نوري إسكندر: الكونشرتو والمقام الشرقي

26 02

أقامت الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية لعام 2008 بالتعاون مع دار الأسد للثقافة والفنون وتحت رعاية من دار الأوس للنشر وMTN حفلاً موسيقياً هاماً تحت عنوان «تجليات» شاركت فيه الفرقة الوترية المنبثقة عن الفرقة الوطنية السيمفونية بقيادة ميساك باغبودريان، والمغنية الأوبرالية سوزان حداد وعازف البزق البارع محمد عثمان وعازف الكمان الجهير (تشيلو) الماهر فادي حتر والمغني القدير عمر سرميني الذي لم يأخذ حقه كاملاً في الحياة الموسيقية على الرغم من قدراته الصوتية وإمكاناته الفنية وبصماته الواضحة طوال مسيرته الغنائية تراثاً ومعاصرة.
وجميع الأعمال التي قدمت في الحفل من تأليف الموسيقي المبدع نوري إسكندر: عملان منهما هما من جنس واحد: كونشرتو العود، وكونشرتو الكمان الجهير (تشيلو)، وعملان آخران لا يقلان روعة عن الكونشرتوين، وهما «الآهات» و «يا اللـه» المعنون بمدخل إلى الصوفية.
ونظراً لأهمية هذه الأعمال ولا سيما كونشرتو العود وكونشرتو الكمان الجهير، فسأحاول جاهداً أن أوفيهما حقهما من النقد المنزه عن الغرض:
ألبوم رؤية نوري إسكندرألبوم تجليات نوري إسكندر
العملان هما خلاصة تجارب نوري إسكندر في البوليفوني (تعدد الأصوات) والهارموني (التوافق أو الانسجام) على بعض المقامات المعمول بها في مشرقنا العربي، وأيضاً في علاقة أبعاد الأجناس (المسافات الصوتية) في المقامات ببعضها، لا سيما ما يتعلق منها بأرباع الصوت التقريبية. وأول من استخدم البوليفونية من الموسيقيين العرب كان الملحن محمد القصبجي في مونولــوغ «يامجد» لأم كلثوم عام 1936 ، ثم في مونولوغ «يا طيور» لأسمهان عام 1942 من مقامات لا تتنافى في أبعادها الصوتية والمقامات الغربية، كذلك نجح في هرمنة ربع الصوت التقريبي في مقام الراست في مونولوغ «منيت شبابي» لأم كلثوم عام 1936 من وراء خلفية موسيقية مهرمنة في أول تجربة من نوعها في تاريخ الموسيقى العربية، وعلى الرغم من نجاح التجربتين إلا أنهما لم تكونا إلا طفرة لم تتكرر، ولم تتمخض عما كان يرجى منهما، لا سيما الثانية التي لم تعتمد دراسة موضوعية على غرار تجارب ودراسات نوري إسكندر التي استغرقت منه أكثر من عشر سنوات والتي سبقه إليها في أبحاثه ودراساته على السلم الطبيعي الغربي ألويس هابا التشيكي في مصنفاته الموسيقية متجاوزاً أرباع الصوت الغربي إلى أسداسه التي لم يستسغها المستمع الغربي لاعتياده على نصف الصوت في السلم المعدل، وقد تابع أبحاثه بعده مواطنه «ستانيسلاف» دون أن يعطي جديداً.
ويتألف كونشرتو العود من ثلاث حركات، وهو أول كونشرتو للعود يعنى به المؤلف بتقاليد التأليف فيه، فجعل الحركة الأولى متوسطة السرعة، والثانية متهادية، والثالثة سريعة، ومطلع الكونشرتو يذكّر في بلاغته اللحنية بأسلوب شوبرت السهل الممتنع الذي جاء متناغماً في اللحن الأساسي، الذي يعود به نوري إسكندر أسلوباً وطابعاً إلى العصر الباروكي دون افتعال، وبوَحي من الموسيقتين الغربية والشرقية ، وبلغة موسيقية سهلة ممتنعة جديدة في كل شيء بخلاف كونشرتو العود لعطية شرارة، والآخر لجميل بشير اللذين تأثرا من الموسيقى الشرقية قدراً جعل العملين خاصين بالمستمع العربي دون غيره، وهذا لا ينقص من قيمتهما الفنية، وإن تميز كونشرتو جميل بشير بالتكنيك الذي ابتدعه فيه، بينما نجد الأمر غير ذلك عند نوري إسكندر الذي أعطى في هذا الكونشرتو الحرية للمقام العربي كي يخرج عن تقاليده المتبعة في سيره اللحني و في المحط المقامي، وبذلك اكتسبت الموسيقي جديداً في انعتاق الأنغام من إسارها، وفي قبول هذا العمل حتى من المستمع الغربي الذي لم يألف هذا التزاوج في الموسيقى بين الممكن وغير الممكن في الموسيقتين التي بناها أساساً في المقامات الشرق عربية، على إلغاء السير التقليدي للمقام الذي يمكّن أي مؤلف إذا اتبعه من إغناء خياله الموسيقي في ابتداع أنماط لحنية جديدة تتوالد بشكل طبيعي.
إذا ما لجأ كما فعل نوري إسكندر، إلى تفكيك السير اللحني للمقام الذي نلمسه بوضوح في الحركة الأولى مستغلاً العود في دور التفاعلات Development دون شطط ، وأيضاً في التوازن الرائع بين العود والأوركسترا، وهذا الأمر يتضح على نحو أقوى في الحركة الثانية المتهادية التي تنضح بروح غنائية متيحاً لفكره الموسيقي إبداع توليفات هارمونية في غاية الدقة والجمال تتوافق وجنس (عقد) المقام الشرقي وتنسجم مع الابتكارات اللحنية التي جاء بها، ومع روح المقام بنمطه الجديد، التي قد تبدو مستهجنة لدى المستمع للوهلة الأولى ولكنه لا يلبث عندما يستعيدها أن يرتبط معها بألفة محببة، ويوحي لحن الحركة الثالثة الأساسي السريع والجميل بديناميكيته بألحان اللونغا الاستهلالية، غير أن هذا اللحن البعيد تماماً عن اللونغا، لا يلبث أن يتوارى لتنبثق منه ألحاناً أخرى أكثر إشراقاً وحيوية، لكنها لا تعود إلى اللحن الأساسي إلا في نهاية الحركة بعد حوار شيق بين العود والأوركسترا والكادنزا Cadenza المكتوبة بعناية فائقة. وعلى نحو عام فإن هذا الكونشرتو رفع من شأن آلة العود كآلة أصواتها ضعيفة وذات إمكانات محدودة إلى آلة ذات قدرات كبيرة أحسن نوري إسكندر استغلالها حتى في القرارات التي توكأ عليها ليظهر جمالياتها.
وقد أبدع عازف العود القدير محمد عثمان في أدائه لهذا الكونشرتو فأدهشني لمعرفتي به عازفاً خارقاً بالبزق أكثر منه حاذقاً بالعود الذي تجاوز فيه المهرة وهو في كادنزا الحركة الأولى التي بدت تقاسيم مرتجلة، فكان لامعاً في وضوح ريشته التي أخذنا بها إلى منابع البياتي في إشكاليات لحنية موغلاً في إبداعات اللحن بأسلوب يحسد عليه، حتى يلتقي مع الأوركسترا باللحن الأساسي العذب بتوازن خلاق لا يطغى فيهما الواحد على الآخر، والكونشرتو بعد ذلك بما له وما عليه وضع المؤلفين التقليديين أمام ظاهرة تفكيك المقام بأنماطه اللحنية الجديدة ليتأملوا ما صنعه نوري إسكندر فأتاح لهم بعمله هذا التجريب بدورهم بعيداً عن التزمت أو التشبث بتقاليد سير المقام اللحني، والتجريب معاناة، وكم من الموسيقيين العظام عانوا بدء من باخ الكبير وانتهاء بشونبرغ إلى أن اسستتب لهم الأمر. وهذا الكونشرتو دعوة للتجريب، فإن صادفت قبولاً قد تأتي بثمر وفير.
نوري إسكندر في دار الأسد دمشق
 وكونشرتو الكمان الجهير ربما كان أول كونشرتو عربي فيما أعرف لهذا الآلة الغربية، وأهمية هذا العمل تكمن في الآلة نفسها وخصائصها وإمكاناتها، وفي قبولها كآلة رئيسة في عمل مكتوب خصيصاً لها من قبل مؤلف عربي، وهي قلما أسند إليها دور في موسيقانا العربية، وفي الفرق الموسيقية العربية، وعوملت دوماً بوصفها آلة شبه ثانوية، ولم تستعمل ويعمم انتشارها في الموسيقى والفرق العربية إلا عام 1935، ولم تنفرد بعزف مستقل (تقاسيم) حال العود والقانون والناي والكمان على الاطلاق وإن أفرد لها بعض الملحنين عدداً من المقاييس في ألحان أغانيهم في محاولة منهم لتقريبها من المستمع العربي، على نحو ما فعل محمد عبد الوهاب في قصيدة «أيها الراقدون» عام 1935، ومحمد القصبجي في رائعته «رق الحبيب» عام 1944 ، والسنباطي في «ذكريات» عام 1954، ومن هنا تأتي أهمية هذا الكونشرتو الذي خصص لها، ولا يتوقف الأمر عند هذا التخصيص، لأن المؤلفين الغربيين كتبوا لها أعمالاً خارقة في الكونشرتو أو السوناتا أو موسيقى الحجرة.
وقد كتب لها من المؤلفين العرب الراحل جمال عبد الرحيم ثنائياً جميلاً بمرافقة الكمان حاول فيه تكريس علوم الموسيقى الغربية لخدمة المقام الشرق عربي، وهي محاولة تجريبية تختلف عن محاولة نوري إسكندر الذي ألف هذا الكونشرتو -كما في كونشرتو العود- في المقامات الشرق عربية، فطوع بعض عناصرها لعلوم الموسيقى الغربية، وعلى الرغم من صعوبة استخدام هذه المقامات بوليفونياً (تعدد الأصوات) في الألحان التي تنجم عن ثلاثة أرباع الصوت في بعض المقامات، وهو الأمر الذي أثير في مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة عام 1932 وأحدث ثورة، والذي رفضه علماء الموسيقى السوريون المشاركون في المؤتمر مثل علي الدرويش وأحمد الأوبري وتوفيق الصباغ، والذي كما يبدو لي درسه نوري إسكندر دراسة وافية من وراء أبحاثه وتجاربه، حتى استطاع إيجاد التوافق المطلوب بين أرباع الصوت وغيرها من الأصوات، وابتكار توليفات هارمونية على أساس تلك المقامات، وهذا ما نلمسه في مطلع الكونشرتو الذي مهد فيه لفكره الموسيقي بانطلاقه من مقام الصبا، وهو لم يكتف بذلك فقد حرر المقام من عبء سيره التقليدي كما فعل في كونشرتو العود على الرغم من اختلاف الآلتين طابعاً وخصائص وموضوعاً وتعبيراً، فإذا انتهى عرض اللحن الأساسي المتماوج اعترضه اللحن الثاني الصاخب والشجي في آن واحد على مقام آخر لا محط له.
ومن الصعب جداً تحليل ما قام به نوري إسكندر في دور التفاعلات في الألحان التي انبثقت عن اللحنين وفي الهارمونيات التقليدية واصطدامها مع التوليفات النغمية الأخرى التي جاءت على المقامات الشرقية فهذه كلها تحتاج إلى وقفة متأنية ليس هنا مكانها، ويمكن القول من خلالها إن الكمان الجهير لعب فيها بتوازن بديع مع الأوركسترا دوراً بارزاً، مظهراً روعة هذه الآلة التي قد يظنها المستمع في بعض المواضع أنها كمان لا بكمان جهير، ولا ريب أن اتقان العازف فادي حتر للأوضاع التي يجب أن تكون عليها أنامل العازف في عزفه positions كان له تأثير كبير في ذلك، وقد يؤهله هذا مع التقنيات الأخرى التي لمستها في عزفه ولا سيما في التعبير لأن يصير من العازفين المتميزين والمرموقين على هذه الآلة. وألحان الحركة الثانية تتسم في شجوها بشاعرية مؤسسية، والانفعال الذي يتبدى فيها أحياناً ليس إلا معاناة أو ثورة نفسية هادئة، والمتأمل لبعض ألحانها المنبثقة عن اللحن الأساسي يشعر أنه أمام تسبيحة إلهية فيها على الرغم من قتامها نوع من السمو على الألم، والحركة في مجملها لم تخرج في صياغتها عن الأسلوب الذي سار به في كتابته لها، مصمماً على تحقيق ذاته في إنجاز عمل متقدم ينير للموسيقى درباً جديداً لم يطرق من قبل.
وصيغت ألحان الحركة الثالثة في قالب الروندو rondo المرجعات، ولحن الروندو الأساسي بني على لحن من ألحان الأغاني الشعبية السريعة والمرحة، وهذا اللحن يعود بعد كل لحن جديد أو آخر منبثق عنه على نحو جديد ومن خلال معالجة مكثفة للنغمات تتباين واللغة التقليدية المتبعة، والإيقاعُ الشعبي البسيط الذي استخدمه كان ايقاعاً داخلياً أكثر منه ظاهرياً، ووظفه بإتقان في توقيع اللحن وفي نبره أيضاً، أما الإعادة الأخيرة للحن الروندو الذي اختتمت به الحركة والكونشرتو معاً فيأتي شبه مبتور لأن نوري إسكندر أراد تأكيد ما ذهب إليه في تفكيك سير المقام وفي نبذ التقليد المتبع في المحط المقامي.
وفي كل الأحوال فإن نوري إسكندر المبدع والمبتكر لأسلوبه الحديث الذي أتيت على ذكره أقدر مني في شرح ما استعصى علي فيما استنبط وابتكر، وهو واثق بأن ما قدمه في هذين العملين كونشرتو العود وكونشرتو الكمان الجهير سيكون فاتحة لقراءة متأنية من قبل المؤلفين الجادين التواقين لموسيقى جديدة وجادة.


صميم الشريف

الثورة

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

سهيل :

شكرا لك يا استاذ لكنني عندما كتبت تفكيك المقام توقعت أن أجد ولو مقام واحد وأشتقاقاته ك بيات ري او ييات صول مثلا وعلامات التحويل بهما مثلا لكنني لم اجد ولكن على كل حال شكرا

سوريا

noha:

نشكر كل من سهر وعمل على توفير لنا كل هده المعلومات القيمة

maroc