سليمان العيسى و«كتاب اللواء» حتى لا ننسى الجذور!

04 تشرين الثاني 2013

استقبل الدنيا في اللواء وأغفى على توثيق لوائه ولواعجه

الانتماء إلى الأرض التي خرج منها أحدنا ميزة تلتصق به، فتراه دوماً يحن إلى مرابع الولادة والطفولة، ويسعى جهده وحياته ليلتصق أكثر بأرضه التي تشكل هويته، ومهما اغترب وابتعد تجده أبداً يعود إلى مرابع الولادة والطفولة، فكيف إن كان هذا قد غادر أرضه مكرهاً.

وقد عاث المحتل بتراثه ولغته، وصار طريداً بعيداً لا تغنيه الدنيا عن العودة إلى تلك الأماكن التي تختزن شخصيته وحاضره ومستقبله؟ وكيف إن كان هذا المبعد شاعراً حساساً، يمتلك من رهافة الحس ما يمتلك، ويعرف من أساليب التعبير والتشبث ما يملك؟ وكيف أخيراً إن كان هذا الشاعر شاعر قضية، وشاعر حلم، وشاعر مقاومة، وشاعر عروبة؟!! سليمان العيسى الراحل والشاعر الكبير، عرف تراب اللواء، فعليه نزل ودرج، ودروب اللواء في النعيرية حضنت خطواته الأولى، وهواء اللواء حمل أنفاسه الأولى وهو يردد أشعاراً حفظها، وأخرى كتبها.

العيسى لوائي مختلف، فقد ولد في اللواء، وشهد بعينيه سلخه، وراقب بهما قوافل الخارجين، وعرف ألوان القهر الوطني والإنساني، وصنع من طفولته الانتماء العروبي، وها هو يشهد تتريك اللواء، وليس ذلك وحسب، بل سلخه من أمه العروبة، ومن رحمه سورية، حمل اللواء في روحه وارتحل فإلى الساحل السوري وحلب ودمشق والعراق واليمن ودمشق، حمل اللواء في روحه وعقله، وكان رفيقه في كل مكان، فكانت النعيرية ومياهها وخضرتها رفيقة عمره، وكانت طفولته طريقه إلى الطفل العربي في كل مكان من اليمن إلى المغرب، وافتتان العيسى بالطبيعة جعله يخص اللواء بأكثر من كتاب، وإن لم يكن الكتاب يحمل اسم اللواء، فالنعيرية لواء، وضيعته لواء، وأصدقاؤه لواء، وأهله الذين بقوا هناك لواء، ما أزكى شعلة القتال الروحي لديه، وجعله أكثر تمسكاً بالعروبة الحلم، فالقومية عنده تجابه قومية أخرى، والاحتلال قومية قبل أن يكون احتلالاً، لذا عاشت العروبة حلمه، لأنها الوحيد الكفيل بإعادة حلمه وطفولته وضيعته ولوائه إليه.

غادر العيسى أرضنا وهو يحلم باللواء، وسعى لأن يعود لوائياً، لكن الأمور لم تسر كما أراد، فتواصل مع أهله وأحبابه، وعاش حلم النعيرية، لكن الحلم بقي حلماً ولم يتحول إلى حقيقة، وحين أغمض العيسى عينيه الإغماضة الأخيرة قاوم كثيراً، وبقي على سريره أكثر من عام، يعجز عن البوح، لكن عينيه مصوبتان إلى اللواء! كان متحفزاً للنهوض والعودة، وحين أتعبه الانتظار ترك لواءه في صفحات وذاكرة، ورحل حالماً بأن يعود ذات يوم لغة وقافية وقومية ورمزاً ونشيداً! عاد العيسى ولم يعد!

دفع العيسى بيدي رفيقة دربه ملكة أبيض كتابه الأخير إعداداً «كتاب اللواء- لواء اسكندرون بلدي الصغير» ورقد في المشفى بانتظار أن يعود اللواء أرضاً أو كتاباً، وليس غريباً على الملهم خاصة عندما تحوطه رعاية رفيقة الدرب أن يبدأ بضيعته وينتهي بضيعته، وبعد رحيله يصدر كتابه «اللواء» لتشكل عودة رمزية للروح إلى الجذور، فباللواء بدأ وبه انتهى! إنها بشارة المبدع، هاجس الإنسان الذي لا يبرحه ولا يغادره مهما امتدت به السنون، قارب القرن من الانتظار، لكن العمر أقصر من القرن، انتهى العمر، ولم يمت الحلم الذي راوده.

«وأدوا لواءنا الأخضر، ووأدوا معه طفولتنا الفقيرة العنيدة التي لم تهادن ولم تنهزم. نعم يا رفيق العذاب! أطفال اللواء الأخضر لم يعرفوا في يوم من الأيام وما أظنهم يعرفون إلا وطناً عربياً واحداً، وهماً عربياً واحداً... ومصيراً- كيفما كان المصير- واحداً. ولقد كنا ندرك منذ الخطوة الأولى، منذ الغربة الأولى، أن الطريق طويل، طويل... وأننا جيل منذور للألم... مولود للعذاب...
ذلك كان قدرنا
وإنا بقدرنا قانعون»

هذا ما قاله سليمان العيسى على ضريح صديقه مسعود الغانم، وفي هذا النص ندرك ما يؤلم الشاعر، ذلك الإحساس الصادق بأن الأمور ليست كما يتوهم الحالمون، والآملون، بل هي طويلة جداً جداً!

تقدم الدكتورة ملكة أبيض رفيقة درب العيسى للكتاب فتأخذ نتفاً من ذاكرته، وتسرد علاقته الاستعادية مع اللواء، والمحاولات العديدة التي حاولت تكريمه وربطه باللواء، وخاصة تكريمه من اتحادي الكتاب في سورية وأنطاكية بمساعٍ من الدكتور علي عقله عرسان رئيس الاتحاد آنذاك، وبالاتفاق مع محبيه وأهله في اللواء السليب لتدلف بعد هذه المقدمة إلى ما قاله العيسى في اللواء شعراً ونثراً، ومن عتاب في منتصف الليل التي اختارتها مقدمة للكتاب بقلم الشاعر نلمح الذاكرة التي لا تشيخ والتي تحمل ألم اللواء ومرارة التشرد عن الوطن:
ألست واحداً من قافلة التشرد الأولى
على هذه الأرض
التي تسميها بإلحاح
أرض الآباء والأجداد؟
إذاً لم لا تعود بي
إلى أوراقك الصغيرة الأولى؟
إنها ألصق شيء بك
وأصدق شيء فيك
حدثني عنها
تعال نفتح كتاب السمر
ونقرأ قصة همومك الصغيرة
قصة طفولتك
قصة مهدك الذي ضاع...
أنا والتاريخ
أنا والشعر
أنا والزمن العربي القادم
بحاجة إلى أن نعرف شيئاً عنها وعنك
بحاجة إلى أن نعرف كل شيء...

هكذا يقدم العيسى عام 1982 لكتابه «اللواء» الذي صدر عام 2013 بعد أن ضمه إلى صدره وروحه كل هذه السنوات بعد عمر حافل بالألم والذكرى!

أبدع ما يكون الأمر عندما يرتبط الوطن بإنسان يتحول إلى روح، إلى كيان من الصعب أن يغادرنا، وربما كان من حسن الحظ أن يرحل سليمان العيسى عن لوائه مع أستاذه زكي الأرسوزي، وها هو يخاطب الأرسوزي مستذكراً اللواء:
يا قائد الجيل عرفت العلى
دماً وشوكاً يا أبا الجيل!
يا حلم العاصي يلف الربى
على غد بالثأر مغسول
عرينك الأكبر أوصاله
ما بين مبتور ومغلول
أنى تلفت ارتمت نظرة
على دم بالغدر مطلول
وأمة يتجر في دمعها
في دمها رهط مهازيل
وفي الذكرى العشرين لسلخ لواء إسكندرون يقول متألماً:
عشرون يا وطني الصغير
أحسها ضربات قلبي
درب العروبة والكفاح
وزقزقات الفجر دربي
لم أنس يا بلدي ففيك
على الرصاص فتحت هدبي
أطفالك الثوار هم
شعري كما كانوا وحبي
وعن طفولته يقول عن قريته وعن الطفولة والثورة:
في قرية إن قلت جرداء فلست أكذب
طفولتي فسحة بيت مهمل وملعب
في الطين بين صبية من عمري لم يذهبوا
ما زلت إن كنت اغتربت عنهم واغتربوا
أحملهم ثورة جيل في دمي تلتهب
ويخاطب أمه وقد رحلت في غربته.
وددت لو ألقاك تمتمة
قبل الضريح وصمت مقهور
يا ضيعة الغرباء في وطن
لليتم والتشريد منذور
يا ضيعة الغرباء في بلد
كوجودنا أماه مهدور
تبقين منديلاً يلوّح لي
خلف الدروب وليل مأسور

كتاب «اللواء» وصية سليمان العيسى الأخيرة للجيل الجديد، وللطفولة الثائرة التي أعطاها الراية للواء سليب وأمة مستلبة، وحلم قومي يبحث عن كوة للضوء يخرج منها...
رحل سليمان العيسى الشاعر والمثل والصديق تاركاً شعره علامة على الغد الذي عاشه وحلم به، وكان هاجسه لقرن من زمن كابده الشاعر، وتجاوز قروناً في أثره وتأثيره.


إسماعيل مروة

الوطن السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق