أعمال ناصر حسين في أتاسي

01 03

التداعي الحدسي للذاكرة المحتجة

تطرح مجموعة أعمال التشكيلي ناصر حسين التي عرضت أخيراً في غاليري أتاسي في دمشق حقائق عدة بشكلها المجرد الجريء البعيد عن الرومانتيكية التي تكاد تكون مهيمنة على واقع المحترف السوري ما يعطي لهذه الأعمال شيئاً من الخصوصية المنسحبة من خصوصية الموضوع.
مختبره الإبداعي يعتمد على التداعي الحدسي المكبل بالتكوين المدروس وهذه الآلية تقيد العمل بسبب سيطرة العقل في أغلب مراحل العمل ما يجعل الانصراف إلى العالم الداخلي للفنان مقتصراً على الفكرة الجريئة التي استجلبها من أعماق ذاكرته في المراحل الأولى لرحلته مع اللوحة. ينشئ الفنان تكوينه القوي أولاً على أرضية اللوحة البيضاء فيمسك بأطراف المساحة بخط قوي لا يقبل التراجع ثم تبدأ مجموعة لونية متناغمة متواترة ارتداء هذا التكوين فتخرس الخطوط حتى لا نكاد نرى لها أثراً بعد حين بل تدلك عليها هيئة هذا المكتسي.
تتفرد كل لوحة من مجموعته بالحالة الوجودية التي وجدتها فترى رغم اختلاف الموضوعات الشخوص تقودك إليها بصمت لتروي لك جزءاً مما يدور في داخلك غير مكترثة بك بل تقص روايتها بهدف البوح المغرور. يغلب على الشخوص جذب بطيء نحو الأعلى كأنها تهم بالطيران راضية بمصيرها وتبدو الوجوه ذاهلة في حالة من عدم الاكتراث كأنها وقعت تحت تأثير حلم مستمر وتبدو الكائنات الحيوانية تهيم مسيطرة في مساحة سوداء حرة.‏
أما أزرق ناصر حسين فلم يأت مجانياً فهو يشغل موقعه العريض برهافة وقوة معاً. أجواء ناصر حسين تعاني من ضجيج الذاكرة المحتجة فهي تصطحب الذاكرة كاملة فتأتي سردية، وهذا يجعل اللوحة مؤقتة في ذهن المشاهد وأشبه بوميض آلة تصوير سريع العبور، أما مرحلة بحثه العميق عن الأسلبة فتوقع اللوحة تحت سيطرة غير كاملة للجاذبية الأرضية وخط الأفق. يصور ناصر حسين ببصر حاذق ممسكاً باللوحة من خلال تكوين قوي فيصرف عينه إلى ذلك التكوين مهملاً زوايا لوحته لثقته الكاملة بضبط اللوحة فوجود المساحات الحرة لم يكن مجانياً.
تمثل جرأة هذه التجربة التشكيلية نوازعها الإنسانية القلقة، والفنان ينطلق من عالمه الخاص المشبع بالهواجس والذكريات بوصفه منبعاً لعوالم لوحته، ويدحض القيود وتخترق لوحته المناطق المعتمة في ذاكرة المتلقي دون إذن مسبق فيفاجئ المتلقي بمرآة تعرض صورة تشبهه تماماً، لكن للحظات يحاول دائماً إخفاءها فيدفعه ذلك للهروب منها أو ربما تجاهلها وفي أحيان أخرى قد تحمر وجنتاه.
يقول ناصر حسين عن تجربته «أنا أصور عالمي الخاص، أستحضره من طفولتي، فأنا من أصول ريفية، ولدت في مدينة حلب وعشت في محيط غير محافظ، لكن أنا ومحيطي كنا ضمن إطار محافظ، ما أدى إلى تملك الخجل مني إلى حدٍّ معين، فكانت لوحتي سابقاً تعبر عن حالات رومانسية أعتبرها الآن مريضة وقاتلة للفن، طبعاً مع حفاظي على مستوى لوني وتقني جيد».
«عندما خرجت إلى ألمانيا استطعت الاندماج بالمجتمع الألماني وأقمت مقارنات كثيرة بين بلدي وبين البلد الذي أنا ضيف فيه، فهمت كثيراً عن تركيبة البشر، تأكدت أكثر من أننا عندما نعبر عن أنفسنا نكون سعداء بقدر كبير. لوحتي الآن لا تحمل أي تعرٍ، لكن يمكن أن تحرج، وكثيراً ما مر أشخاص بجانبها فاحمرت وجوههم أو ردوا الطرف عنها باتجاه لوحة أخرى».
يعلّق على تجربة اغترابه في ألمانيا ومحاكاته للواقع هناك بالقول «تعلمت كيف أستطيع صنع لوحة لها علاقة بالقرن الحادي والعشرين، تعلمت كيف أرسم المفردات بحرية أكثر وكيف أعبر عن الحالات غير الرتيبة والتي تجعل من اللوحة لوحة جافة».
تتفرد في مجموعة هذا التشكيلي الشاب أربع لوحات مرسومة بالخط فقط، وهذا الخط القوي الذي يملكه يدفع للسؤال عن إغفاله لإظهار هذا الخط في لوحته الزيتية فكان جوابه «كنت أعمل على الخط سابقاً بهدف الاستعراض أحياناً، حالياً لا أرغب بذلك كما أن مناخي لا يحتمل الخط الآن، لوحتي تحوي كثيراً من الفواتح وتحوي قواتم أيضاً أنا أطرح مجموعات لونية مختلفة حتى لا تكون لوحتي مملة».
اللوحة هنا كتومة فالشخوص يعيشون في عالم مغلق يغلقه إطار اللوحة، وحالاتهم مختلفة يجمعها المحور الذاتي غير المكترث بالمحيط فهل هذه اللوحة تشبه الفنان التي رسمها؟ وهل الفنان يهرب من المواجهة؟ يسارع إلى القول «التجربة الحياتية وغنى الشخص تعكس ذاتها على نفسه وبالتالي على لوحته، وأعتقد أن زيادة الكلام في اللوحة يضر بها حسب ماتيس "كل شيء غير مهم في اللوحة مؤذٍ". عندما أعمل شيئاً خاصاً يشبهني أنا فقط، فأنا مجابه حتماً».
لكن ماذا عن المرأة التي تسكن لوحتك؟ يقول «ربما تكون ذاتي الأنثوية أو ربما رؤيتي الجديدة للأنثى، فالمرأة لم تعد فقط الحبيبة والصديقة والأم قد تكون السيئة المتثاقفة أو الغانية».
يصف ناصر حسين حيوان لوحته بالقط الليلي «إنه يشبه القط الشارد في شوارع حلب والشام، عندما كنت صغيراً كنت أكره المدرسة كثيراً، حتى عندما خرجت إلى ألمانيا كنت أهرب من دروس اللغة التي يجب أن أتقنها بسرعة، هذا القط دائماً يخرج إلي من مساحة السبورة».
أما عن بعض اللوحات التي تهت عن الوصول إلى فكرتها فقال «بعض اللوحات يمكن أن تكون لغاية تشكيلية بحتة فالمغامرة مع المساحة الكبيرة والتكوين الصعب لعبا الدور الأساسي في تشكيل بعض اللوحات».
ألوان ناصر حسين مطروحة بشكلين الصريح الذي اكتسب خصوصية معينة والشكل الذي جاء على شكل المجموعات اللونية القلقة، وذلك تبعاً لما فرضه طابع العمل، ويحدثنا الفنان عن ذلك «الشكل هو المسيطر، الشكل هو الذي يضبط العمل، الشكل الخاص والجديد، أما اللون الذي وضعته للخلفية فيصبح غير مبرر وركيكاً في حال لم يأتِ مدعماً لهذا التكوين، بنائي للوحة يعني فهمي للتصوير، يجب أن يكون غير تقليدي وبالمقابل يجب أن تكون اللوحة صحيحة وبتكنيك خاص جداً».
عن الكيفية التي يحكم بها الفنان على اللوحة أكانت صحيحة أم لا قال «رأيت الكثير من التجارب المهمة التي تركت في داخلي أثراً كبيراً، وأعطتني خبرات جديدة، واطلعت على تنوع كبير بالاتجاهات والأفكار، اللوحة الجيدة هي التي تحمل الكثير من الخصوصية والتي شغلت بطريقة مميزة في آن، بغض النظر عن المسطرة الخاصة بكل شخص التي يحملها معه عندما يشاهد لوحة ما». يتفوق الأداء (المرتبط بالتكوين والمجموعات اللونية) على التداعي الحدسي والموضوعات المواجهة التي يطرحها الفنان ناصر حسين وذلك بسبب عنايته بضوابط اللوحة وتسعى فرشاته لاستجلاب مجموعات لونية جديدة معلنة عدم وقوعها تحت تأثير مجموعة وحيدة.
ينتسب تصوير ناصر حسين إلى التعبيرية برغم اشتغاله المبطن على جمالية اللون المجرد وإيقاع التكوين الموسيقي، وأعتقد أن الغلبة ستكون لاحقاً في لوحته لتجلٍ لوني ولخط أكثر حرية وحضوراً.


تشرين

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق