أقراط مدلاة و«شالات» تروي حكايا «الموليا» 24/شباط/2008
عندما كان عمره عشر سنوات، قبض ذاك الطفل المتحفز بعيون تقفز هنا وهناك في حارته بأحد أحياء دير الزور على حين غفلة على عابر مجهول يعزف على مزمار من القصب ألحاناً تشبه السحر وتتماهى على أعتاب الشجن تملأ فضاء المكان.
على حين غفلة أيضاً تلاشى ذاك العابر المجهول في الحارات والزواريب وابتلعته المدينة بينما بقيت أصداء عزفه شجية مثل حلم تحتل حيزاً من ذاكرة ذاك الطفل الذي كان هو أنور الرحبي.
عقود أربعة مرت على تلك الومضة ولا يزال ذاك الحيز حياً محتفظاً بكامل طزاجة المشهد، ولم يبرح ذاكرة الرحبي الفنان التشكيلي الذي ما فتئ وقد امتلك ناصية التعبير يبحث عن ذاك المجهول الذي ضاع في المدينة ظهيرة أحد الأيام غير المدونة على الورق.
فتحت صالة الشعب للفنون الجميلة في شارع الفردوس ذراعيها لأعمال الرحبي في معرض مشغول على مقام «الشالات» تستوقفك فيه لوحة كبيرة لوجه امرأة تهم بمصافحتك بشالها المنسدل فوق جيد غزال لم يخفِ رجرجة أقراطٍ مدلاة قليلاً، فتهمس لك حكاية امرأة مرت عليك ذات مساء حار تجعلك تدقق النظر قبل أن تنطق باسمها بتردد وتلعثم، لكنك سرعان ما تقول في سرك «لا، ربما ليست هي، لعلها تشبهها» وإن كانت غير مجسدة واقعياً، وتمضي في تجولك في أرجاء معرض فسيح، لكل لوحة فيه حكاية لامرأة أخرى في شال من نوع آخر ربما أسقطت أقراطاً واكتست ألواناً أخرى، ولا يمكنك تجاهل ذاك الوسيم الخمسيني الجالس خلف طاولة خشبية في الركن الأيمن من آخر الصالة فناناً وإنساناً بشعره الأبيض المتراكم غزارة وإن تعمدت ذلك، ووجهه الذي تنثر قسماته عليك رذاذاً من ثلج، وإذا ما أردت مجاذبة أطراف حديث معه تتكشف لك دون عناء راؤه المسقطة جمالاً المدغمة بوحاً وروحاً تلفحك نسماتها الحارة وهي تهب عليك صدقاً ووقاراً موشّى بطيف من فكاهة وحزمة من وجع كعارف واسع الثقافة والاطلاع متبصر يجيد الصمت كثيراً -ربما إلى حين- كإجادته وضع النقاط على الحروف واللعب المتقن بريشة مطواعة ألواناً متدفقة صريحة تارة ومتوارية باحتفائية تارة أخرى على مساحات بيضاء تختزل رموزاً ودلالات أشبه بنص مكتوب بتفرد وممعجن على طريقة الكبار.
في «شالات» بدا أنور الرحبي لا يمارس أي نوع من أنواع الاعتقال أو الوصاية والاستعداء على المتلقي ولا على نصه التشكيلي، الذين يتعامل مع كل منهما (بوصفه حالة) نداً لند، ولا تشعر أمام تلك النصوص التي جاءت على شكل لوحات بالاغتراب وإن كان الرجل يعيش اغتراباً داخل وطنه الذي يعيشه ويحياه رسماً وتجسيداً فنياً آسراً، ذلك أن أعماله تذوب ألفة فتخالها أحياناً تبتسم لك وتشم رائحتك وربما أحياناً أخرى تنظر إليك شزراً كأنها تقول لك «لقد وجدتك متلبساً بخديعة ما» أو لعل لسان حال بعض أعماله يقول لك أنت أيضاً قبضت علي وأنا أمارس الخديعة، لكنها تطمئنك في الوقت ذاته الذي ترجو فيه منك تواطؤاً «إن هذا سر بيني وبينك».
في أعمال الرحبي تقبض على الشمس نقطة دائرية مكورة تضيء مشهداً بصرياً قد يكون حلماً وربما واقعاً بينهما شجرة غَرَب متلحفة غير معراة تبحث عن ساكن آدمي، وتحضر فيها «الشالات» أو «الهباري» حديقة ملونة تختار مكانها وزمانها على وجه أسمر يشبه الوجه الدافئ لأمه التي زرعت في ذاكرته أشياء تشبه الحلم على أرض تربى وعاش عليها وغب من هوائها انتماءً لوطن في مدينة نائية على ظهر صحراء يشقها نهر توزع ضفافه سلسبيلاً عذباً على القائمين هناك ولا تبخل على المارين الذين يُودعون الفرات حكايات ومواويل من الحب.
أما المرأة عنده فهي مجاميع خالصة، وهي سوى كونها تحمل الحب والعطاء والاحتواء فإنها جملة من الملونات غير المؤكسدة تنشر رياحين العشق وأضاليا الروح فيها الأصفر والأخضر والأبيض، وفي «البروفيل» تجد أن هناك عيناً مكحلة تحاكي كل العيون، وعندما يجمعها في «بورتريه» فإنها تظهر بألوان مقشبة بالكثير من روح الشمس الصفراء وهي ترتمي وسط فرح الطبيعة. وليست المرأة عند الرحبي أيضاً امرأة عادية تشبه النساء الولادات، لكنها تضع حجالاً وهي بأصابع طويلة وأساور لها خشخشة الحياء بعيون ليست وقحة فحسب إنما تنضح بالخجل في شالها (هباريها)، وهي تشبه شجر الغرب الذي تشتهر به منطقة الفرات بورقه الكثيف المتداخل والمتعانق والذي يصعب الدخول فيه إلا لمن امتلك ناصية الذكاء والحنكة والحذق.
ألوان الرحبي أيضاً مشابهة للتربة البكر، وقد تمعجنت أو امتزجت في ذاكرته ولم تنم، فخرج مثلاً «الأكروجون» (الأصفر الهندي) والأزرق الكوبالت في كثير من أعماله.
الرحبي الذي يشبه كثيراً لوحاته كيميائياً إلى حد التماهي هو واحد من الناس غير الفضيين لوفرة الشمس وغير المنغلقين لامتداد الصحراء مترامية الأطراف وغير العطاش والفرات فياض صريح.
ترك دير الزور مدينته منذ ثلاثة عقود وأتى دمشق حاملاً كحله معه فشكلته دمشق المدينة وعياً وثقافة، وأول ما لمس فيها النوافذ، وأول ما سمع فيها الغناء بصوت لا يشبه الأصوات وليس من النوع الذي يطرب الرحبي أو يشعره بالدفئ، فقناديله معه وشالات نسائه تروي له همساً حكاياتها ودفّه يضرب بما يشبه النقر على إيقاع الروح على آه الموليا دون أن ينسيه ترنم ذاك العابر المجهول وألحان مزماره القصبي التي شقت ذات لحظة هاربة أرجاء المكان أسراراً وألغازاً كأنها قادمة من المجهول.
|