الأديبة التي تحولت إلى نورس

08 حزيران 2014

.

فجأة- ومن دون سابق إنذار، انقطعت أخبار الصديقة، الأديبة الكبيرة غادة السمان، عني لم نعد نتواصل عبر الهاتف، ولم نعد نتراسل، ولم تعد ترسل لي كتبها الجديدة أو إصدارات دار الطليعة، أو الدار التي تحمل اسمها.. في زيارتي لباريس قبل نحو سنتين ونصف السنة، سألت عنها، فقيل لي: إنها في كندا، وهناك من قال إنها في رحلة طويلة إلى سويسرا.. وهكذا انقطعت أخبار «ليل الغرباء» و«المرافئ القديمة» و«كوابيس بيروت» و«زمن الحب الآخر» و«المواطنة المتلبسة بالقراءة» و«الرغيف الذي ينبض كالقلب» و«الحب من الوريد إلى الوريد» و«البحر الذي يحاكم سمكة» و«التسكع داخل الجرح» و«العاشقة في محبرة».

غادة السمان حريصة على التواصل الدائم مع أصدقائها.. في كل مناسبة، فقد كانت ترسل بطاقة معايدة أو تتصل بالهاتف.. هي عادة لا ترد على من يتصل بها، دفعاً للإزعاج، ولكنها عندما تعلم من المتصل، تعاود الاتصال بكثير من المودة والحب والشوق، وترد على «الفاكس» دائماً باتصال هاتفي طويل، يعبّر عن حبها وشوقها لسورية، وعشقها للشام ولأهل الشام، وتثبت بما لا يقبل الشك مدى رغبتها بمعانقة معالم الحضارة والتاريخ في بلدها العريق.. وتعتذر عن البعد والظروف التي حالت من دون تلبيتها لدعوات كثيرة وجهت لها، ومنذ سنوات عدة.. والذي يعرف غادة السمان عن قريب يدرك أن أسباب اعتذارها واهية وغير مقنعة، فهي تحب أن تكون مشاكسة بفرح، على الرغم من طبيعة التمرد في كتاباتها، ورغبتها الدائمة بتحطيم القيود، والخروج عن المألوف، والمطالبة بتغيير حياتنا نحو الأفضل.

غادة السمان لا تشبه إلا ذاتها.. يقولون إنها حبيسة صورتها عن نفسها، وأنا أعتقد أنها تختبئ من البشاعة التي تحيط بالمجتمع العربي لذلك تقوم بالتمرد على هذه البشاعة الموجودة في مجتمع يفتقر رجاله إلى الحرية.. لذلك كانت وما زالت، تبحث عن فضاءات واسعة تنطلق منها إلى عوالم أكثر اتساعاً، لتكسر الزمن، وتغوص في الماضي، وتطرح أسئلة للمستقبل.. لذلك كانت رائدة في حضورها وإبداعاتها وثراء تجربتها.. قلت لي مرة: «لقد عشت من أجل أن أكتب.. لم أقم بخطوة في حياتي إلا لأكتب.. أنا امرأة رحالة، أمتلك قاموسي الخاص.. لقد كتبت بدمي من الوريد إلى الوريد.. لقد سبحت في الحبر وغصت في اتجاهات مختلفة.. أنا المرأة التي غرّبتها المراكب، وتعلمت كيف أتحول من امرأة إلى نورس.. أسافر وأتنقل وأحلم وأعيش بحزن».

غادة السمان، تعلم جيداً أن جدتها زنوبيا، وأنها ابنة القبيلة، ولكنها ابنة عصرها ومنها... هي مواطنة متلبسة بالكتابة، لا تهرب من مسؤوليتها.. تحتقر الأقنعة والازدواجية، وتعرف أن العرب أدمنوا الهزيمة، وأن الزيف أصبح يلون كل شيء بكآبة باهتة صفراء.. لقد اختارت الطريق الصعب.. الطريق المضاد لشارع الكذب.. يقولون إنها ابتعدت، ولكنها ما زالت تكتب في بعض الأحيان، وتعيد إصدار كتبها وأعمالها التي تعاد طباعتها باستمرار، وتترجم إلى العديد من اللغات، وعندما نسألها لماذا لم نعد نراك في وسائل الإعلام؟! تقول: «أنا كاتبة ولست مطربة أو فنانة، وبالتالي حضوري الجسدي هامشي.. المهم حضور كتبي وأدبي» ونحن بدورنا نردد القول: غادة السمان ظاهرة أدبية فذة، وصلت شهرتها وأعمالها إلى تخوم عالمية، لأنها أرست في أدبنا العربي منهجاً حضارياً، تحررياً، إنسانياً، وصمدت ضد كل المغريات، ولامست الحقيقة في كل ما كتبت وأبدعت، لقد عانقت الكتابة والحياة، وسافرت، ولم تقم بخطوة في حياتها إلا لتكتب، ونِعْمَ ما كتبت وأنجزت وقدمت، لذلك استحقت بجدارة المحبة والتقدير والإعجاب والاحترام.


د. علي القيم

الوطن السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق