«الروح الثامنة» رواية لـِ ديمة داوودي.. ترصد شروخ الروح العاشقة

17 تشرين الثاني 2013

.

وجدتني أمام الروح الثامنة دون مقدمات لكاتبتها ديمة داوودي، فسألت نفسي عن هذه الروح الثامنة وماهيتها، إذ عجز العنوان الرديف، ما بعد موت ما قبل حياة، الذي اختارته الكاتبة عن الإيحاء وإعطاء فكرة، وربما عمدت قصداً إلى هذا الابتعاد عن المحتوى في العنوان، وكان لا بد من قراءة متأنية في الرواية أمام كلمات بعثرتها ريشة مأزومة تهزها الأزمة التي تعصف بسورية ودمشق تحديداً، وخاصة أن الأزمة صارت مجالاً واسعاً اليوم للإبداع السوري والعربي، ومقاربة الأزمة شكلت لدى كثيرين مصدر إلهام، وكأن الإبداع كان ينتظر مثل هذه الأزمة ليقول شيئاً ما.

ثنائيات مرسومة
تعتمد الحبكة الروائية في العمل على ثنائيات، فندى وعلاقاتها الثنائية مع قصي ونيار، كلاهما مقرب من زاوية للروح، يتخللها الحب والحمل والإجهاض من الأول، والحب غير معروف الخاتمة من الثاني، تكره أحدهما وتحب ذكرياته، تود أن تكون للثاني لكن ليس بإمكانها أن تتخلص من بارفان الأول الذي يكرج في خزانة الملابس، وليس في مكان آخر. الأول يرحل ويبتعد، وتتجنبه ندى، والثاني يغيب ولا تحب استدعاءه، وكلما ألحت في استدعائه حضر الأول بشكل ما قد يكون لرغبة الوداع الأخير. وهذه الثنائية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بثنائية الأزمة المعارضة والحكومة، وما يقع للمواطن وندى تمثله من تناقضات عديدة، وكما المواطن كذلك ندى، وأكاد أزعم ديمة لا تدري الموقف الذي عليها أن تتخذه، وهي تعبر عن هذا القلق بمهارة «لم أكن المغتصبة أمام كيانك الكبير، لطالما كان الغاصب أقل شأناً من المغتصب، لطالما كانت القضية، قضية لا حياة لها إلا باستمرار عشاقها كالحرية تماماً، كحق العيش، لا حق مكتسباً بيننا إلا رجولتك التي تمارسها عليّ! هي العادة، هو الإدمان، أدمنتك، أدمنت أذاك، ولهيب احتراقاتي أمامك عليَّ!».

فالرواية معقودة على وطن وصراعين وندى وحبيبين، وربما اختارت ديمة هذه الثنائية لتكون أكثر قدرة على صناعة عالم متناقض قائم على الاغتصاب والتبعية، وما من عبث أظهرت أن المغتصَب أعلى من المغتصِب!
الرؤية السياسية لم تكن ندى مسيسة، وندى تقترب من المؤلفة في كثير من التفاصيل، وأظن أن غياب التسييس، أسهم إسهاماً كبيراً في دخول الإقناع مرحلة متقدمة نوعاً ما، فالتسييس غالباً ما يأخذ النص الإبداعي إلى زاوية افتراضية مفروضة قد لا يرغب فيها الكاتب، وقد لا يجوز للأدب أن يسكنها وسط تجاذبات لا مصلحة للنص الأدبي الإبداعي أن يكون طرفاً فيها مهما كان هذا الطرف يملك الحقيقة، فثمة فرق بين النص والموقف السياسي المؤدلج.

والحقيقة أن الرواية عانت في مفاصل كثيرة غياب الرؤية السياسية، فغياب التسييس أمر مطلوب ومرغوب أما غياب الرؤية السياسية يجعل المعالجة فيها الكثير من القصور، وهذا ما أدركته الكاتبة، فدخلت على الخط الحكائي بشخصها الكاتب لتوصّف ندى: «لم تكن لندى رؤية مسبقة، وليس لديها أي وعي سياسي، طالما كتبت شعراً ونثراً، وعاشت الحب والألم، من رأسها حتى أخمص قدميها، ليس من السهل لها الآن أن تتبنى موقفاً ما، لمجرد أن عليها أن تقول شيئاً، كانت كلمتها الوحيدة "لا للدم" فيعتبرون جوابها تهرباً، لكنها كانت تتوجع حقاً». وفي مكان آخر من الرواية تحزن المؤلفة على أزقة دمشق ومقاهيها ونواديها، وكأن الجزء الأكبر من الحزن والوجع لافتقاد تلك الحياة الحميمة في دمشق، ومن حق المرء أن يحزن من أجل حياة يريدها أن تكون، وقد أجادت المؤلفة في ربطها بين الحب والوطن، الحياة الفردية ومن ثم الحياة الجمعية للناس، فما إن بدأت حكايتها برحلة بعد انتهاء علاقة حبها المخفقة حتى تعود لترتمي في أحضان الوطن وما يعانيه، فمن مأساة الحب والدعم وعدم الرغبة في الحياة الجديدة، إلى حياة الوطن المضمخة بالألم والدم والأشلاء عبر صور فيها الكثير من التأثير، ويعيبها تلك المباشرة في متابعة الحالة التي تحتاج منا إلى كم من الرمز والمداراة حتى لا يتحول النص إلى عملية توثيقية لحكاية لا تزال فصولها الأولى في طور الكتابة.

تنظير امرأة
أحب في ظل وجود نوع من الحرية الحياتية من الأدب الصادر عن الرجل أن يبتعد عن تحميل أوزاره للمرأة، وكذلك للأدب النسوي الصادر عن كاتبات، فالحياة الاجتماعية أوسع من مجرد رجل وامرأة، وكذلك فإن الظروف الاجتماعية قد تتحكم في كليهما، وفي نوازعهما، وفي مسار كل منهما، ومع ذلك أجد كاتباً يصور المرأة مصدراً للشرور في عالمنا وكأنه مصنوع من مادة تامة النقاء! وكذلك في الأدب النسائي يحمل الرجل وزر كل ما يحدث في الحياة، وكأنه قادر فعلاً على التغيير، بينما الحقيقة غير ذلك تماماً، وديمة حاولت قدر الإمكان التخلص من هذا الجانب، وذلك اعتماداً على الإثنية التي اختارتها في عشق وعشق رديف، في أزمة سلطة ومعارضة، ولكنها عندما كانت تضع فرشاً لفصول رواياتها، وتحديداً في المقاطع الوصفية الممهدة للحدث كانت تنجرف في عدد من الجمل لا أكثر في التنظير في قضايا المرأة التي اختارتها عاشقة مهمومة وصحفية وكاتبة وقتيلة أو شهيدة في خاتمة العمل، وأزعم أن هذه المقاطع يمكن الاستغناء عنها، وخاصة أنها لا تؤدي دوراً في الحدث.

«زوجها الذي يجهل شامات كتفيها وربما يخلط بين لون عينيها ويباس الغابات، لم يملك مفاتيح المرأة ولا الحب، لطالما أغرتها الأجساد العارية.. على حين لم تستطع ندى إلا أن تكون عاهرة السرير الزوجي لترضيه، هو الذي يصير حائطاً حالماً ينطفئ لهيب شهوته إبا لشرقية الرجال وثقافة النساء..».

هل هناك من داع لنداء التعجب هذا؟ ألم يكن كافياً ذلك المقطع المعبر عن أن تدلف إلى تنظير..؟!

«ثارت شرقية الأنثى داخلي» وهل هناك ثورة لامرأة شرقية وأخرى غير شرقية؟

«كم من الناس يعيش بوجهين وربما أكثر مخادعاً نفسه بنفسه، فخزانة الأقنعة باتت لا تنفد في أيامنا، وفيها الجديد والملائم دوماً على أوسع نطاق» أسأل: ماذا تضيف هذه الحكمة الجميلة بمفردها إلى حدث روائي مسلسل بطريقة سلسة؟

«دارت الغرفة بها، شعرت باحتقار لكل مقاييس الذكورة، تحولت مفردة رجل إلى كلمة ذكر بخط أحمر عريض، شعرت أنها تشبه دمية السيلكون، أو عاهرة ما..» وهذه عبارة أخرى تنسرب إلى الرواية تحت ضغط اللحظة، لحظة الحياة أو لحظة الكتابة، وأظن أن مكانة الكلمة عند كاتبها هي التي جعلت هذه العبارات باقية في الرواية، وهي ليست من رؤيتها بقدر ما هي إرضاء للأنثى القابعة في داخلها أو التي تخاطبها، وإلا فبماذا أفسر خطابها للرجل الحالي أو القادم «طفلي ورجلي.. هات يدك والتقطني من السماء قبل أن أسقط أو أتابع المسير عالياً بين الغيوم فأضيع في الطريق! التقطني قبل أن تنفد قدرتي على الطيران.. على الشوق.. على الانتظار.. على حبك للمرة الألف بعد الألف! فإني أحبك وليذهب أشباه الرجال جميعاً إلى محرقة الذاكرة..»؟

لأنها تحبه، ولأنه كيوبيدها تستله من الرجال، وترسل ما تبقى إلى الجحيم!

وبين هذا وذاك تدلف الكاتبة بلغة شاعرية هامسة مؤثرة: «آه يا وجعي الأسمر، يا وجعي المصلوب بعينيك! ليتني ما أتيت، وما أهرقت دمي ولا سكبته عليك من كفيك إلى قدميك، لأغسلك من آلامك، ليتني عرفت أني من بياض قلبك وخوائك أخيط أكفاني.. لا ذنب لي بجرحك المفتوح، لا ذنب لي أني كلما اقتربت منك كسرتني لأقترب أكثر وألتحم بجراحك أكثر، لا ذنب لي أن جنازتي يوم أعلنت حبك سبقتني إليك، زفتني إليك بكفن أبيض بارد صامت كقلبك.. خاو إلا من جرح وذكريات وكثير من الأمنيات».

كذلك تعرج الروح لتصبح روحاً ثامنة هائمة في عوالم من العشق والانعتاق.

رواية «الروح الثامنة- ما بعد موت ما قبل حياة» لديمة داوودي رواية ترصد شروخ الروح العاشقة، وتلوب المكان «دمشق» بحثاً عنها في ظل أزمة تعصف بسورية فتغير من المعالم، وتدفع الكاتبة في لحظة من زمن إلى أن تحيا وتتحسر، تتألم وتتذكر، وها هي دمشق التي جادت عليها بكثير من المقاطع تشاركها تشظي الروح في مؤسسة أخفقت وعشقين متلازمين متزامنين، وكأن ما يجري للإنسان صورة لما يحدث في الواقع السياسي القائم على الكره والقتل والافتتان والفتنة.

جعلت الكاتبة قصة ندى إطاراً جميلاً وعذباً لأحداث مؤسفة ومؤلمة وشارخة، فأتعبها البحث ولجأت إلى الروح، واختارت منها الثامنة، فهل وصلت إلى ما تريد؟ أظن هذه الرواية مع ما رأيته من ملاحظات كانت معبرة عن وجع شريحة مهمة في المجتمع، وتنقل صورة عما يجري، تغلفها الحيرة، ويقتلها الشك، ويلونها تلك الرؤية العائمة التي لم تقدر أن تكون أحد اللونين، ولم تنحز إلى رمادية تلزم النص الأدبي الإبداعي.


اكتشف سورية

الوطن السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق