آهات نوري اسكندر

28 02

مدخل إلى الصوفية

هذا العمل الجميل، «آهات» نوري إسكندر، من الأعمال الجادة والجديرة بالتأمل، والذي يجب على المستمع أنا يتعايش معه ليكتشف منابع السحر والجمال والحداثة وليكتشف أنه أيضاً أنه خرج عن المألوف الذي اعتدناه في موسيقانا العربية، إلى جديد نحتاجه وننسف به ما عفا عليه الدهر تأليفاً وعزفاً وغناءً، وهذا يتطلب كما فعل نوري اسكندر توظيف الطاقات الآلية والصوتية توظيفاً مثالياً كي تخدم العمل الموسيقي فكرياً تأملياً كان أم طرباً شعبياً غريزياً.
في «آهات» نوري اسكندر، نجد أنه دمج الأصالة الشرقية بروح الموسيقا الغربية برؤية عربية خالصة هادفاً من وراء لغته الموسيقية التي يتقن، الوصول إلى المحبة بين الناس، ونجد أيضاً أنه اختار آلات بعينها بعد أن درسها دراسة موضوعية فيما إذا كانت تخدم «آهاته» أم لا، لأن دراسة الآلات الموسيقية وقدراتها وإمكاناتها فن قائم بذاته، ومن أولويات أي عمل موسيقي، فليس كل آلة موسيقية تصلح للتعبير عن المضمون الفكري أو الطربي الذي يريد المؤلف أو الملحن، وخصائص كل آلة موسيقية وطاقتها تفرض على المؤلف والملحن، الآلة التي يريد أن يعبر من خلالها عن المضمون، وليس خبط عشواء ومن هنا وقع اختيار نوري اسكندر بعد دراسة مستفيضة -كما يبدو في الآهات- على آلة الكمان الجهير "Violoncello" ذات الأصوات الجهيرة وآلة البزق ذات الأصوات العالية والمتوسطة، وشكل منهما توازناً صوتياً منسجماً زاده صوت سوزان حداد الرنان في المد والترجيع روعة وألقاً.
  مطلع «آهات» نوري اسكندر، يوحي بأننا أمام عمل موسيقي كبير يشبه مطالع الافتتاحيات أو السيمفونيات -مع الفارق طبعاً- ونلحظ فيه آهات سوزان حداد آتية من أغوار سحيقة تربط الماضي بالحاضر الوضاء.
والمطلع الرائع في مجمله ليس سوى تمهيداً لما سترويه الموسيقا من حوارات يستهلها بزق محمد عثمان البارع بجملة موسيقية تتألق كماسة براقة بعد خضم التمهيد، حتى إذا دخلت آلة الكمان الجهير بسحرها وساحرها محمد نامق، فاجأنا من وراء ما عزف بما نعجز عن وصفه من ناحيتي التأليف والعزف لا سيما في جواب نغمة السيكاه. وهذه النغمة عقدت موسيقيي الغرب حتى الآن، وكل باحث التقيته من تشيكيا أو ألمانيا كان يطلب مني بإلحاح تسجيلات خاصة لهذه النغمة التي هي من الأصول السبعة في الموسيقا الشرقية.
وإذا كان محمد نامق قد أثرى العمل بسحبات قوسه الدافقة، فإن إيقاع السماعي الذي جاء بعد حين، ونسج عليه نوري اسكندر لحناً مشبعاً بالدفء، نقلنا مرة واحدة من الجو الدرامي الخصب الذي تعايشنا معه، إلى جو آخر ذكرنا بأجواء الموسيقا التراثية لينتقل ببراعة إلى مقياس 8/3، وبزق محمد عثمان الساحر بلحن كله حيوية وكأن راقصاً ممراحاً يخطر طائراً على الأنغام، ليشرق من بعده صوت سوزان حداد خاشعاً وكأنها تبتهل إلى الله:
    "يشهد الله أنني ماأزال
     بي شمعة تضيء المحال
     حين أرسلتها إلى النهر
     طاف الخيال"
مذكرة بالترانيم الكنسية والأناشيد الصوفية بأسلوب فيه الشيء الكثير من خصوصية الفنان المتجدد، بلغة موسيقية ساحرة تجاوزت العصر، ولعب فيها الكورال دوراً بارزاً متيحاً لآهات سوزان حداد المحلقة، مجال الانعتاق من إسار الأرض إلى أجواء السماء حباً وسمواً.
العمل الساحر الأخاذ الآخر الذي أتحفنا به نوري اسكندر في احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، الذي أقيم في قاعة الأوبرا بدار الأسد للثقافة والفنون، وأثار عاصفة من الإعجاب والحماسة هو «يا الله مدخل إلى الصوفية»، حيث شارك في هذا العمل المتميز، الفنان التشكيلي ياسر حمود بقصيدة «يا واهب الحب» الصوفية وغناء المطرب الكبير المتمرس عمر سرميني وعزف فرقة المعهد العالي الموسيقية وفرقة الكورال بقيادة ميساك باغبودريان الذي حقق من ورائها نصراً حقيقياً.
استند نوري اسكندر في عمله هذا على لحنين أساسيين أخذهما من «الصلاة الإبراهيمية» ومطلعها «اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد» ومن تكبيرات العيدين، وعلى لحن ثالث وضعه لكلمات «يا واهب الحب» التي حلّق بها بعيداً.
استهل الكورال العمل بمساندة من الأوركسترا، في أداء لحني لـ«الصلاة الإبراهيمية» ترتيلاً باللغة السريانية، قبل أن يشرق بها ثانية بالعربية الوضاءة، من وراء توزيع ممتع أضفى على اللحن جمالاً زاده عمقاً، هادفاً من وراء أدائه باللغتين -السريانية الأقدم والعربية الأقوى والأحدث- تأكيدَ حوار المحبة والتآخي والتسامح بين الشعوب والأديان، ليتجلى بعد ذلك الرائع عمر سرميني غناءً بـ«يا واهب الحب» من خلال لحن جميل يختلف عما اعتدنا سماعه في الأغاني الدينية والصوفية أسلوباً وأداءً، بلغ فيه عمر سرميني في ندائه ومخاطبته الذات الإلهية «يا الله» وفي القفل المذهل «أدركني.. يا مدركاً زكريا» وفي مناجاته وابتهالاته «لصاحب الأسرار» حداً تجاوز فيه المألوف من الناحية الموسيقية، واستطاع بقدراته الصوتية الوصول إلى الجواب (درجة لا الموسيقية) فيما يشبه الإعجاز الذي جعل الجمهور يخرج عن تقاليد الاستماع، تصفيقاً وقد استبدت به الحماسة، فلم يعد هناك سوى الانبهار بالنشيد الصوفي الإلهي وعمر سرميني واللحن الأخاذ، وقيادة ميساك باغبادوريان اللامعة لينطلق السرميني متابعاً الغناء، حتى إذا وصل إلى تكبيرات عيد الأضحى انبرى له الكورال معه ليتحاور بتوازن كبير بتعظيم السيد المسيح والرسول الأعظم (ص) والتكبيرات تعلو وتعلو حتى يأتي الختام المذهل بلفظة الجلالة «ياالله».
ونوري اسكندر ليس أول من عالج تكبيرات عيد الأضحى، فقد سبقه إليها الموسيقار «رفعت جرانه» صاحب السيمفونيات العربية الإسلامية التي استعان بتأليفها بالموروث الديني العربي والإسلامي كما في عمله الجميل «كونشرتو القانون» الذي بنى حركته الأولى على تكبيرات صلاة العيدين، والثانية على لحن طلع البدر علينا، والثالثة على لحن أذان الصلاة. غير أن نوري اسكندر ومن خلال استماعي للعملين على اختلافهما قالباً وأسلوباً ودون محاباة بزَّ رفعت جرانة في عمله، وإن كان يعوز نوري اسكندر فرقة سيمفونية كبيرة على غرار فرقة القاهرة السيمفونية.
موسيقي وملحن سوري آخر عالج بدوره تكبيرات عيد الأضحى في عمل كبير، هو صفوان بهلوان، والأجزاء التي استمعت إليها على عوده وبصوته تدل على أنه عاكف بدوره على إنجاز عمل كبير قد يرى النور قريباً إذا ابتعد «صفوان عن كسله المقيت».


صميم الشريف

فنون

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق