نصر الدين البحرة يتحدث عن ظرفاء دمشقيين

24 02

لا شك في أن العرب هم من أقدم الأمم الظريفة الضاحكة، وبرهاننا على ذلك هذا العدد الكبير من الأدباء الظرفاء وفي مقدمتهم سيد البيان العربي الظريف المثقف الجاحط ثم أبو حيان التوحيدي وبديع الزمان الهمذاني والحريري وابن الجوزي، وأولئك الشعراء الظرفاء وفي صدرهم أبو نواس وبشار بن برد وأبو دلامة وابن الحجاج وسواهم الكثير. وها هو ذا الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يقول «روّحوا عن النفوس في الحين بعد الحين، فإن النفوس إذا كلّت عميت»، ومن بعده قال ابن الجوزي «لما كانت النفوس تمل من الجد لم يكن بأس من إطلاقها في مزح ترتاح به». ونقل عن الزهري قوله «هاتوا من أشعاركم هاتوا من طرفكم أفيضوا في بعض ما يخف عليكم وتأنس به طباعكم».
بهذه المقدمة بدأ الأستاذ الأديب والباحث «نصر الدين البحرة» محاضرته التي ألقاها في المركز الثقافي العربي في العدوي والتي تحدث فيها عن ظرفاء دمشق، ثم عرف الظريف بأنه الكيّس الحاذق حسن الهيئة، والظرف هو البراعة والكياسة وذكاء القلب. وذهب بعضهم إلى أن الظريف أمين غير خائن، وينقل الزمخشري في «أساس البلاغة» عن عمر(ر) «إذا كان اللص ظريفاً لم يقطع» أي كيّساً يدرأُ الحد باحتجاجه، وفي «أقرب الموارد» يذهب الشرتوني إلى أن الظرف لا يوصف به إلا الفتيان الأزوال والفتيات الزولات لا الشيوخ ولا السادة، والزول كما يعرفه الشرتوني نفسه هو الخفيف الظريف الفطن، وهو أيضاً الشجاع والجواد ثم يستطرد قائلاً «إن الظريف هو البليغ جيد الكلام والكلام أكثر من أن يكذب ظريف»، أي إن الظريف لا تضيف عليه معاني الكلام فيكفّ ويعرض ولا يكذب، وأورد عن ابن الجوزي في وصف الظرف صباحة الوجه ورشاقة القد ونظافة الجسم والثوب وبلاغة اللسان وعذوبة المنطق وطيب الرائحة وخفة الحركة وقوة الذهن وملاحة الفكاهة والمزاح. وفي حديثه عن أناقة الظرفاء يقول ابن الجوزي «كان خلف بن عمرو العكبري من كبار العلماء له ثلاثون خاتماً وثلاثون عكازاً، يلبس كل يوم من الشهر خاتماً ويحمل عكازاً فإذا نفد الشهر استأنف الأول».
ظرفاء دمشق في القرن العشرين
يذكر البحرة أن القرن العشرين المنصرم عرف عدداً من الظرفاء الدمشقيين قل أن يوجد مثلهم في أي مجتمع آخر، ولا يمكن أن يدور مثل هذا الحديث دون أن نتذكر ما قاله الكاتب الراحل عبد الغني العطري في كتابه «دفاع عن الضحك» عن أهل دمشق، فهم يعشقون النكتة ويلتفون حول من يتقنها يولمون له الولائم السخية ويحيون السهرات والليالي الملاح، ويجمعون الأهل والخلان للإصغاء إلى طرائفه ونوادره التي تبدأ عادة في المساء ولا تنتهي حتى منتصف الليل. ومن رجالات دمشق الذين كانوا يهتمون بالظرف والظرافة «فخري البارودي» حيث كان في طليعتهم، وكانت داره القديمة في حي القنوات ملتقى رجال السياسة والأدب والثقافة والفن يجتمعون فيها يطربون ويسمرون ويصغون إلى النوادر والفكاهات والقصص الضاحكة. وكان للبارودي صفي نديم هو توأم روحه حسني تللو، ولم تكن جلسة لتخلو من هذا الظريف أبي عدنان.
ثم تحدث البحرة عن ضيوف البارودي ومن بينهم الشاعر خليل مردم بك، وذكر قصصاً كثيرة تشير إلى البارودي بالنكتة وأصحابها، ومن بين الذين عاصروا البارودي اثنان لا يزال بعضهم في هذه المدينة يتناقلون أخبارهما ونوادرهما ونكاتهما، وهما مصطفى سويد «أبو درويش» وأبو سليمان الجيرودي، وقد تحدث عنهما الأستاذ عبد الغني العطري في كتابه «دفاع عن الضحك» فقدم الأول أبا درويش على أنه نديم رجال السياسة والوطنية والشخصيات العامة والتجارية، وكانت نوادره تتوالى الواحدة تلو الأخرى، كما كان أسلوبه في الرواية شائقاً ومثيراً للضحك والبهجة، وكانت تربطه صداقة بالأستاذ حبيب كحالة -صاحب مجلة «المضحك والمبكي» التي كانت تصدر في دمشق منذ ثلاثينات القرن العشرين- واتخذ الأستاذ كحالة من شخصيته ابن الشعب فكان ينشر صوره الهزلية الملونة على غلاف مجلته بأشكال ومواقف شتى وتحتها التعليقات الساخرة على السياسات المحلية والعربية والدولية.
من الرجالات الدمشقية التي ذكرها البحرة سعيد الجزائري وأشار إلى أنه كان صحفياً ممتازاً، وقد استهل حياته ممثلاً، وعاصر كثيرين من رجال السياسة والأدب والفن، وكانت تربطه صداقة ببعضهم، وكان بعضهم الآخر يتحاشاه خوفاً من لسانه ومنهم سعد الله الجابري الذي تقلب في مناصب سياسية متعددة: رئيس الوزراء، ورئيس المجلس النيابي وغيرها.
ومن الرجالات الدمشقية التي ذكرها أيضاً «نجاة قصاب حسن» وقال عنه إنه كان محامياً ورساماً وخطاطاً وموسيقياً عالماً بالموسيقا وعازفاً على العود وكان يكتب الشعر والزجل ويؤلف الأعمال المسرحية ويتقن اللغة الفرنسية ربما أفضل من بعض أهلها، إضافة إلى إتقانه العربية، وكان ظريفاً لا يشق له غبار ومن سادة النكتة والنادرة، ولهذا وشّى كتابه «حديث دمشقي» بكثير من النكات ينثرها بين الفصل والآخر.
ومن الظرفاء الدمشقيين أيضاً ذكر «غسان الألشي» إذ أورد عن الأستاذ عبد الغني العطري يصف الألشي بأنه «يتمتع بذكاء وقاد وبديهة حاضرة وجواب لاذع لصد كل هجوم ساخر أو تحد بنادرة أو طرفة». ومثّل على سرعة بديهته في الجواب بأنه سأله يوماً أحدهم في مطعم «لاتيرنا» «هل صحيح أن والدك المرحوم جميل الألشي كان رئيس وزراء بالوكالة؟» فأجاب على الفور «لا.. فقد كان مياوماً» بعد أن ذكر البحرة أن والد غسان جميل الألشي كان رئيس الوزراء أيام الانتداب الفرنسي، وأضاف أن غسان كان من أصحاب العقيد الشيشكلي حيث كان الأخير يدعوه إلى مجلسه في نادي الضباط القديم على طريق الصالحية كل ليلة فتدور بينهما مسامرات ومحاورات لم تكن تخلو من بعض الهمز واللمز. وأورد البحرة في محاضرته نقلاً عن الأستاذ عبد الغني العطري في كتابه «دفاع عن الضحك» أن الأستاذ «رجا الشربجي» هو سليل أسرة الظرف والنكتة وخفة الروح، فقد كان والده من عشاق النكتة ورواتها ولذا فإنه يقول إن النكتة عاشت معه ورافقته منذ نعومة أظفاره وكان «زهرة المجالس وكوكب السهرات والحفلات، تربطه بكبار الفنانين وعدد من رجال من رجال السياسة روابط صداقة ومودة». ومن الظرفاء الذين عاشوا في دمشق وعرفوا بها ولم يكونوا منها الأستاذ «أحمد الجندي» الذي قضى معظم سنواته فيها ورافق أحداثها وسامر ظرفاءها، وهو الشاعر والباحث والموسيقي، ومن مواليد «السلمية» فهو كما يصفه الأستاذ العطري آية في الظرف وحضور البديهة والجواب اللاذع.
أيضاً من الظرفاء الدمشقيين الذين ذكرهم البحرة «حبيب كحالة»، وقال عنه إن نكاته وطرائفه وخفة ظله كانت تظهر في مجلته التي ظل يصدرها منذ الثلاثينات حتى عام 1965 باسم «المضحك المبكي»، وكانت مجلته هذه «تنتقد الحكومات وتهاجمها بعنف وسخرية مرّة أيام الانتداب الفرنسي بدءاً من رئيس الدولة أو الجمهورية مروراً برئيس الوزراء وكبار موظفي الدولة ولاسيما في عهد المرحوم الشيخ تاج الدين الحسني»، وذكر أن للأستاذ الباحث «عادل أبو شنب» كتاباً صدر عام 2001 بعنوان «شوام ظرفاء» جمع فيه نوادر أو نكات أبطالها من مختلف المحافظات السورية، من حمص وحماة والرقة وحلب واللاذقية وغيرها، وبين هذه الفصول واحد يتحدث عن الشاعر الظريف حموي الأصل «محمد الحريري» الذي أقام وأسرته في دمشق منذ أربعينات القرن العشرين.
ختم البحرة محاضرته بالإشارة إلى الظريف الدمشقي «ضياء الحكيم» الذي كان من رواد مقهى البرازيل وكان خياط قمصان بارعاً ومن المشاركين البارزين في قفشات المقهى ونوادره. وفي نهاية المحاضرة شارك بعض الحضور بذكر بعض النكات والنوادر التي حصلت في السابق بينهم وبين بعض رجالات دمشق المعروفين بالظرافة والنكتة ضمن مداخلات قصيرة. وكان جو المحاضرة ممتعاً جداً يتسم بالانسجام والتفاعل بين الأستاذ البحرة الذي كان لطيفاً خفيف الظل والجمهور الذي لم تغب عنه الضحكة طيلة المحاضرة بخاصة عندما كان يروي البحرة حادثة أو طرفة حصلت مع أولئك الظرفاء الذين ذكرهم وتحدث عنهم.


تشرين

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

مختارmo:

معلومات جيدة تشكر عليها.. أنا أبحث عن تاريخ و أصل جميل الإلشي و شجرة عائلة الإلشي أرجو الإفاده مشكورين

UAE

samer alalshe:

نشكرك على كل هذه المعلومات ولكنني أبحث عن شجرة عائلة الألشي وكل عائلة الألشي أرجو منكم مساعدتي ولكم جزيل الشكر للتواصل معي على البريد الإلكتروني ودمتم.

syria