بانوراما النحت في إطار إحياء الذاكرة الفنية السورية

04 03

تضم الذاكرة التشكيلية في سورية -إلى جانب الرسم التصويري الذي بدأت حركته مطلع القرن العشرين- بضعة تجارب محدودة يمكن اعتبارها الرائدة في هذا المجال مثّلها كل من النحاتين جاك وردة، وفتحي محمد قباوة، ومحمود جلال، وألفريد بخاش.

توزع إنتاج هؤلاء النحاتين الرواد على عدة تجارب تناولت الإنسان بصيغة أكاديمية واقعية تسجيلية، وركّز بعضها على جماليات جسد الإنسان العاري، وركز بعضها الآخر على الوجوه والشخصيات المستوحاة من التاريخ العربي القديم والحديث.

تابعت حركة النحت السوري الحديث صعودها مع أسماء تالية لعل أبرزها وأهمها سعيد مخلوف الذي تمكّن من خلق مدرسة نحتية خاصة به تميزت بالتلقائية والعفوية والحضور الفاعل المؤثر في التشكيل السوري الحديث، وكان هذا النحات أول من تعامل مع جذوع الشجر في تنفيذ منحوتاته وبخاصة جذوع شجر الزيتون. كما استطاع تحويل محترفه في مدينة معرض دمشق الدولي إلى مركز استقطاب لعدد كبير من المواهب النحتية الشابة، بينها عدد من طلبة قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عمقوا عنده خبراتهم ومعارفهم العملية، وأخذوا عنه حبهم لخامة جذوع الشجر، واعتمادها مادة أساسية في تنفيذ أغلب منحوتاتهم، وقد خرج من صفوف هؤلاء أسماء أصبحت من أعمدة النحت السوري الحديث.

لأن النحت كان ولا يزال يشكل أحد الاختصاصات الرئيسة في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق منذ تأسيسها، فقد ساهم هذا القسم في تطوير فن النحت من خلال تأهيله للكوادر الشابة ورفده الحياة التشكيلية بهم فأثر إيجابياً على واقع هذا الفن، ودفعه قدماً إلى الأمام، وقد بدا هذا التأثير واضحاً منذ تخرج الدفعة الأولى من قسم النحت عام 1964، وكان بينهم عبد السلام قطرميز، ووديع رحمة، ثم أعقبهم منذر كم نقش، وفايز نهري، ونشأت رعدون وغيرهم.

تأسس قسم النحت -كان في البداية شعبة- مع تأسيس كلية الفنون الجميلة عام 1960 من قبل النحات العربي المصري أحمد أمين عاصم، وقد ترأسه أكثر من مرة، ثم خلفه النحات والمصور محمود جلال الذي كان رئيساً له أواخر الستينات، ثم عاد النحات عاصم ليرأسه ويدرس فيه أواخر الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي، ثم منتصف السبعينات. واليوم اكتملت الهيئة التدريسية السورية فيه وفي باقي أقسام كلية الفنون الجميلة بدمشق، وبدأت سورية إعارة عدد منهم للدول العربية مثل الأردن والإمارات وليبيا والسعودية، وبينهم أساتذة من قسم النحت الذي تمكّن من تخريج مئات النحاتين المزودين بالخبرة والمعرفة النظرية والعملية، وما زال هذا القسم الذي يرأسه النحات محمود شاهين منذ ما يربو على ثماني سنوات يؤدي هذه المهمة بجدارة، وقد رفد هؤلاء الخريجون الحياة العامة السورية بعطاءاتهم فغطوا جانباً من حاجتها إلى هذا الاختصاص، كما ساهموا بتطوير الفنون التشكيلية السورية مؤسسين لحركة النحت الحديث الذي بدأ يفرض وجوداً قوياً وفاعلاً فيها.

مع قدوم النحات العربي المصري أحمد أمين عاصم أواخر العقد السادس من القرن الماضي للتدريس في قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بدمشق بدأت تتشكل الملامح الجديدة الأولى لهذا الفن في سورية، ومع مطلع العقد السابع زاد ورود النحاتين الشباب إلى الحياة التشكيلية السورية من خريجي قسم النحت ومنهم فواز البكداش، وعبد الله السيد، وأحمد الأحمد، ومحمود شاهين، ونزار علوش، ومحمد ميرة، وفؤاد طوبال علي، ثم تعززت حركة النحت بأسماء جديدة درست النحت في دول أخرى منهم عدنان الرفاعي، ووحيد إستنبولي، وعبد الرحمن مؤقت، ومجيد جمول، وعاصم الباشا، وبطرس الرمحين، ولطفي الرمحين وغيرهم.

هكذا بدأت تنهض حركة جديدة للنحت السوري الحديث، ويستقيم عودها، لتثبت حضوراً مميزاً بين أجناس الفنون التشكيلية الأخرى، ومنها التصوير الذي كان ولا يزال الغالب والمسيطر على هذه الفنون جميعاً. كما ساهم المعهد المتوسط للفنون التطبيقية الذي يتبع لوزارة الثقافة -والمُستحدث بدمشق عام 1987-، ويضم بين اختصاصاته قسماً للنحت في رفد حركة النحت السوري الحديث بأسماء شابة جديدة بدأت تشكل دفعاً حقيقياً لها وكل ذلك في إطار النهوض الشامل الذي تحقق لسورية في كنف الحرية والأمن والاستقرار الذي شهدته خلال العقود الثلاثة الماضية، وهذه الأقانين الثلاثة أهم شروط ازدهار الإبداع وانتعاشه. ولعل خير ما نسوقه مثالاً على تطور حركة النحت السوري الحديث كماً ونوعاً ما يضمه المعرض السنوي للفنانين التشكيليين السوريين كل عام من أعمال النحت المتنوعة أسلوباً وخامة وموضوعاً، إضافة إلى الأعمال النصبية الاعتبارية والتزينية التي بدأت تكثر على نحو لافت في مداخل المدن والبلدات السورية، وفي الحدائق العامة والساحات والشوارع وواجهات الأبنية وغيرها مفردةً أحياناً، ومقرونة بالنحت النافر، واللوحات الجدارية المنفذة بأكثر من مادة وخامة أحياناً أخرى.

لقد بدأت أعمال النحت بشتى أنواعه، ولأول مرة منذ سنوات طويلة تقارب هذه الأعمال ربع ما يضمه المعرض السنوي من أعمال الفنون التشكيلية، وذلك يشير بجلاء إلى توسع قاعدة هذا الفن وكثرة المشتغلين به، فازدياد عدد مريديه ومتذوقيه. وهكذا شيئاً فشيئاً تتواتر قوافل النحاتين إلى الحياة التشكيلية السورية لتساهم مع من سبقها في تطوير هذا الفن، وتعميق مساره، والنهوض بأجناسه واتجاهاته المختلفة.‏
من الأسماء الجديدة التي دخلت حقول فن النحت السوري الحديث في العقدين الأخيرين من القرن الماضي أكرم وهبة، وحسين يونس، وصادق الحسن، وكراسيلا بريدي، وإحسان العر، وسمير رحمة، ومحمد عمران وغيرهم ممن تأهلوا أكاديمياً في كلية الفنون الجميلة بدمشق، وبعضهم تابع تخصصه العالي في دول أخرى، وثمة أسماء جديدة درست النحت على نحو حر، أو درست ضروباً أخرى من الفنون التشكيلية، وتوجهت إلى ممارسة فن النحت، ومن هؤلاء سهيل بدور، وعفيف عمر آغا، وجميل قاشا، وفيصل الحسن، ومعروف شقير، وشفيق نوفل، وممدوح الحناوي وغيرهم.

إن نظرة متأملة فيما يقدمه المعرض السنوي للفنانين التشكيليين السوريين كل عام من أعمال نحتية تؤكد بجلاء تنامي هذا الفن وتطوره، وهو فن يتحرك بين قطبي الواقعية والتعبيرية بعيداً عن الصرعات والمبالغات التجريدية العابثة، كما بدأ يتخلى عن الصيغة التزينية الزخرفية التي أحكمت قبضتها في مرحلة من المراحل على نتاج عدد من النحاتين الشباب.

من جانب آخر يتعامل النحت السوري الحديث مع كل الخامات والمواد والتقانات، ومع كل الأساليب والاتجاهات الفنية المعقولة والمقبولة والمفهومة فهناك الأعمال النحتية المنفذة من الرخام والحجر والحجر الصناعي والبرونز والخشب والبوليستر والطين المشوي والخزف. والتنامي المتعاظم لهذا الفن يشـمل المنحوتة الصالونية الصغيرة والعمل النصبي الكبير في آنٍ معاً. واللافت عودة العديد من النحاتين المعروفين إلى الإنتاج والعرض، وهؤلاء كانوا قد توقفوا عن إنتاج العمل النحتي الذي يحمل صبغة البحث الشخصي، كما أن تجارب عديدة، تحمل تواقيع نحاتين جدداً بدأت تحضر بكثافة في المعارض الجماعية الجديدة، ومنهم موسى الهزيم، وشحادة لبش، وأمل زيات، وبشار نوفل، وعادل خضر، ومروان ملاك، وعيسى ديب، وحسان حرفوش، وفؤاد نعيم وغيرهم.

من جانب آخر بدأت تتواتر على نحو لافت للانتباه ملتقيات النحت المحلية والدولية في سورية، وهذا مؤشر هام وإيجابي لبداية نهوض كبير ينتظر فن النحت السوري الحديث النصبي والميداني والتزيني فأغلب هذه الملتقيات تتخذ من الحجر السوري مادتها الرئيسة، ومن أبرز خصائص هذه الخامة تآلفها مع الطبيعة التي جاءت منها، وتألقها الساحر في الهواء الطلق بين خضرة الأرض وخضرة الشجر وزرقة السماء، وهذه الملتقيات تشكل رافداً جديداً وهاماً لفن النحت السوري وتساهم في تطويره وتقريبه من القطاع العريض من الناس.

بداية هذه الملتقيات تبنته محافظة دمشق عام 1997 بمبادرة من فرع دمشق لنقابة الفنون الجميلة، ثم تتالت هذه الملتقيات فأُقيم عام 1998 ملتقى «الديماس»، وفي العام نفسه أُقيم ملتقى النحت الدولي الأول في اللاذقية ضمن مهرجان المحبة، ثم ملتقى محافظة دمشق الثاني، وآخر في الديماس، ثم في حلب والقنيطرة، وعام 2002 أُقيم في اللاذقية الملتقى النحتي الدولي الثاني، وفي المدينة الجامعية بدمشق أُقيم ملتقى النحت الأول لأساتذة قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، ثم الملتقى النحتي الأول للمؤسسة العامة للمعارض والأسواق الدولية أعقبه في العام التالي الملتقى الثاني للمؤسسة نفسها، ثم جاء ملتقى الشجرة الأول في محافظة اللاذقية وطرطوس، وآخر هذه الملتقيات أُقيم عام 2004 في محترفات قسم النحت في كلية الفنون الجميلة شارك فيه كل أعضاء الهيئة التدريسية في القسم، وكان مخصصاً للنحت النافر.

استكمالاً للدور الهام الذي تؤديه هذه الملتقيات يتطلع قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بدمشق إلى ربط مشاريع طلبته بخطط ومشاريع الدولة العمرانية والتنظيمية، التي تشمل العاصمة دمشق وباقي المحافظات والبلدات السورية، لكي تأخذ هذه المشاريع طريقها إلى أرض الواقع بالتنسيق مع الجهات المعنية. وهناك خطة لربط مناهل المياه والبحيرات التزينية المنتشرة بكثرة في المدن والبلدات السورية بالأثر النحتي والفني المناسب، أي إيجاد بدائل للمواسير المعدنية التي تؤدي الوظيفة نفسها، إنما على شكل منحوتة تبهج العين، وترطب الإحساس، وتُرضي العقل. وثمة خطة أخرى لنشر الآثار النحتية القديمة المتفردة فنياً ودلالياً الموجودة في المتاحف السورية المختلفة، عن طريق تكبيرها وتوزيعها في أماكن وجود الناس، فأغلب هؤلاء لا يزورون المتاحف، وبنقل نسخ مكبرة من هذه الأعمال النحتية الهامة إلى أماكن وجودهم الدائم، والتعريف بها نكون قد نقلنا المتحف إليهم، وحرضناهم على زيارته واكتشاف باقي كنوز الوطن التي يضمها. كما أن احتكاك المواطن بالأثر الفني على نحو يومي يكرس الثقافة الجمالية البصرية لديه، لما للعمل النحتي الفراغي من تأثير كبير على عواطف وأحاسيس وفكر الإنسان. هذه المعطيات مجتمعة تشكل رافعة لحركة النحت السوري المعاصر لا بد أن تُطَوِره، وتزيد من انتشاره، وتزيل الغربة بينه وبين الناس.

أما على صعيد فن الخزف الذي يُعتبر شكلاً من أشكال فن النحت، أو تابعاً له، فقد التصق به منذ بداياته الأولى، وما زال ينمو ويتطور في كنفه، مستفيداً منه، ومُفيداً له في آنٍ معاً، فقد عمل في هذا المجال العديد من الفنانين السوريين لعل أبرزهم هشام زمريق، وعبد الله عبد الغني، ثم جاءت أسماء أُخرى منها عماد اللاذقاني، وآمال مريود، وإميلي فرح، وراجي إلياس، ورأفت الساعاتي، كما عمل في هذا المجال عدد من النحاتين منهم عبد السلام قطرميز، ومحمود شاهين، وأحمد الأحمد، ونزيه الهجري، وفواز بكدش، وسمير رحمة. بعدها جاءت أسماء واعدة ونشيطة إلى فن الخزف السوري منها سناء فريد، ومحمد إلياس، وحلا أحوش وغيرها.

.


تشرين

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق