شيخ أدباء حلب «قسطاكي الحمصي» له الفضل في تنوير السوريين ونهضتهم

24 تشرين الأول 2013

.

نشأ يتيم الأب ورعته والدته فأحسنت الرعاية فكان شيخ أدباء حلب، يؤمه الفقير والغني، الأديب والفيلسوف والشاعر، خلف خمس زهرات فكان أبو البنات وكن هن حياته وأمله.

أسرته في الأصل حمصية، أسرة مسعد، ففي النصف الأول من القرن السادس عشر للميلاد، هاجر عدد من أفراد عائلة «مسعد» إلى أصقاع العالم، إلى دمشق والقاهرة ومرسيليا وباريس ولندن وحلب، هاجر جده الأعلى من حمص إلى حلب عام 1517 م، وأخذت العائلة اسم «الحمصي» نسبه إلى مدينته الأم حمص.. ولزمته النسبة إلى حمص كما لزمت سلالته.

الزائر إلى مدينة حلب لا بد له من المرور في شارع «قسطاكي الحمصي» أهم شوارع حلب، أو الوقوف أمام تمثال نصفي من البرونز في ساحة الحرية بشارع بغداد، كتب علية «العلامة قسطاكي الحمصي».
لقد ألبست حلب عباءتها لشيخ أدبائها عرفاناً منها لهذا الرجل الذي طالت قامته السماء، فكان شارع «قسطاكي الحمصي» من أهم شوارع حلب، فهل يخطر في بال الزائر إلى مدينة الشهباء والمار بشارع «قسطاكي الحمصي» أو الواقف أمام تمثاله النصفي من هو هذا الأديب والشاعر والمفكر الذي عرفه في يوم ما الشرق والغرب وأنه ابن حلب البار وابن سورية الذي رفع اسمها عالياً.

المولد والنشأة
في يوم من أيام عام 1517 م هاجر ميخائيل مسعد، الجد الأعلى لعائلة الحمصي في حلب من مدينته حمص إلى حلب.. وفي أواسط القرن التاسع عشر، وبعد أن بدت بشائر النهضة الأدبية وظهر رجال الطبقة الأولى ولد قسطاكي الحمصي وكان مولدة في مدينة حلب في اليوم الرابع من شباط سنة 1858 م، فقد والده التاجر يوسف بن بطرس الحمصي، وهو في الخامسة من عمره، فربته والدته، ووالدته سوسان الدلال ابنة عب اللـه الدلال، كان والدها يحب العلم والأدب وكان بيته منتدى الفضلاء والنبلاء يقصده الأدباء والشعراء، وهي شقيقة الأديب المشهور جبرائيل بن عبد اللـه بن نصر اللـه الدلال، وهو من أهل حلب مولداً ووفاة، أقام في باريس مدة عمل بها في جريدة «الصدى» العربية، لسان حال السياسة الفرنسية، واتصل بخير الدين باشا التونسي وقد ولي الصدارة العظمى بالآستانة، فانتقل إليها وأصدر فيها جريدة «السلام» وأقفلت بعد استقالة التونسي، فاشتغل ترجماناً، وكان يحسن التركية والفرنسية، ثم درَّس العربية في «فينا» وعاد إلى حلب سنة 1884 بعد غيبة 20 عاماً، فنظم قصيدة أغضبت القسيسين، ترجم بها شعراً لفولتير مطلعها:

عسرت لك الأيام في تجريبها
وسرت بك الأوهام إذ تجري بها

وللقسيسين رأي معروف في فولتير، فوشوا به إلى السلطات التركية، فسجنته، ومات في سجنه، وجمع ابن أخته قسطاكي الحمصي منظوماته في كتيب سماه «السحر الحلال في شعر الدلال».

تزوج قسطاكي من السيدة مريم نجم بعد عودته من رحلة فرنسا سنة 1878م وكان عمره واحداً وعشرين عاماً وهي من أسرة اشتهر أفرادها بالتجارة.. ورزق منها خمس كريمات، هن شيرين، وليندا، وعلية، ومتيلد، وزوية، وله حفيد هو إدمون الحمصي عضو البرلمان السوري سنة 1936 م ثم وزير للمالية. توفيت زوجته سنة 1929م ابنته ليندا ذات ثقافة علمية واسعة، وزوية زوجة الأديب الياس الغضبان وهي مقيمة بمصر وهي شاعرة وتكتب بالفرنسية، أما كبرى بناته علية فهي زوجة الوجيه المالي والصناعي الحلبي «ألبير حمصي» الذي كان صاحب «بنك حمصي» في «القاهرة» و«حلب»، وهو من كبار مؤسسي شركة النسيج الآلي بحلب عام 1935، وهي كما يصفها من عرفها بارعة الجمال، تعبق بحب الوطن، رقيقة العواطف وتكتب الشعر، وكانت ذات مكانة اجتماعية عالية في مجتمعها، ويروي نساء ورجال حلب عن مواقفها الصلبة الوطنية حين تجرأت وناقشت وطالبت القائد العثماني جمال باشا بإطلاق سراح عدد من رجالات حلب الوطنيين الذين يقبعون في السجون التركية بتهمة الخيانة العظمى بانتظار تنصيبهم على أعواد المشانق، وكان لها ما أرادت.. وقدّر أهل حلب موقفها المشرف هذا وجرأتها الوطنية.

قضى قسطاكي الحمصي بقية عمره بعد وفاة زوجته حبيس منزله لا يغادره إلا نادراً ويقضي أوقاته في المطالعة والكتابة في غرفة كتبه وهي غرفة متوسطة الحجم محوطة بخزائن الكتب ومزدانة بالصور العائلية وببعض الصور الفنية، عرف قسطاكي بأنه متدين مؤمن، ولكنه لم يكن يفهم من الدين، أنه أداة تعصب ذميم، بل كان يؤمن بأنه العلاقة التي تربط المخلوق بالخالق والوازع الذي يقي النفس من نزعات الهوى والسبيل.. وكان دائم القول: «إذا كان سيد قريش نبي المسلمين ومؤسس دينهم، فهو أيضاً نبي العرب ومؤسس جامعتهم القومية».

قسطاكي ممشوق القامة متوسطها، أنيق المظهر، حسن الهندام، جميل الخط، له ولع بالفنون الجميلة، خبير بالتحف، مولع بالموسيقا والغناء، إضافة إلى مكانته المتميزة في عالم الأدب والفكر.. عرف عنه ظرفه، حلو المعشر، حاضر البديهة، طيب النكتة، يميل إلى النقد وقد يكون فيه لاذعاً بعض الأحيان.

قال عنه عبد اللـه يوركي الحلاق عام 1941م: «صريحاً كالضياء، مستقيماً كشرع الله، طاهر الذيل كزنبق الوادي السحيق، وكان كلامة مؤثراً كالسياط، وبرهانه قاطعاً كحد السيف، ولغته راسخة كالطود، ومعانيه عميقة كالبحر»، عرف عن قسطاكي تعصبه لوطنه ولغته، وقيل إنه تتلمذ على يد الشيخ إبراهيم اليازجي، وكان في حلب خليفة في الأدب لـ عبد الرحمن الكواكبي وفرنسيس مراش ورفيقاً للأب جرجس منش والشيخ كامل الغزي.

النشأة
نشأ قسطاكي الحمصي في بيئة أدبية فكرية ذات جاه وغنى وكان منزله منتدى العظماء من مفكرين وأدباء وشعراء.. نطق الشعر وهو ابن الثالثة عشرة من عمره، درس في كتاب الروم الكاثوليك بحلب فأتم في الحادية عشرة من عمره تعلم القراءة العربية ومبادئ الخط ثم انتقل إلى مدرسة الرهبان مار فرنسيس ودرس مبادئ اللغتين الفرنسية والإيطالية والنحو ولما بلغ السادسة عشرة عكف على الأعمال التجارية ولكنه لم يهمل المطالعة ولاسيما دراسة النحو والصرف واللغة الفرنسية وكان يدرس ليلاً علم العروض على يد الخوري جرجس دلالة، كما درس الفلسفة على يد الأستاذ جاكمان في مرسيليا عام 1875م.

سافر إلى أوروبا أربع مرات وكانت الرحلة الأولى سنة 1875م وفي هذه الرحلة اتصل مع الأستاذ جاكمان، ثم كانت الرحلة الثانية سنة 1878 م وتعرف خلالها على عبد اللـه المراش. فالرحلة الثالثة سنة 1892م وانتخب بعد عودته منها عضواً لمجلس الإدارة في ولاية حلب وعين كذلك عضواً في مجلس معارف ولاية حلب ثم معاوناً لرئيس المجلس البلدي، كما كان عضواً في المجلس العلمي العربي بدمشق، وآخر منصب سياسي تولاه كان عضويته في مجلس الشورى بدمشق، وآخر رحلة إلى أوروبا له كانت عام 1912م. هذه الرحلات كانت سبباً في إتقانه اللغة الفرنسية فصار يتكلمها بسهولة كأحد أبنائها فعرف آدابها وكتب فيها وترجم عنها.

في عام 1882م ذهب إلى بيروت وتعرف على أدبائها وشعرائها منهم إبراهيم اليازجي والدكتور فانديك ويعقوب صروف وفارس نمر وأديب اسحق، وفي عام 1872م ذهب إلى الآستانة وتعرف هنالك على أبو الهدى الصيادي وفي عام 1905م ذهب إلى مصر وتعرف على كثير من إعلامها وشعرائها وكتابها كـ أحمد زكي باشا، وسليمان البستاني، وجرجي زيدان، والشيخ علي يوسف، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ثم تعددت زياراته لمصر كثيراً، ونتيجة علاقتة الوطيدة مع اليازجي نشر في مجلته «الضياء» و«البيان» كثيراً من شعره ونثره، ونشر في صحيفة «الشعب» الحلبية لصاحبها فتح اللـه قسطون في عام 1909م، كما نشر سلسلة مقالات بعنوان «أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر» في مجلة «الشعلة» الحلبية.

من كتبه «منهل الورَاد في علم الانتقاد» و«أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر» و«السحر الحلال في شعر الدلال» و«مرآة النفوس في الأخلاق والآداب» و«رسالتان في اللغة وتصحيح أغلاطها» ومجموعة من الأشعار والمقالات، ويقال إن له ديواناً شعرياً غير مطبوع كان ضائعاً بين أوراقه، كتبه بخط فارسي جميل، ويعتبره النقاد كنزاً ثميناً.

الرحيل
في الساعة التاسعة من مساء يوم الجمعة 7 آذار سنة 1941م سلم قسطاكي الحمصي روحه بين يدي خالقه، ويوم الأحد 9 آذار قامت حلب عن بكرة أبيها تودع شيخ أدبائها وشيع جنازته أهل حلب كبيرهم وصغيرهم، وأدخل جثمان قسطاكي داخل التابوت إلى كنيسة الروم الكاثوليك وودعه في صحن الكنيسة جمع غفير من المسيحيين والمسلمين.

لقد قدمت حلب لسورية والعالم العربي خلال النصف الثاني من القرن التاسع والنصف الأول من القرن العشرين أسماء كان لها أثر كبير في عملية التنوير ونهضة السوريين، في الفكر والصحافة والأدب والتنظير، تأثروا وأثروا في حركات اليقظة القومية وتواصلوا مع الثقافة الأوروبية ما فتح أمام سورية أبواب العالم لتتعرف إلى حركات التحرر في أوروبا وخاصة أفكار الثورة الفرنسية.

كان المفكر والشاعر والأديب قسطاكي الحمصي أحد أهم الأسماء الحلبية التي تبنت مشروعاً نهضوياً علمانياً تنويرياً لسورية.. لقد فتح أمام حلب وسورية أبواب الثقافة الأوروبية، وشرع أمام أبناء بلده النوافذ للتعرف إلى المبادئ المدنية والحرية والعدالة والمساواة.

رحم اللـه قسطاكي الحمصي الرجل الوطني الشهم الذي طالت قامته أعالي السماء.


شمس الدين العجلاني

الوطن السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق