ناظم الجعفري.. الفنان المعلم

12 تموز 2015

.

كنت بالكاد أصل خواتم العقد الأول من عمري حين استوقفني مشهده.. رجل في زهوة عمره وأوج أناقته، يقف عند مفترق طرق في حي المهاجرين حاملاً في يده دفتراً كبيراً، فيما عيناه تجيل النظر بين بيوت قديمة وأوراق الدفتر، ويده «تدون» برشاقة خطوطاً بارعة تنقل النوافذ والجدران والأبواب إلى الأوراق الناصعة البياض. غياب أي رد فعل من الرجل شجع على الاقتراب أكثر... وتأمل الرسم وهو يكتمل بملامحه التامة وتفاصيله الدقيقة .. وروعته.

ما هي إلا لحظات حتى كان أطفال وفتية كثر قد جذبهم المشهد فتحلقوا حول الرجل. بعضهم استغرق بتأمل ربطة عنقه الأنيقة، وشعره المنسحب من على قمة رأسه ليجتمع بكثافة على الجانبين.. و«البروش» الذهبي الأنيق والصغير للوحة الألوان والفرشاة.. التي ترمز إلى فن التصوير بألوان الزيت.. والتي كان علينا أن ننتظر سنوات عديدة لنعرف أنهم يسمونها «باليت» أو«باليتا»..

أنجز الرجل لوحته.. ثم قلب الصفحة واستدار في مكانه نصف دورة لينقل إلى الورق الأبيض مشهداً آخر فتغيّرت الجهة التي تتجه إليها أنظار الجميع، والخطوط التي ترسم ببراعة على الورق.. وازداد عدد الفضوليين والمندهشين والمعجبين...

شيء وحيد لم يتغير... استغراق الفنان مع رسوماته، وكأنه وإياها وحيدين بعيدين عن الصخب المتنامي. وحين حدثنا أهالينا بعد ذلك بدهشة عما شاهدنا، سمع الجميع تقريباً التعليق ذاته:

-آه... إنه ناظم الجعفري.....
ثم صار وقوف الجعفري في أي مكان يجذبنا للاستمتاع ببراعته... وأيضا لنكتشف الجمال في أماكن كنا نمر فيها وقربها دون أن تلفت انتباهنا. وظل هو كما هو...لا شيء ينجح في انتزاعه من حالته الصوفية الإبداعية.. لا تعبيرات الدهشة ولا كلمات الإعجاب التي كنا نتهامس بها بصوت مرتفع علّه يلتفت إلينا.. ولا حتى الاستفزازات الصغيرة من مراهق جاهل لم يدرك بعد أهمية ما يرى..

بعد ذلك بسنوات، حين زرت جناح الفن الحديث في المتحف الوطني بدمشق لأول مرة، وجدت نفسي منجذباً نحو لوحات الجعفري. لا أعرف أي شعور انتابني وأنا أتأمل البيوت الشبيهة بتلك التي كان يرسمها حين شاهدته للمرة الأولى.. أحسست أن شيئا ما يخصني في هذه اللوحات.. وأنني شريك بها بشكل من الأشكال. كانت فرصة عظيمة الأهمية لطالب فنون أن يقارن بين بدايات العمل الإبداعي، وإنجازه النهائي. بين الخطوط الرشيقة الأولى التي تصنع «الاسكتش»، وبين اللوحة الجديرة بأن توضع في المتحف...

كان لناظم الجعفري مزاجٌ خاص يمتاز بالحساسية العالية، ويميل إلى القسوة والعزلة بحكم موت مفجع لشقيقة غالية عليه، وبسبب تعصبه لقناعاته الفنية «وخاصة للأسلوب الواقعي في التصوير» الذي كان يأخذ أحياناً شكلاً متعالياً، ومستفزاً. حتى وصفه المرحوم غازي الخالدي بـ «رهين المحبسين»، إشارة إلى منزله ومرسمه. فبعد سنوات قليلة مارس فيها تدريس الرسم في ثانويات دمشق، فكلية الفنون الجميلة إثر تخرجه من كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1947، اعتكف نحو خمسين سنة بين منزله ومرسمه، مبتعداً عن عرض أعماله على الجمهور رغم أن عددها تجاوز الست آلاف لوحة توزعت بين صور أشخاص ووجوه، وطبيعة صامتة، وصور دمشق خاصة، حتى يمكن القول أنه وثّق دمشق باللوحة. وقد خرج من عزلته لمرة وحيدة لم تتكرر إثر مبادرة من الدكتور محمود السيد عام 2005، وكان يومذاك وزيراً للثقافة، حيث قام بزيارته في منزله، وتلا ذلك إقامة معرض كبير له في المتحف الوطني بدمشق، وإصدار كتاب عن تجربته ألّفه الفنان الراحل الدكتور غازي الخالدي، وأصدرته وزارة الثقافة. كما أنجز النحّات والناقد غازي عانا فيلماً تلفزيونياً بالغ الأهمية عنه لمصلحة الفضائية السورية..

حين إعداده للكتاب المذكور طلب مني الراحل غازي الخالدي نصاً عن الجعفري، فأشرت فيه إلى الأهمية الاستثنائية لوجود فنان كناظم الجعفري في كلية الفنون.. وكان في بعض الحديث شيء من الأسف وبعض من الحسد تجاه زملاء حظوا بفرصة التعلم على يديه... وقدمت النص بالقول: «لم يدرسني ناظم الجعفري يوماً.. ولم يدر أي حديث بيننا في أي وقت.. ».

ومع ذلك فأنا واحد من كثيرين ينظرون إليه على أنه الفنان المعلم.


سعد القاسم

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق