«الأم» لباسل الخطيب.. وثيقة حرب في أرض ليست قذرة
31 كانون الأول 2014
.
يتابع المخرج باسل الخطيب «مواليد 1962» عبر ثلاثيته السينمائية عن المرأة السورية في زمن الحرب ما كان بدأه العام 2012 مع فيلم «مريم» حيث افتتح المخرج السوري - الفلسطيني عروض فيلمه الثاني من هذه الثلاثية بعنوان «الأم - المؤسسة العامة السينما - سينما سيتي 21 - 30 كانون الأول».
ومع أن الخطيب كتب السيناريو بنفسه هذه المرة، إلا أنه بدا منفلتاً من أسلوب «سينما المؤلف» التيار الذي طغى على معظم نتاج السينما السورية منذ نصف قرن من الآن؛ فالشريط الذي أهداه المخرج لأمه، تجاوز فيه نفسه مبتعداً عن الإغراق في الذاتية نحو تقديم ما يشبه الوثيقة عن حروب داخلية ورطت الجميع في نيرانها، تاركةً فيهم ندباً لا تنسى في الذاكرة الجمعية والشخصية على حدٍ سواء.
الشريط يطل بأناقة على حياة «أم عادل - صباح الجزائري» الأم التي تموت وحيدةً في بيتها القروي؛ من دون أن يتمكن أبناؤها الستة من حضور مراسم دفنها بسبب الظروف الأمنية الصعبة التي تحياها البلاد العام 2013 - زمن الفيلم؛ لنتعرف على الشخصيات من خلال التقلبات السياسية والإنسانية التي أصابت هؤلاء الأبناء والبنات؛ ومحاولات كل منهم الوصول إلى القرية لمواراة والدته في الثرى وإلقاء النظرة الأخيرة على الجثمان المسجى في كنيسته؛ أحداث تذكّرنا برواية «بينما أرقد محتضرة»، (1930) للكاتب الأميركي وليم فوكنر (1897- 1962) والتي تتقاطع في سردها الروائي مع الأبناء الذين يتأخرون في مواراة والدتهم في الثرى بسبب الطوفان الذي يرفع منسوب نهر القرية؛ حائلاً دون حضور مراسم الجنازة؛ بينما يتصدى الفيلم هنا لتدوين آثار الحرب السورية وما خلّفته سنواتها الأربع من انقسامات حادة بين أبناء الأسرة الواحدة.
مفارقة يحيك صاحب «أهل الشمس» خيوط صراعها وفق فهم عميق لوظيفة المونتاج، والخروج نهائياً من اعتبار الفيلم محض بنية بصرية، نحو التعامل مع السينما كفن زمني، لا معطى تشكيلي صوري وحسب. مغامرة فنية خاضها فريق فيلم «الأم» مع مخرج لديه دربة خاصة في إدارة الممثل؛ بعيداً عن المبالغة أو حتى محاولة الاستجداء أمام الكاميرا؛ لنشاهد أداءً خاصاً من كل من سلاف فواخرجي وصباح الجزائري وديمة قندلفت؛ جنباً إلى جنب مع سمير حسين وعامر علي وعلي صطوف ونورا رحال في تناغم واضح مع إيقاع الفيلم الذي ابتعدت فيه موسيقى الفنان سمير كويفاتي عن التعليق على الحدث، كوظيفة نمطية للموسيقى السينمائية، نحو المساهمة فعلياً في بنية الفيلم ومفصلة حبكاته المتتالية من التمهيد إلى المواجهة فالحل، ووفق تحرير استثنائي للمشاهد التي أخذت طابع الحلم وترجيعاته عبر تقنية الخطف خلفاً؛ من دون أن يكون الجمالي على حساب الدرامي.
اللافت في «الأم» أيضاً هو البنية اللونية الموحدة التي أعطت للصورة مجازاتها على الرغم من تعدد أماكن التصوير بين طرطوس وصافيتا ودمشق وريفها؛ وصولاً إلى المشهد الأخير من هذا الشريط المحكم في بنائه حين يمتزج موكب تشييع الأم بموكب تشييع الشهيد الذي وصل متأخراً إلى القرية، بعد تبديل جثمانه بجثمان شهيدٍ آخر من الجيش السوري؛ ما ترك المسافة تكاد تكون معدومة بين موت طبيعي على سرير الشيخوخة وآخر في حروب دامية؛ لتتلاقى الجنازتان في خط تشييع واحد؛ فالموت هنا استطاع صهر الجميع في موكبٍ واحد، من دون أن يكون للمواقف السياسية أي معنى يذكر؛ فالجميع بلا استثناء مدعوون إلى الخروج من حيادهم المزمن إزاء ما يحدث في بلادهم كما يسوق الفيلم، والأم التي استطاعت جمع شمل أبنائها المختلفين سياسياً بموتها؛ يحيلها مخرج الفيلم وكاتبه على أمومة الأرض السورية التي ساهم الجميع في خرابها ودمارها؛ فالفيلم في النهاية يدين الجميع، ليكون «الأم» حفيفاً سينمائياً مموهاً بإتقان عن ضجيج الحرب وقعقعة أسلحتها اللذين ما زالا مستمرين من دون أمل يذكر بموعد التشييع وتفقد أسماء الضحايا والمفقودين في أرشيف الموت؛ وحدها «الأم» تقول في حوار مؤثر في الفيلم: «الأرض يا ابنتي ليست قذرة. إنه بعض الوحل وسيزول».
سامر محمد إسماعيل
assafir.com