سلسلة الفن السابع تنشر مذكرات لويس بونويل: أنفاسي الأخيرة

15 أيلول 2012

نشرت سلسلة الفن السابع الصادرة عن وزارة الثقافة السورية مذكرات المخرج الإسباني الشهير لويس بونويل في طبعة ثانية تحت عنوان «أنفاسي الأخيرة» حيث يروي صاحب كلب أندلسي حكاية أمه التي أخذت تفقد ذاكرتها شيئاً فشيئاً في آخر سني عمرها قائلاً: «كلما آتي لزيارتها، كنت أعطيها إحدى المجلات فتتصفحها باهتمام من الصفحة الأولى حتى الأخيرة وبعد أن تعيدها إلي كنت أعطيها إياها من جديد على أنها مجلة أخرى فتبادر إلى تصفحها بالاهتمام نفسه».

ويفرد مخرج السريالية الرائد الصفحات التالية لسرد حكايات تتعلق بفقدان ذاكرته وكأنما يعتذر سلفاً عن حكايات قد لا يرويها لقرائه أو ربما عن حكايات سنستمع إليها ونشاهدها ونشم رائحتها خلال صفحات كتابه ليتضح بعدها أنها ليست إلا فيلماً سريالياً اختلطت فيه أحلام اليقظة بفانتازيا الصورة السينمائية.

يقول بونويل: «تجتاح الذاكرة باستمرار التصورات والأحلام ولأن هناك إغواء ما لتصديق الحقيقة المتصورة فإننا نصنع حقيقة من أكذوبتنا».

كانت السينما كما يوثق بونويل في زمن فتوته شكلاً قصصياً جديداً غير معتاد فكان الجمهور يصعب عليه ما يراه على الشاشة ويتعذر عليه الربط بين الأحداث فلم يكن تعود بعد على إدراك طبيعة اللغة السينمائية والمونتاج والأحداث المتوازية أو المتتابعة وهنا يوضح موقفه من هذه المسألة: «لا يمكنني أن أنسى إطلاقاً مقدار ما أثر في وفي جميع الموجودين في الصالة أول مقطع بصري شاهدته على الشاشة كان عبارة عن وجه يتحرك في اتجاهنا وهو يكبر شيئاً فشيئاً كما لو أنه يود ابتلاعنا كان من المستحيل أن نتخيل أن آلة التصوير هي التي كانت تقترب من الوجه».

يسرد الكتاب الذي نقله إلى العربية المخرج السوري مروان حداد سفر بونويل الشاب إلى مدريد من أجل دراسة الهندسة الزراعية التي لم يفلح فيها بسبب عدم قدرته على استيعاب الحقائق الرياضية فانتقل إلى دراسة التاريخ حيث اختبر هناك أول الحركات السريالية الناشئة في إسبانيا من خلال مجموعته الفكرية المقربة والمكونة من كل من ألبرتي ولوركا ودالي.

ومع أن السينما لم تكن بالنسبة إلى هذه المجموعة سوى وسيلة للتسلية ولم يكن أحد منا يعتقد كما يروي بونويل أنها قادرة على أن تكون أداة تعبير جديدة وبدرجة أقل كان اعتقادنا بأنها يمكن أن تكون فناً أما ما كنا نعتبره كذلك فهو فقط الشعر والأدب والرسم ولم يكن يخطر لي على الإطلاق أنني سأكون سينمائياً في يوم من الأيام.

إلا أن علاقة بونويل مع رفاق دربه الثلاثة كانت نواة كل أفلامه المستقبلية خصوصاً علاقته المميزة مع سلفادور دالي التي أثمرت أول أفلامه «كلب أندلسي» عام 1929 فهذا الفيلم أخرجه بونويل بتمويل من أمه بعد أن عمل فترة طويلة في بعض استوديوهات باريس السينمائية ليبدأ يتكشف ميله إلى الحركة السريالية خصوصاً بعد أن وجد في نفسه نزعة إلى أشكال التعبير اللاعقلانية في مواجهة أعمال الطليعة المزعومة التي كانت تقود الفن وقتها.

ولد «كلب أندلسي» من تلاقي حلمين كما يقول بونويل: «دعاني دالي إلى قضاء أيام عدة في بيته ولدى وصولي إلى فيغويراس رويت له حلماً كنت قد رأيته قبل فترة قصيرة، غيمة تقطع القمر وموس حلاقة تشق عيناً فقال لي بدوره: إنه في الليلة الأخيرة رأى في الحلم يداً ملأى بالنمل، وأضاف: إذا انطلقنا من هذا فهل نستطيع أن نصنع فيلماً».

لم يحاول بونويل يوماً أن يجد تفسيراً لجنونه بالأحلام فهذا الجنون شكل إحدى النزعات الدفينة التي قربته من فهم السريالية كتيار إبداعي خالص كما أنه يصف لنا في مذكراته كيف أن خمسة عشر حلماً مكرراً طاردته طوال حياته كرفاق سفر أوفياء وبعضهم نقله على نحو تام في أفلامه بل تعدى الأمر إلى أحلام اليقظة وهي أحلام تكاد تكون كما يقول المخرج الإسباني في أهمية الأحلام وهي مسيطرة وغير متوقعة فطاردته خلال فترة طويلة».

يقول بونويل عن علاقته بأحلامه: «أتصور أيضاً ولا شك في أنني لست الوحيد في ذلك أن انقلاباً غير متوقع وبإرادة إلهية يجعل مني دكتاتوراً على العالم أتولى جميع السلطات ولا يستطيع أحد الوقوف أمام رغباتي وأول قراراتي ستتوجه إلى محاربة وسائل الإعلام مصدر كل الهموم، وخلال الأعوام العشرة الأخيرة تصورت أيضاً أن أحرر العالم من البترول».

ويوضح صاحب كتاب أنفاسي الأخيرة أن السرياليين لم يكونوا إرهابيين ولم يكونوا من ذوي النشاطات المسلحة لكنهم كانوا يكافحون ضد مجتمع يكرهونه مستخدمين الفضيحة كسلاح رئيس ضد عدم المساواة الاجتماعية واستغلال الإنسان للإنسان والتأثير المخدر للدين والعسكرية الفظة والمادية إذ لم يكن الهدف الحقيقي للسريالية خلق حركة أدبية أو تشكيلية ولا حتى فلسفية جديدة بل كان ما ترمي إليه هو تفجير العالم وتغيير الحياة.

تجربة بونويل الثانية في فيلم «العصر الذهبي» كانت تجربة خاصة عن حب مجنون وعن قوة دفع لا تقاوم وفي كل الظروف للواحد تجاه الآخر، الرجل والمرأة اللذان لا يمكن لهما أن يلتقيا على الإطلاق لكن هذا الفيلم المثير عرض في باريس مدة ستة أيام فقط وسط إقبال جماهيري وبعدها قام أعضاء في منظمات يمينية متطرفة كارهة للسريالية بمهاجمة صالة السينما فحطموا لوحات المعرض السريالي في رواق الصالة وألقوا بالمتفجرات على الشاشة وكسروا المقاعد فكانت الفضيحة المعروفة بفضيحة العصر الذهبي منع الفيلم على إثرها من العرض منعا استمر خمسين عاماً حتى العام 1980 عندما جرى توزيع الفيلم في نيويورك.

يعلق بونويل على فكرة الإرهاب في كتابه: «إن فكرة الإرهاب الذي لا يمكن تفاديه في هذا القرن قد اجتذبتني دائماً لكنه ذلك الإرهاب الشامل الذي يسعى إلى تدمير كل المجتمع أي كل الجنس البشري بينما لا أملك سوى الازدراء تجاه أولئك الذين يجعلون من الإرهاب سلاحاً سياسياً في خدمة أي مسألة».

يتعرض الكتاب لعلاقة المخرج الإسباني بأصدقائه إذ فرق الزمن بين رفاق الأمس فنشأ خلاف بين بونويل وشهيد الشعراء لوركا فهذا الأخير اعتقد أو تظاهر بالاعتقاد أنه كان الكلب الأندلسي في فيلم بونويل أما دالي فكان قد أظهر في أكثر من مناسبة تعاطفه مع الفاشيين في الحرب الأهلية الإسبانية الأمر الذي لم يرق لبونويل وعندما تحدث دالي في كتابه «الحياة السرية لسلفادور دالي» عن بونويل متهماً إياه بالإلحاد افترق الصديقان أيضا بعد مشاجرة حول الكتاب ولم يلتقيا بعد ذلك.

تنقل بونويل بين عامي 1930 و1946 بين أميركا حيث تدرب في استوديوهات هوليوود وإسبانيا وفرنسا أخرج خلالها بعض الأفلام كان أشهرها «أرض بلا خبز» و«ابنة خوان سيمون» و«من يريدني» الذي كان فشله التجاري الوحيد إضافة إلى فيلميه «روبنسون كروزو» و«الشابة»، ثم استقر في المكسيك حتى العام 1961 قدم فيها فيلميه «المنسيون» و«هو»، لكن مرحلة النضوج الأغنى هي التي أخرج فيها متنقلاً بين إسبانيا والمكسيك وفرنسا بين عامي 1960 و1977 أفلامه الأشهر «فيريديانا» و«حسناء النهار» و«تريستانا» و«سحر البرجوازية الرصين» و«هذا الغرض الغامض للرغبة».

يعترف بونويل في مذكراته الشيقة بأنه لا يحب العميان والطرشان ووسائل الإعلام والحسد وأولاء الذين يطلقون الحقائق أينما حلوا وأولاء الاستعراضيين لكنه يحب الحيوانات والأدب الروسي والهوس والأقزام وسمك السردين كما يحب أفلام هذا المخرج ويكره أفلام ذاك فبهذه البساطة والشفافية الخاصة يكمن السحر الخفي لكتاب «أنفاسي الأخيرة» وفي قدرة صاحبه على تقديم نفسه صافية من دون رتوش سينمائية وبلغة أدبية راقية تضاهي لغة أدباء عصره ومشهدية لا تقل روعة عن مشهدية أفلامه.

يقول بونويل مودعاً في شبه ختامية: «مع اقتراب أنفاسي الأخيرة، يبقى شيء واحد آسف له هو عدم معرفة ما سيجري. وأعترف أخيراً، على الرغم من كل كراهيتي للإعلام إلا أنني أتمنى أن أكون قادراً على النهوض من بين الأموات مرة كل عشر سنين لأذهب إلى أحد الأكشاك فأشتري مجموعة من الصحف ولا شيء آخر وأعود إلى المقبرة حاملاً صحفي بوجهي الشاحب متكئاً في طريقي على الجدران فأقرأ عن كوارث العالم قبل أن أعود إلى النوم راضياً مرضياً في ملاذ القبر المريح».


الوكالة العربية السورية للأنباء - سانا

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق