تيسير السعدي شاهد على قرن يرحل

14 تشرين الأول 2014

«شيخ كار» الإذاعة والفن...

في محلة قديمة ومهملة في إحدى حارات الشام القديمة، سيقف صبيٌ بكامل إصغائه أمام شيخ «كار التنجيد» راجياً منه إعطاءه أكبر كم ممكن من الدروس لتعلم أسرار المهنة.

لكن شيخ الكار كان يتريث ويقول للصبي «بكّير عليك» وهكذا تمضي الأيام والشهور والسنوات وشيخ الكار على موقفه في طول بال، والصبي على إلحاحه في تسّرع تعلم ووهم امتلاك زمام الكار إلى أن رأى شيخ الكار أن الوقت حان لتبدأ الدروس على طريقة الأسئلة الاختبارية التي يبدع فيها شيخ الكار الواثق ويفشل الصبي المتحمس في الإجابات لكنها تفتح عينه على أسرار جديدة وتكسبه تمرساً في المهنة؛ شيخ الكار ذاك كان تيسير السعدي «أبو ضاهر» «المنجد» في «أيام شامية» مطلع التسعينيات المسلسل السوري ذائع الصيت وواسع المشاهدة الذي أبدع السعدي في أداء دور لا ينسى؛ غاية في الإتقان والبراعة حتى لتظن أنه فعلاً «شيخ كار» هذه المهنة أباً عن جد في صرامة حضور ودماثة خلق وتمام إتقان.

صندوق الذاكرة وخيالات الظل
في زمن الحرب والموت في البلاد يرحل الفنان تيسير السعدي بصمت وهدوء عن عمر ناهز الـ«97» عاماً ويمر خبر رحيله عادياً وقد صار الموت حدثاً يومياً تقليدياً على مدى سنوات الحرب لكنه خبر الرحيل هنا الذي يعيد للذاكرة مسيرة فنان كبير وصل صوته إذاعياً إلى كل السوريين في أجيالهم التي عاشت أزمنة الحب والبساطة والجمال... ويفتح رحيل السعدي صندوق الذاكرة المعتق لاستعراض شريط الإذاعة السورية في بداياتها وفي سنواتها الذهبية وكذلك الشاشة السورية أيام الأبيض والأسود وصولاً للمبكي هذه الأيام حيث تجاوز الواقع بقسوته ودمويته كل خيالات الظل وحكواتية السير والحروب.

طقوس ومزاجات
«شيخ الكار»؛ شخصية أبي ضاهر في «أيام شامية» تأخذنا إلى تيسير السعدي ذاته الفنان الذي ارتبط اسمه وحضوره بإذاعة دمشق وهو من المؤسسين ويرتبط بذاك الزمن ونكهته الخاصة؛ نكهة ذلك الزمن الجميل لجيل الرواد الذي جعل لهذا الإستماع إلى الإذاعة طقوساً يومية رافقت فيها الإذاعة أيام وليالي السوريين في برامج أرست لثقافة الأعمال الفنية القريبة من وجدانات ومزاجات المستمعين وكان لبعض الأعمال الإذاعية شهرة كبير ينتظرها المستمعون بلهفة وترقب.

رصيد وضراوة

في تلك الأيام الخوالي حيث كانت الحياة أكثر عفوية وأقل تعقيداً وأشد قرباً وحميمية والتفاصيل اليومية لحياة الناس العادية؛ وقتها كان «صابر وصبرية» العمل الإذاعي المفضل الذي يأتي بالمقام الأول عند المستمعين ويحتل الصدارة بين تلك الأعمال الأصيلة فكانت «نقارات» الزوجين «صابر وصبرية» ومناكفاتهما وجلساتهما الممتعة حديث الناس وموضع تندرهم واهتمامهم، وطغت شخصيتا «صابر» و«صبرية » على بقية البرامج الإذاعية وكانت تفوق شهرتها حتى الدراما التلفزيونية وكان بطلاها الفنان تيسير السعدي وزوجه الفنانة صبا المحمودي فكانت أحد النماذج الناجحة للفن الشعبي الذي كان السعدي من أشد المتحمسين له منذ بداياته المبكرة فقد بدأ السعدي عشقه للفن منذ كان طالباً في معهد «اللاييك» عام 1935 وكانت تلك أول مرة يقف فيها على المسرح ثم قام بعدة أدوار تمثيلية عام 1936 في أندية دمشق الفنية وسافر إلى مصر ليتابع دراسته ويحصل على دبلوم معهد التمثيل في القاهرة ويتعرف هناك على رجالات فكر وسياسة أثرت في شخصيته كان بينهما إحسان عبد القدوس ونجيب الريحاني وبعد عودته إلى سورية بدأت المرحلة الأهم في حياته الفنية حيث بدأ يخرج ويمثل في إذاعة دمشق الأشبه بخلية نحل على مدار الساعة والمتعة حتى بلغ رصيده الآلاف من التمثيليات الإذاعية إلى جانب القصاص الشعبي حكمت محسن «أبو رشدي» الذي شكل معه ثنائياً ناجحاً حمل لواء الفن الشعبي وشكل مع مجموعة من الفنانين الرواد فرقة فنية للتمثيل والموسيقا حيث كان لكل منهم «كاركتر» خاص به وأبرزهم حكمت محسن «أبو رشدي»- أنور البابا «أم كامل»- فهد كعيكاتي «أبو فهمي»- رفيق سبيعي«أبو صياح» وقدمت الفرقة العديد من الأعمال الإذاعية والتلفزيونية والمسرحية التي ملأت شهرتها الآفاق وأصبحت حديث الناس ويذكر السعدي في أحاديث صحفية كيف أشعلت أعمالهم نقاشات حادة في البرلمان السوري فقد تعرضت أعمالهم للنقد الشديد وهاجمها صلاح الدين البيطار في البرلمان لأن هذه الأعمال على حد تعبير الفنان الراحل- تسيء للغة العربية وتقدم باللهجة المحكية وطالب بإيقافها فوراً غير أن زعيم الحزب الشيوعي آنذاك خالد بكداش تصدى له وانبرى للدفاع عن الأعمال الفنية للفرقة بضراوة وحماس.

بسبعة أصوات

شارك تيسير السعدي في أعمال مسرحية وسينمائية عدة فكانت له تجربة مع الفنانة فاتن حمامة في فيلم «الهانم» وكان له مشاركة في فيلم «الرجل» المأخوذ عن نص للكاتب سعيد حورانية أما في التلفزيون فقد عمل الفنان الراحل مع نجوم الشاشة السورية دريد ونهاد في «صح النوم» و«الدنيا مضحك مبكي» كما شارك في دراما البيئة الشامية من خلال «أيام شامية».

وعلى مدى97 عاماً من حياته قضى جلها في التمثيل والإخراج للإذاعة والتلفزيون والمسرح بقي السعدي مخلصاً لتقاليد المهنة والالتزام بالعمل وروى في حوارات صحفية كيف كان الفنانون يهابونه ويحسبون له ألف حساب عندما يكون في «الكونترول» لتقديم عمل إذاعي لأنه لم يكن يتهاون في أي إهمال فالعمل عنده مقدس وفوق كل الاعتبارات وذكر أنه طرد عدداً من الفنانين لإهمالهم أدوارهم بل عمل بدلاً منهم مستفيداً من ملكته العالية في تقليد الأصوات.

في سنواته الأخيرة اعتكف تيسير السعدي في بيته مهملاً منسياً لتعيده الصحافة السورية إلى الواجهة لتستعين به بعدها احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية«2008» ليقدم حواريات ضمن فعالية «نادي الذاكرة» لتصدر كتاباً عنه للكاتبة ميسون علي حمل عنوان «تيسير السعدي.. ممثل بسبعة أصوات».

تحولات ... ووداع

تيسير السعدي وقد احتفظ بذاكرة لم تشخ يرحل وهو شاهد على قرن فقد عاش الفنون كلها وعمل فيها بكل مراحل تطورها من خيال الظل إلى الفضائيات الرقمية وعاش مراحل تطور الحضارة من «الكانون» إلى «المكيفات» ومن الفانوس إلى الكهرباء ومن الكتابة بقلم القصب إلى «الكمبيوتر» ومن الهواتف التي تُدار يدوياً إلى الهواتف الذكية...

تيسير السعدي الفنان الشامي الأصيل.... وداعاً


الوطن السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق