونية في تدمر ناقص، لهذا نجد أنه من المستحيل أن نعرف إذا كانت موجودة على الصدر أم لا.
هناك حالة واحدة مثيرة للاهتمام وتتعلق باثنين من القوالب الشبيهة بالقوالب الطينية. واشترى أحدهما زاره في حلب. وهو يمثل ربة في معبدها ورجلاً متعبداً في ثوب فارسي.
لقد كانت الربة ترتدي ثوباً إغريقياً مع شملة وغطاء للرأس، وكانت تقف وهي ترفع يدها اليمنى. إنها بهذا تشبه بلباسها ووضعها التمثال الذي قطع من منتصفه، ولكن النسر الذي يعلوها يساعد على القول بأنها قد تكون إترغاتيس. إن النموذجين في دورا أوروبوس قد وضعا على ألواح طينية متفرقة. فاللوح الذي يحمل الربة من دورا قد صنع بوضوح من النموذج المتقطع من الشكل الذي اكتشفه زاره، وذلك لأن اليد اليمنى بدت واضحة تماماً فوق العمود الأيمن من الشكل. إن اللوح التدمري هو لوح مكسور قطعاً. بالرغم من أن الموضوع، وهو تمثال في الشكل، هو نفسه، ولكنه يختلف بشكل هام في التفاصيل، بحيث أنها لا تصنَّع في القوالب العائدة لدورا أوروبوس. إن التمثال الذي يمثل رجلاً يرتدي ثوباً فارسياً، والموجود على لوح طيني في تدمر بشكل آخر، يشبه بشكل تقريبي الموجود في نموذج السيد زاره خصوصاً بالنسبة للرداء الإغريقي الطويل والمزين بإتقان. إن بعض الاختلافات البسيطة قد تعني أن أحد اللوحين قد تم إعادة صنعه من جديد. لقد اعتبر سيريغ أن هذا التمثال ينتمي إلى فئة أخرى غير التي تنتمي إليها الألواح التدمرية وهي التي تعبر عن الألواح الفارسية التي تمثل الأرباب الإيرانيين.
إن الدليل الذي وجد في دورا أوروبوس يستلزم أن نعيد التفكير في فكرة سيريغ. ففي دورا أوروبوس، نجد أن نموذج المحارب هو أكثر شيوعاً من الربة التي قدمت بثمان وضعيات ولوح طيني واحد فقط. اثنان منهما يبدو أنهما قد صنعا طبقاً لنموذج زاره، بينما نجد أن الأخرى كانت أصغر. إن القضية الأساسية المطروحة هنا، والتي تم طرحها عن طريق وجود عدد كبير من النسخ التي تصور نموذجاً لرجل، هي إما أنها تمثل متعبداً أو رباً. إن التمثال في نموذج زاره هو متعبد بشكل واضح، ولكن ماذا عن النماذج المستقلة؟ وتتلخص المساعدة التي نستطيع الاعتماد عليها في عملية التعريف في وجود الحقل فوق كتفي التمثال بالإضافة إلى وجود ما يرمز إلى الشمس أو القمر، نستطيع أن نرى قرص الشمس فوق الكتف الأيسر وذلك في الألواح الثلاثة والنموذج الوحيد من دورا أوروبوس، وهلال القمر فوق الكتف الأيمن. كما نستطيع أن نرى أن اثنين من الألواح يوجد عليهما الهلال، واثنان عليهما قرص الشمس. في النموذج التدمري، نجد أن الهلال موجود، ويوجد نقطة صغيرة في الحقل على الطرف الأيسر من الرأس (في الوضعية السابقة)، قد تكون تصدعاً في النموذج عوضاً عن قرص الشمس. في كلتا الحالتين في دورا، حيث نجد قرص الشمس وحده، سنجد أنه قد تم أخذ قياسات وذلك لإزالة الهلال، في حالة واحدة، ونجد أن مستطيلاً قد قطع من اللوح وظهر على الخلفية في موضع الهلال، وفي قطعة أخرى لم يتم نشرها بعد، نجد شقاً طولياً واضحاً في هذه المنطقة. من الواضح أن هلال القمر غير موجود في نموذج زاره، ويظهر السطح آثاراً تمت صياغتها حديثاً وذلك في المكان الذي وجد فيه الهلال في نموذج دورا، وقد يوحي ذلك أنه تمت إزالته من النموذج.
إن سبب الإزالة لهلال القمر في قطع دورا أوروبوس ليس واضحاً. ويوجد هناك احتمالان قد يكونا متوازيين، ولكن الأخير يبدو مقنعاً أكثر. نستطيع أن نجد أمثلة موازية للتمثال الذي يرتدي زياً فارسياً مع رموز للشمس والقمر في دورا أوروبوس وأمكنة أخرى. على سبيل المثال، نستطيع أن نجد ثلاثة أعمدة تحمل نقوشاً تذكارية من آشور أغلبها مكنتنا من أن نعرف أنها تمثل متعبدين.
إن أرباب الشمس والقمر، بشكل عام، تظهر على رؤوسهم أشعة، وأرباب القمر غالباً ما يكون خلف ظهورهم الهلال، ومن جهة أخرى، فإن رموز الشمس والقمر تعبر عن كل ما له علاقة بالموت بالإضافة إلى الألوهية وذلك على قطع صغيرة موجودة في تدمر.
إن اللوح الطيني المتواضع والميداليات الكبيرة من تدمر ودورا أوروبوس يعززان العلاقة القوية التي كانت قائمة بين المدينتين. لقد تم إظهار العلاقة القوية بين المدينتين عن طريق ندرة هذه الفئة من الصناعة التشكيلية في مدن أخرى من الشرق الأدنى وذلك في العهد اليوناني، الفارسي والروماني، أيضاً، نجد ندرة الألواح الطينية في المناطق السورية، وأخيراً وجود أمثلة متطابقة في تدمر ودورا أوروبوس. في الوقت ذاته، من الملاحظ أن عدداً من الآلهة التدمرية، على وجه التخصيص، قد تم ظهورها على الألواح التدمرية وليس على الألواح من دورا أوروبوس. إن معرفة بعض الألواح الطينية يتعارض مع عملية نحت الصخر في كلتا المدينتين. حتى إن عملية نحت الحجر الكلسي، وبخاصة المواضيع التدمرية والتي وجدت في دورا، تختلف بشكل دقيق عن الأصل الموجود في تدمر.
لقد ازدادت معرفتنا بخصائص بعض الألواح الطينية بشكل واضح من الناحية التقنية، ولكن حقيقة وجود طلب على ألواح متماثلة ومتطابقة في كلتا المدينتين هو دليل واضح على وجود ديانة مشتركة على المستوى الشعبي ممثلة بهذه النذور المتواضعة.

سوزان داوني

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق