صديقنا الجميل..

28 آب 2015

.

قبل عام واحد من ولادته هاجمت قطعان المغتصبين الصهاينة قريته الصغيرة قرب بحيرة طبريا، مكرهة عائلته على النزوح عنها قبل أن يتاح لذاكرته حفظ أي صورة من مسقط رأسه..

لكن حكايات الأم البدوية المشبعة بالصور الثرية ظلت ملازمة لرؤاه، ومن ثم رسوماته، حتى اللحظة التي غادر فيها ملجأه الأخير، بعيداً عن أرضه وعائلته ومحبيه..‏

تصلح حكاية محمد الوهيبي أن تكون مثالاً عن مئات الآلاف من الحكايات القاسية التي صنعتها الأطماع الغربية في بلادنا، كما يصلح هو نفسه أن يكون نموذجاً للإنسان الذي يأبى الاستسلام لليأس والإحباط والهزيمة مهما قست عليه الظروف..وقد لا يكون نجاحه الأكبر في قدرته على تحدي ظروف التهجير واليتم والفقر وشظف العيش، وإنما في نجاحه - رغم ذلك كله – بالحفاظ على نقاء الإنسان بداخله، وعلى ابتسامة صافية يلاقي بها أصدقاءه وطلابه وأطياف الناس في كل مكان يكون فيه..‏

قدم الأديب إسماعيل مروة نعيه بالقول: «مانح لقب الجمال على أصحابه يغادر خلسة» ملتقطاً بذلك واحدة من أكثر صفات الوهيبي ملازمة له. فقد كان الراحل يعتمد كلمتي «صديقي الجميل» حين يحكي عن أحد أصدقائه، أو يتوجه بالحديث إليه، لم يكن ذلك رياءً ولا مجاملة، وإنما تعبيرٌ عفوي عن محبة صادقة للناس تملأ روحه، ولذا يجب ألا يعجب أحد من الكم الكبير للأصدقاء والزملاء والمعارف الذين حكوا عن رحيله بحزن عميق محب، ذلك أنه من زرع المحبة في نفوسهم.وهو ما تجلى بوضوح في نصوص زملائه الفنانين على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، أو في الكتابات الصحفية للزملاء النقاد والإعلاميين أمثال إسماعيل مروة، وخليل صويلح، وسامر اسماعيل،وسواهم.. الذين أشبعوا مقالاتهم بالحديث عن إنسانية الوهيبي، رغم حرصهم على إضاءة تجربته الإبداعية بعمق ودراية..‏

في لقاء إذاعي أجرته معه قبل خمس سنوات الإعلامية العريقة هيام حموي، وأعادت بثه إثر رحيله، تحدث الوهيبي عن الحبل السري الذي ظل يربطه بأمه فلسطين، ولم يكن صعباً على المستمع أن يدرك أن بقاء هذا الحبل حياً في ذاكرته كان بفضل أمه التي أغنت خياله بالحكايات الشعبية الفلسطينية، وبالأساطير المتناقلة منذ مئات السنيين، وقد يكون هذا السبب الرئيس في شكل ومحتوى اللوحات التي رسمها بعد ذلك، أي ذاكرته المتحدة بالذاكرة الشعبية الفلسطينية الموغلة في القدم، بخلاف ذاكرة الكثير من المبدعين الفلسطينيين التي بدأت مع العدوان الصهيوني – الغربي على فلسطين، وما تلاه من وقائع.فكانت لوحاته مليئة بالرموز المستقاة من الثقافة الشعبية بكل تجلياتها المحكية والمرئية..‏

فوق الإسفلت الأسود للطرقات المهجورة في قرية جولانية صغيرة خط بالطباشير البيضاء رسومه الأولى، ربما كانت تلك الرسومات من قاده لاكتشاف قدرة اللونين الأبيض والأسود على البوح بالألوان جميعاً..وللتعبير عما يموج داخله من صور وأفكار. وربما هي من قاده ليختار فن الحفر وسيلة للتعبير عن روح المبدع المتفجرة داخله خلف حضوره الإنساني اللطيف. فبعد سنوات طويلة لم يفارق فيها موهبته الفنية الفطرية، سواء خلال دراسته الأولى في المخيم، فدراسته الثانوية في دمشق، وصولاً إلى دراسته في معهد إعداد المعلمين في حلب، ومن ثم عودته للتدريس في مدارس المخيم،بعد هذه السنوات الطوال عاد لينتسب إلى كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق وغايته الأولى تنمية قدرته التقنية التي لم تتوقف عن النمو، مبتكرة باستمرار أساليب تقنية جديدة، بمواكبة تجدد رؤاه الفنية، وباجتماعهما أوجد عالماً من الجمال الأسطوري صار ملازماً له..‏

كما صار جزءاً أصيلاً من المشهد التشكيلي السوري - الفلسطيني‏.


سعد القاسم

thawra.sy

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق