اللغة العربية: سفينة علينا إدارة دفتها كي لا تغرق

03 تشرين الأول 2013

.

يقول الفيلسوف الفرنسي باسكال: «وطني هو اللغة الفرنسية»، قول كان يعجب الجنرال ديغول كثيراً ويتغنى به ويرى فيه تجسيداً لمعنى الانتماء والاعتزاز بالأمة الفرنسية وتاريخها وثقافتها، التي امتدت وانتشرت حتى وصلت إلى أقصى أقاصي الأرض. ولا يختلف كثير من المفكرين والباحثين والمثقفين والسياسيين الفرنسيين مع ديغول في إعجابهم بما قاله باسكال، حيث إن هذا القول لا يغادر مخيلتهم في السر والعلن وعلى مختلف المنابر الثقافية في العالم.

من باسكال إلى ديغول إلى الآخرين من الفرنسيين، هناك ما يمكن الوقوع عليه من إيمان عميق بأن اللغة هي وعاء وتاريخ وشخصية، «وليست صنماً للعبادة!». وهي أيضاً، ضمانة أكيدة لحفظ ثقافة المجتمع ومنعها من التبدد والتلاشي والانسلاخ والاستلاب، هي نظام ثقافي وفكري أسّس، ويجب أن يؤسِّس، لكل ما من شأنه الإبقاء على المجتمع والفرد بعيداً عن الضياع والتشويش وفقدان الهوية.

من المؤكد أن اللغة هي كذلك، وهي فوق هذا الأرضية الصالحة لتأسيس الروح الثقافية للفرد بوصفها -أي اللغة- نظام وبنية فكريان يفسحان المجال أمام تشكيل تلك الروح الثقافية للمجتمع-الفرد، التي إن كتب لها أن تثبّت نفسها بين الثقافات واللغات الحية فلا خوف عليها من ثقافات ولغات أخرى، ولا خوف عليها من الأفول والزوال في عصر العولمة الثقافية والتواصل وتلاقح الثقافات.

في هذا الشأن، يقول مدرسو اللغات الأجنبية الاحترافيون والمتمكنون: «لا يمكن اعتبارك متقناً للغة الإنكليزية -مثلاً- لمجرد استطاعتك أن تقرأ وتكتب وتتحدث بها. التمكن الحقيقي من إتقان اللغة هو امتلاك القدرة على التفكير العلمي والبحثي في اللغة المنشود تعلّمها، وفي هذا كثير من الصواب، لأنه يفضي إلى أهمية اللغة في حياة المجتمع الذي لا يمكن له النهوض إلا بها، وليس بلغة أخرى، لأن الروح -أية روح- عصية على العيش والاستمرار في جسد غريب عنها أو في جسد ليس جسدها».

لا يعني هذا بطبيعة الحال، التعاطي مع لغتنا العربية بذهنية موتورة ومتخشبة، أو التعامل معها وكأنها «تابو» لا يجوز المساس به أو الاقتراب من عوالمه ومفرداته وتعابيره، أو حتى التعامل معها، إذا شئتم، وكأن الله قد «خلَقها وكسر القالب!»، إنما يعني مزيداً من الاهتمام والتمسك بها شرط منحها، كأي جسم حي وحيوي، حرية الحركة والمرونة والرحابة التي تستطيع من خلالها أن تثبت أنها فعلاً نظام فكري مرن وطيّع يمكن له أن يواكب العصر ويتواءم معه، ويستوعب مفرداته ومعطياته ومفاهيمه الجديدة، السياسية والعلمية والفكرية والثقافية والاقتصادية.

على هذا النحو، يمكن لنا أن نقدم أنفسنا لهذا العالم، بالتزامن مع إظهار قدرتنا على تعلم وإتقان لغات أخرى هي ضرورية أيضاً لفهم الآخرين والتعاطي مع منتجهم الثقافي والفكري والعلمي، بعيداً عن الخوف من بعبع وفزاعة الاقتلاع والضياع، وبعيداً عن الذهنية «القبلية» التي يدعو إليها بعض الموتورين للحفاظ على اللغة العربية داخل قمقم أو قوقعة، أو حجرها داخل غرفة لا نوافذ ولا أبواب لها، وفي أحسن الأحوال، حجرها داخل غرفة مُحكمة الإغلاق، بنوافذها وأبوابها!.

اللغة أيها السادة، كائن حي، وبوصفها كذلك، فهي تحتاج إلى استنشاق الهواء الجديد الذي يمنحها القدرة على التجدد والاستمرار والمواكبة في عالم لم يعد يقبل الجمود والتحجر، والأشجار اليابسة التي يمكن اقتلاعها في أول عاصفة من عواصفه التي لا ترحم أحداً ولا تدخّر جهداً في اقتلاع كل ما يقف في وجهها، ولا ينجو من «قضائها وقدرها!» إلا تلك العقول والأجساد والأرواح المرنة التي تستطيع مواجهة تلك العواصف واللغة، دون أدنى شك، عقل وجسد وروح!

بعقول مطمئنة وواثقة بلغتنا الجميلة والغنية وبعقول مرنة ومنفتحة على الآخر ولغته وثقافته، يمكن لنا أن نمضي واثقين في بحر العولمة الذي لا يمكن له أن يُغرِق إلا من لا يمتلك سفينة يستطيع إدارة دفتها، ومن لا يتقن السباحة.


جورج حاجوج

جريدة النهضة السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق