ابن حبيب مؤرخ محاسن الشام.. على أرصفة دمشق عشق التاريخ

17 تشرين الثاني 2013

.

ولد في الشام ونسب إلى سواها، رأى النور في دمشق سنة 710 هـ و1310 م واستقر في حلب، فكان شامياً حلبياً في الوقت نفسه، ونسبته الكتب إلى حلب، فعرف ببدر الدين الحلبي، ولقب بابن حبيب، على أرصفة دمشق عشق التاريخ، فكان مؤخراً شهد له، وبرع في الكتابة، فعرف بين الكتاب المترسلين، انتقل إلى حلب مبكراً لأن والده عُيّن محتسباً في مدينة حلب، فانتقلت أسرته معه، وطالت إقامة الوالد هناك، فنسب إلى مدينة حلب.

كان من الأدباء الذين يعتنون بالرحلة لطلب العلم والحج، عندما كان طالب العلم لا يقف عند حدود معينة، فيشد السير بحثاً عن علم خالص، ويتبع العالم الثقة أينما كان، فارتحل ابن حبيب إلى مصر وأقام مدة، وله رحلة إلى الديار المقدسة في الحجاز، ولم يترك مكاناً في بلاد الشام لم يزره، إلى أن استقر نهائياً في حلب ليمضي ما تبقى من حياته، وذكرت له كتب الأدب، ومنها كتاب المقرّي «نفح الطيب» وكتاب بعنوان «شنف السامع بوصف الجامع» والعنوان وتسجيعه دلالة واضحة على عصر ابن حبيب وثقافته، وقد أكثر ابن حبيب من الشعر في دمشق ومحاسنها وجامعها، إذ كان مفتوناً بجامعها وحسنه وأبوابه، وقد حوى كتابه «شنف السامع بوصف الجامع» جلَّ شعره في الشام وجامعها وما اتصفت به من صفات لم تكن لسواها.

وشعر ابن حبيب من الشعر السلس العذب السهل، ومعانيه عميقة، ومن عجب ألا ينال هؤلاء الشعراء الذين عرفوا بانتمائهم الشديد حظوة في مناهجنا ونقدنا، وهم الذين أخلصوا الحياة في أوطانهم ومن أجلها، فالشاعر لم يترك حسناً لم يقف عنده محباً ومتغزلاً، وعندما قرأت أشعاراً له في «البرق المتألق» لابن الراعي الذي حققه الصديق محمد أديب الجادر وجدت عذوبة تستحق القراءة، وعدت إلى «نفح الطيب» لأجد فسحة لهذا الشاعر المحب ابن الحبيب، وفي الكتاب المهم «الديوان الدمشقي» للصديق المحقق الراحل نجد قصائد عديدة لابن حبيب خصّ بها دمشق وجامعها ومرابعها، فازداد العجب من إهمالنا لأدباءنا وشعرائنا الذين بلغوا مرحلة من الإجادة والتعلق والوجد لم يصلها من نال الحظوة والشهرة! فأنت عند شعر ابن حبيب أمام وصف يجتلي المحاسن، ويذكر مرابع الطفولة، ويقدس ما يستحق التقديس من مدينة ووطن، فماذا عن هذا الشاعر؟ وماذا عن أشعاره التي أخلص فيها لموطنه ومدينته دمشق؟! وماذا عن شعراء وأدباء آخرين صاغوا في الوطن ذوب أحاسيسهم وقوافيهم؟!

ألا يحسن بنا أن نعود إلى هؤلاء الذين تعلقوا بالأوطان سواء عاشوا فيها أم اغتربوا عنها؟!

ألا يعطينا هذا الأدب فكرة عن تمازجنا، وبأن الحلبي شآمي، والشآمي لاذقي، والحمصي حموي، والحوراني دمشقي؟!

ألا يعنينا هذا على فهم النسب الذي يربطنا ويجمعنا ولا يفرقنا كما نتوهم، أو كما تسرّب إلى أوهامنا؟!
نسب ابن حبيب إلى حلب، فكانت دمشق شامة حلب والحلبي، ومجالسها ومحاسنها، وجامعها الشيء الذي يتغنى به، ويحفظه له أهل حلب قبل أن يحفظه أهل دمشق!
لله ما أحلى محاسن جلق
وجهاتها اللاتي تروق وتعذب
ولكم طربت على السماع بذكرها
يا صاح كم كنا نخوض ونلعب؟!

فدمشق كلها حسن عند الشاعر، وكل مرابعها رائقة وعذبة، وها هو يطرب على سماع اسمها وذكرها على البعد، والسماع هنا دليل على البعد، ويبلغ الأمر قمته عندما يتحسر الشاعر على ذكرياته ولعبه في الشام وهو يتحدث إلى صاحب حقيقي أو متخيل.

ويبلغ عشقه مداه في الحديث عن جامع بني أمية، أو جامع دمشق، فيستغرب أن يرغب إنسان عنه بعد أن عرفه، وكأن الجامع في روحه من المساجد التي تشهد إليها الرحال! ولعل ولع الشاعر بالأدب والعلم كان وراء هذا الحب، والأموي عرف ركناً من أركان العلم، ومنارة يقصدها شداة العلم:
يا راغباً في غير جامع جلق
هل يستوي الممنوع والممنوح؟
اقصر عناك وفي غلوك لا تزد
إن الزيادة بابها مفتوح!

