محمد عبد الرزاق بعّاج في دار البعث

26 02

التقانات و طلاوة العفويَّـة

يرى النحات الفرنسي المعروف أوغست رودان أن كلمة «فنان» بمعناها الواسع إنما تعني كل امرئ يجد لذة كبرى فيما يعمل، فالفنان رجل يعشق مهنته، وأثمن مكافأة يظفر بها هي اغتباطه بتحقيق عمل جيد، والفن أيضاً درس رائع في الإخلاص، فالفنان الحقيقي يُعبّر دائماً عما يجول في ذهنه وإن أدى به الأمر إلى أن يطيح بشتى الآراء السائدة، ويحطم بعض القواعد والأسس المتفق عليها بتأثير العفويّة والتلقائيّة والإخلاص الصادق، والعشق المدنف لما يشتغل عليه من أنواع وضروب التقانات والفنون وأشكال التعبير، فلا يزدري ما يعمل عليه، ولا يحتقر جانب الصنعة فيه، إنما يخلص لفنه بوصفه حرفة يعيش منها، ويعيش لها في آنٍ معاً، وليس الصدق في الفن‏ -كما عبر الدكتور زكريا إبراهيم- إلا وفاء الفنان لرسالته بوصفها ذلك النشاط الإبداعي الذي لا يبدأ إلا حيث تنتهي الحرفة. والحرفة جزء لا يتجزأ من الفن عليها ينهض الإبداع، وبها يمضي إلى آفاق التجديد والابتكار، ذلك لأنها المدماك الأول في معماره، والوسيلة الأهم لتجميده في لغة وشكل ورموز وتقانات تمتلك القدرة على التواصل مع الآخر، وإمكانية الاستمرار والبقاء والخلود.
وبتعبير آخر الحرفة وعاء الإبداع وحافظته ووسيلة نقله إلى الناس والمستقبل، لكن يجب ألا تطغى على الفن فتتحول إلى غاية في ذاتها بدلاً من أن تكون وسيلة، ويصبح الفن الذي تتلبسه نسخاً مكرورة تدور في فلك واحد، إنما عليها أن تأوي إليه بنسبة ومقدار محددين كي يبقى متوهجاً مفتوحاً على الابتكار والتجديد والإضافة، وعلى الحرفة الطامحة بأن تبقى حيويّة لافتة مراقبة للفن دوماً، ومستفيدة من كشوفاته وإضافاته وحرائقه الجميلة الجليلة اللصيقة بالحياة وتحولاتها الدائمة. والفن بلا حرفة تحفظه وتقدمه على نحو صحيح وسليم إلى الناس، فن هلامي هش ضعيف لا يدوم، والحرفة بلا فن صنعة باردة جامدة تفتقد رعشات الحياة وتوهج الإبداع.
محمد عبد الرزاق بعّاج في دار البعثالعلاقة بين الاثنين دقيقة حساسة صعبة إذا لم تنظمها موهبة كبيرة تعرف جيداً كيف تديرها، وإلى أية منعرجات من الصيرورة تقودها، لا سيما إذا ما علمنا أن الحرفة أو التقنية على قسط كبير من المكر والدهاء والإغراء القادر على اصطياد الموهبة الفنيّة، وجعلها تكرر نفسها ضمن إطار شخصية محددة الملامح، مغلقة الآفاق، ضيقة هامش الإبداع والابتكار، وبمعنى آخر يجب أن تتعانق الدربة والموهبة، والخبرة والتلقائية، والشخصية والتجديد.
وشيء من هذا العناق حملته أعمال الفنان محمد عبد الرزاق بعّاج (من مواليد دير الزور عام 1944) التي تحتضنها صالة دار البعث للفنون الجميلة بدمشق حالياً، والموزعة على التصوير والنحت المجسم والنافر.
ففي مجال التصوير متعدد التقانات اللونية، عرض الفنان بعاج خمساً وعشرين لوحة من الحجوم الصغيرة، تناول فيها موضوعات تجريديّة وحروفيّة وزخرفيّة لها صلة وثيقة بأشكال وتكوينات منحوتاته النافرة والمجسمة، ولقد جاء بعضها وكأنه دراسة للوحات النافرة التي جاءت أكثر توافقاً وانسجاماً، فقد اعتمد فيها على اللون الواحد القريب من لون الخشب، وعلى تبادل القيم بين الملمس الناعم المصقول والملمس الخشن، أما اللوحات الملونة فقد حملت حساً زخرفياً إعلانياً، نفذها الفنان بألوان متدرجة من الحار إلى البارد (أحمر، وأزرق، وأخضر)، كما تعمّد الإيحاء بحجم وتجسيم أشكالها عبر تدريج اللون الواحد من الفاتح إلى الغامق، وإحاطة جسم الحرف أو الكلمة بخط قوي يفصله به عن الأرضيّة التي حاول إضعاف ألوانها لإبراز وتأكيد الأشكال والكلمات المرشوقة فوقها بعفوية أحياناً، وبدراسة مستفيضة لمعمارها وعلاقته بالخلفية أحياناً أخرى. وعلى هذا الأساس يمكن تصنيف الأعمال الملونة ضمن خانة التجارب الحروفية الزخرفيّة المتماهية أحياناً بالحس التصويري.
أما لوحات النحت النافر المتقاربة كحجوم اللوحات الملونة والبالغ عددها سبع عشرة لوحة فهي منفذة من خلطة خاصة، وتقنية واحدة، وإيقاع متشابه شكلاً ومضموناً، فهي من حجم واحد، ولونٍ واحد (بني ميّال إلى العسلي) وملمسين (مصقول وخشن) وتكوينات متشابهة مؤلفة من عناصر إنسانيّة (شخوص، ووجوه، وأطراف) وحيوانيّة (أسماك، وطيور) وتشكيلات مجردة توحي بالحروف والكلمات تارة، وبالقوارير والنباتات تارة أخرى.
ويقوم الفنان بعّاج بإنجاز هذه العناصر فوق سطح من المعاكس أو المازونيت المؤطر وعلى نحو نافر من خلطة خاصة، ثم يُغرق الإطار والأرضيّة والأشكال -بعضها مصقول، وبعضها الآخر مهشر- بطلاء واحد (بني ميال إلى اللون الخشب) يتكرر في الأعمال كافة، ما يحوّلها إلى نسخة مكرورة، تسيطر عليها الصنعة، وتغرقها الحرفة. أما التكوين فيختلف بوصفه قيمة تشكيليّة وتعبيريّة من لوحة إلى أخرى، وهذا الأمر ينسحب على المنحوتات المجسمة (كتلة في الفراغ) البالغ عددها ثمان وأربعين قطعة منفذة من الخشب، وتجربة واحدة منفذة من حجر البازلت الأسود، وهذه الأعمال (باستثناء تجربة وحيدة أفقية) شاقولية التكوين تستقر على قواعد مختلفة الأشكال والسماكات وطريقة المعالجة. فبعضها يستلّه من كتلة المنحوتة نفسها، وبعضها الآخر يضيفه إليها فيما بعد، والأعمال المجسمة هذه أفضل ما ضمه معرض الفنان محمد عبد الرزاق بعّاج من ناحية الشكل، أو المضمون، أو المعالجة، فهي منفذة من خامة طبيعيّة، وبحرفية عالية تعكس مدى عشقه وحبه لفنه، وتفانيه الكبير في ممارسته والاعتناء به وسعادته الطاغية بممارسته، بغض النظر عن مردوده المادي بدليل وجود كل هذا الحشد الكبير من الأعمال في معرضه الفردي الخامس المقام حالياً في صالة دار البعث بدمشق.
محمد عبد الرزاق بعّاج في دار البعث وعلى نحو عام يمكن تصنيف الأعمال الخشبية المجسمة في ثلاث فئات: الفئة الأولى تكوينات يُسيطر عليها الحس الزخرفي التزييني، والتكنيك الصناعي، وهي الأضعف فنياً وتعبيرياً بين أعمال المعرض، والفئة الثانية تمثلها التكوينات ضعيفة الحضور في الفراغ، بسبب سطوة الفراغات على كتلتها العامة، فأضعفَ حضورها في الفراغ، وأخل بالعلاقة التناسبية بين كتلتها العامة والفراغ المحيط بها، وكان عليه القيام بعملية ضبط هذه العلاقة كي لا تتقزم الكتلة في الفراغ، ويضعف حضورها فيه، والعكس صحيح أيضاً، فيجب ألا تضطهد الكتلة الفراغ، وتقحم نفسها فيه! والفئة الثالثة وهي أفضل ما ضمه معرض الفنان بعّاج تتمثل بالأعمال المتوازنة كتلةً وفراغاً والتوزيع المدروس لعناصر ومكونات معمار العمل ضمن حركة تغطي واجهاته كافةً، والمعالجة المتقنة لسطوحها وكتلها المشكلة لها، فجعلها تتوافق وخواص الخامة الطبيعيّة النبيلة المنفذة منها، وتتعمق تعبيراتها وإيحاءاتها المفتوحة على أكثر من معنى، ففي هذه الأعمال التي ظلت رغم كثافة عناصرها واختلاف إيقاعاتها وأشكالها توحي بالمكعب أو متوازي المستطيلات الذي جاءت منه، ذلك لأن الفنان بعّاج في غالبية هذه الأعمال عالج بلوكات خشبية لا جذوع وأغصان الشجر الطبيعي كما يفعل غالبية نحاتي الخشب بدليل محافظة منحوتاته على هيكليّة الشكل الذي جاءت منه، واحتفاظها بقاعدتها الهندسية، وهو ما يؤكد قيامه بفرض التكوين الذي يريده عليها، أو تقوده يداه إليه بعفوية وفق التصورات والإيحاءات التي تتلبس أصابعه وخياله أثناء انكبابه على العمل.
وتوحي تجربة الفنان محمد عبد الرزاق بعّاج بأننا أمام هاوٍ مسكون بالفن علّم نفسه بنفسه بدافع من موهبة حقيقة أخذت طريقها إلى وسيلتين تعبيريتين أساسيتين: الأولى مسطحة (اللوحة الملونة) والثانية مجسمة (اللوحة النافرة والمنحوتة المجسمة) تجمعهما وحدة عامة، وسوية متشابهة، إلا أن الأعمال المجسمة لديه أكثر كمالاً وإقناعاً، وتحتضن خبرة كبيرة حصّلها الفنان -كما يبدو- من ممارسة دؤوبة ومتواصلة لفن النحت بالخشب، الأمر الذي قاده إلى إنجاز أعمال لافتة ومهمة، تصلح لأن تأخذ طريقها إلى الساحات والحدائق ومداخل المدن إن كُبّرت ونُفذت بمواد مقاومة لعوامل الجو المختلفة. وهذه الأعمال المتكاملة شكلاً وتعبيراً تؤكد مدى التطور والنضج الذي وصلت إليه تجربة هذا الفنان الذي بقدر ما أغنتها التلقائية، وصعّدت من طلاوتها وجمالها وتفردها، بقدر ما أوقعتها بهِنات أبرزها سطوة الحرفة والتزيين والتكرار عليها، فيحتم عليه القيام بوقفة تأمل ومراجعة لمجمل أعماله في التصوير والنحت بهدف انتخاب الأفضل، والاشتغال عليه وتطويره باستمرار.


الثورة

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق