فرانسوا رباط للمرّة الأولى في سورية 16/تشرين الأول/2008
 «مو بس حلبي. أنا سوري ونص. واليوم حاسس حالي كأني في بيتي. أنا سعيد كتير بإني كون معكن»، بهذه الكلمات عبّر عازف الكونترباص السوري فرانسوا رباط عن سعادته الغامرة بتقديم أول أمسياته الموسيقية في دمشق بعد خمسة وأربيعن عاماً قضاها في الاغتراب عن أرض الوطن، ليصبح أستاذ الأساتذة في العزف على آلة الكونترباص، وليس ذلك فقط بل استطاع تحويل هذه الآلة ذات الصوت الرخيم إلى آلة إبداعية في الأوركسترا بعد أن كانت مهملة، تماماً كما فعل باغانيني مع آلة الكمان في مستهل القرن التاسع عشر.
«وجهاً لوجه» إذاً التقى عازف الكلارينيت كنان العظمة مع فرانسوا رباط، في أول أمسية موسيقية له في سورية، ليل الأربعاء 15 تشرين الأول 2008 على مسرح الدراما بدار الأسد للثقافة والفنون، وبعيداً عن رصانة الموسيقيين وصمتهم في مثل هذه المناسبات أشاع فرانسوا جواً من البهجة في المسرح بتعبيره عن سعادته بلقاء جمهور دمشق، وحديثه عن كل قطعة ألفها واختارها للعزف في هذه الأمسية بمفرداتٍ حلبية غائمة تشوبها كل تلك السنوات من الاغتراب، لتطغى اللغة الفرنسية على اللغة العربية في حديثه، لكن الحب كان كفيلاً بالترجمة، واستطاع فرانسوا من خلاله إيصال كل مايريد إلى جمهور استمتع بهذه الأمسية على مدى الساعتين.
تمّ تقديم برنامج الأمسية على فترتين فصلت بينهما إستراحة، الأولى كانت للعازف السوري كنان العظمة قدّم فيها آداجيو من السوناته رقم1، مقام صول مينور لـ باخ، و رابسودي لـ ويليام أوسبورن من المدرسة الأمريكية المعاصرة، أجنحة للأمريكي جوان تاور، وختم بمتتالية من ست حركات ألفّها حديثاً وقدّمها في هذه الأمسية للمرّة الثانية.
أما الفترة الثانية فكرّست بمعظمها للأستاذ ربّاط حيث قدّم فيها ثمانية قطع من تأليفه بوشا-داس «مهداة إلى رافي شنكر»، سمير، توازن، كونشرتور رقم 3، رحلة صيد، وصرخة مدينة البندقيّة، واختتم بقطعة للموسيقي فرانك بورتو هي تسع تنويعات على لحن لـ باغانيني، ألّف منها فرانسوا «الكادنس».
قدّم فرانسوا قطعه الإبداعية بمرافقة ابنه سيلفيان على البيانو، ثم كان الختام وجهاً لوجه فرانسوا ربّاط وكنان العظمة بمرافقة سيلفيان أيضاً، وذلك بتقديم قطعتين، تشرين الثاني من تأليف كنان العظمة، وخلق، مجموعة ارتجالات للعازفين تم تأليفها خصيصاُ لهذه المناسبة.
«اكتشف سورية» استطلع آراء بعض الحضور حول هذه الأمسية، ومنهم الفنّان جهاد سعد الذي قال لنا: «أحسسنا من خلال أمسية اليوم بروح الموسيقي فرانسوا رباط المبدعة، القطع التي عزفها تكشف عن عبقرية واضحة، حيث قدمّ عبر هذه القطع مزيجاً من عدّة نغمات وألحان أنتجت موسيقا نابعة من روح فرانسوا كموسيقي شرقي قضى معظم حياته في الغرب. جو الأمسية كان في غاية الرقي».
وأضاف: «ينبغي أن يكرّس ربّاط كعازف سوري، بل أستاذاً في العزف على آلة الكونترباص وهي من أصعب الآلات الموسيقية، ومن الضروري أن نشهد له أمسيات كثيرة في سورية لأنه ثروة وطنيّة»، وختم بالقول: «يكفي أنه وقف على المسرح بكل حب شامخاً كسنديانة عتيقة تجاوزت السبعين من العمر ليقدم أمسية من أمتع الأمسيات الموسيقية التي حضرتها في حياتي»
كذلك التقينا بالموسيقي نوري اسكندر لنأخذ رأي واحدٍ من أهم الموسيقيين السوريين بموسيقى رباط وأدائه والأمسية التي قدّمها، وعن ذلك قال اسكندر: «هذه الأمسية في غاية الروعة، والأستاذ فرانسوا رباط من أهم عازفي الكونترباص في العالم، يؤدي على هذه الآلة أصعب القطع التي يمكن أن تؤدى على الكمان، وهذا يعكس تفوقه التقني وتمكنه من العزف كأستاذ كبير، قابلته اليوم لأول مرّة وكأنني أعرفه منذ مائة عام، روحه الوطنية عالية لم تنتقص منها سنين الغربة الخمسة والأربعين، وأشاع جواً من الصفاء والحب في المسرح، ينبغي أن يتكرر كثيراً في أمسيات قادمة نرجو أن يقدّمها رباط في سورية».
وأخيراً التقينا بالبطل الثاني للمواجهة عازف الكلارينيت كنان العظمة، لنعرف منه ملامح مشروع «وجهاً لوجه» وفكرته الرئيسية: «وجهاً لوجه مشروعٌ بدأته منذ سنتين مع عازف الأوكورديون الألماني مانفريد لوشتر، ثم مع د.غزوان زركلي عازف البيانو، وعازف العود عصام رافع، وفي أمسية اليوم كان الموعد مع عازف الكونترباص السوري الذائع الصيت فرانسوا رباط».
وأضاف: «"وجهاً لوجه" هو لقاءٌ بين عازفين يتبنيان وجهات نظر مختلفة عن الموسيقى، وربما ينتميان إلى جيلين مختلفين كما اليوم، نلتقي معاً على مسرح واحد ليقدمٍ كل واحدٍ منّا اختياراته الموسيقية النابعة عن ثقافته وفكره الذي قد يكون مختلفاً عن الآخر وربما متطابقاً في بعض النقاط».
وعن لقائه بالأستاذ رباط قال: «سمعت عنه كثيراّ لكنني لم ألتق به إلا منذ أربعة أيام فقط، حيث أجرينا البروفات على أمسية اليوم، لكن هذا اللقاء القصير كان كفيلاً بتحقيق إبداعٍ وصل بشكل واضح إلى جمهور أمسية الليلة، هذا الموسيقي العظيم يشعرك بأنك تعرفه منذ مدة طويلة، ويتعامل معك بكلّ حب وتواضع، شعرت بالخجل لأنني كموسيقي سوري أجتمع بهذا العبقري المبدع فرانسوا رباط للمرة الأولى، لكنني أفخر بكوني ساهمت في تحقيق زيارته الأولى لسورية بعد كل سنوات الغربة تلك وتقديم أعماله على مسرح دار الأسد للثقافة والفنون». وحول نقاط اللقاء بينه وبين الأستاذ رباط، قال كنان: «ما جمعني بالكبير فرانسوا رباط هو الانفتاح الفكري».
كما سألنا كنان عن القطعتين اللتين قدمهما من تأليفه «المتتالية» و«تشرين الثاني»، فقال: «المتتالية هي عبارة عن قطعة موسيقية كلاسيكية مؤلفة من ست حركات تعتمد على الاختراق الجغرافي، حيث تنقلت أثناء تقديمها على المسرح بين عدّة أماكن، تعكس أمزجة مختلفة في إشارة إلى تغير شخصية العازف مع كل حركة، يمكنني القول أن هذه القطعة أعدّت لممثل يتنقل بين غرف مختلفة وفي كل حركة أراد أن يقول شيئاً ما، ثم عبّر عن الرفض بانسحابه من المسرح، هذه القطعة تشبهني إلى حدٍ كبير لأنها تعبّر عن المزاجيّة بشكلٍ واضح».
و يضيف «أما "تشرين الثاني" فهي قطعة ألفتُها قبل عامٍ من الآن، وأعدتُ صياغتها ليتم تقديمها اليوم مع الأستاذ فرانسوا رباط، وفيها مجالٌ كبير للحوار بين آلتين، واستنزاف لأقصى الطاقات الصوتية لكل آلة، ويمكن اعتبار هذه القطعة فسحة للتأمل أمام المستمع، وله أن يحس بعمق الأصوات الموسيقية التي يستمع إليها ويتساءل: هل هي من نتاج الكونترباص أم الكلارينيت؟ أم أنها نتاج آلة ثالثة جمعت بينهما؟».
وعن مشاريعه القادمة، ختم كنان العظمة بالقول: «لدي حفلة بعد شهر في مجموعة مهرجان دمشق لموسيقى الحجرة في 25 تشرين الثاني 2008، بالإضافة إلى أربع سيديات ستصدر في مطلع كانون الأول لمجموعة من أعمالي الأخيرة».
|