وإشارته إلى باب الزيادة، أحد أبواب دمشق دليل على تعدد الأبواب والمناهل والغايات، وهذه الصفات لجامع دمشق هي التي دفعت الشاعر ليطنب في ذكره ووصفه في «شنف السامع بوصف الجامع» فهل شهدنا راحلاً مقيماً هكذا؟

بجامع جلق ربّ الزعامه
أقم تلق العناية والكرامه
ويمّم نحوه في كل وقت
وصلّ به تصل دار الإقامه
مصلىً فيه للرحمن ذكر
ومثوى للقبول به علامه
محلّ كمّل الباري حُلاه
وبيت أبدع الباني نظامه
دمشق لم تزل للشام وجهاً
ومسجدها لوجه الشام شامه
وبين معابد الآفاق طرا
له أمر الإمارة والإمامه
أدام الله بهجته وأبقى
محاسنه إلى يوم القيامه

فالأموي عنده ليس مسجداً وحسب، والشام عنده قبل ولادة الأحزاب بقرون من الشمال إلى الجنوب، وذلك في تحديده أن دمشق شامة الشام، ومن دمشق الشامة مسجدها، الذي يرجو الشاعر أن تبقى محاسنه وأن يزيد تألقه، وأن تستمر إمارته وزعامته ما دامت الحياة.

ويخلّد الشاعر أجزاء الجامع، فكما يقف عند باب الزيادة، كذلك يفعل مع المآذن عندما يصف تعلقه بهذا المسجد:

معبد الشام يجمع الناس طراً
وإليه شوقاً تميل النفوس
كيف لا يجمع الورى وهو بيت
فيه تجلى على الدوام العروس

والعروس في البيت هي مئذنة الجامع الأموي الشمالية المعروفة بهذا الاسم إلى اليوم، ولا تزال تحتفظ ببهائها وجمالها، وتجلى كل صباح عندما تغسلها أشعة الشمس المنسربة في أصوات مؤذنيها.

ومعالم الشام كلها ذات مكانة عند ابن حبيب، ويذكر الأستاذ المصري جامع يلبغا في دمشق، ويذكر ما قيل فيه، ويذكر أن ابن حبيب هو أول من مدح هذا الجامع في شعره:

يمّم دمشق ومل إلى غربيّها
والمح محاسن حسن جامع يلبغا
من قال من حسد رأيت نظيره
بين الجوامع في البلاد فقد لغا

واللغو هنا لم يتركه ابن حبيب مطلقاً، بل قيده بأن اللاغي والمدّعي أن في البلاد ما يشبه هذا الجامع وحسنه، فإنه ينطلق من حسد وليس من حقيقة، وهو يتحدث عن النظير، ولا يتحدث عن الأجمل والأكثر إتقاناً.

وابن حبيب لا يقف عند الجوامع وحدها، وفي قصيدة يتحدث عن الشام وأهلها ونزلائها، ذكرها ابن الراعي في «البرق المتأل» وأخذها «الديوان الدمشقي» نجد بعض المعلومات المتناقلة عن الشام وقداستها، ومكانتها لما مرّ في تاريخها من أنبياء وصالحين وأئمة، ولما فيها من مشاهد ومواقع مهمة للغاية:

عرّج إذا ما شمت برق الشآم
وحيّ أهل الحي واقرا السلام
وانزل بإقليم جزيل الحيا
بارك فيه الله رب الأنام
العز والنصر لديه وما
لعروة الإسلام عنه انفصام
من أولياء الله كم قد حوى
ركناً بمرآه يطيب المقام
وهو مقر الأنبيا الأول
الأصفياء الأتقياء الكرام
كم من شهيد في حماه وكم
من عالم فردٍ وكم من إمام

فلأهل دمشق الكرام الذين بارك المولى بأرضهم سلام الشاعر، ولأرضها التي حوت الأولياء، وكانت مقرّ الأنبياء، وكانت مستقر العلماء المتفردين والأئمة كذلك الحفظ والبركة من المولى.

هل يكفي أن نحب أوطاننا؟
هل بعد هذا الحب حب؟

ها نحن بعد سبعة قرون نقف أمام ابن حبيب الذي خلّد دمشق، وجال الشام بمعناها الكبير، وتعلق بدمشق شامة الشام! ماذا ترك ابن حبيب سوى الحب لشعره وشخصه ومدينته؟! إنه كبرياء الشعر وكبرياء الانتماء يجتمعان في شخص واحد، انزرع في تربة الوطن، ولا يزال يتسلل من باب الزيادة إلى حلقات العلم، وينحني ليرقب عروس المآذن مئذنة العروس، بقي بشعره، وغادر أولئك الذين عبثوا بالأموي، فلم يبق منه سوى أركانه الأربعة، وشتان بين الذكرى والذكرى.. هذا الشاعر ما كنا لنقف عنده لولا إخلاص المحبين الذين حققوا شعره وجمعوه، إنهم يستحقون الشكر، محمد أديب الجادر محقق البرق المتألق، ومحمد المصري بروحه الباقية في الديوان الدمشقي الباقي هديته لدمشق ودليله على حبها والانتماء إليها.


إسماعيل مروة

الوطن السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق