قتيبة الشهابي، صديق دمشق وعاشقها

20 02

تفتقد دمشق وهي في غمرة فعاليات احتفاليتها الثقافية وجهاً ثقافياً تألق في ميدان البحث التاريخي والتوثيق لمعالم مدينة دمشق طوال نصف قرن.
يمضي الدكتور قتيبة الشهابي إلى عالم الخلود مخلفاً كنزاً من المؤلفات الراقية التي أفردها للعاصمة الخالدة وأعطاها جهده الصادق ودأبه المخلص حتى غدت مرجعاً أميناً للمؤرخين والباحثين، وهي أكثر من ثلاثين مؤلفاً كتبها وحقق معلوماتها بالكلمة والصورة وشكلت بمجموعها موسوعة تاريخية وأدبية فريدة وقد حمل عبئها متطوعاً راضياً بما أداه من عمل كان حرياً أن تقوم به مؤسسة بحوث متخصصة.
البدايات صور دمشقية:
حين تعرفت إلى الدكتور شهابي منذ سنوات بادرني في اللحظة الأولى: «إن هذه المدينة الرائعة دمشق هي صديقتي الأثيرة التي أعطت حياتي طعماً مختلفاً هو مزيج من العذوبة والإحساس الرهيف بالفن والأصالة وأنا مدين لدمشق بكل أيام الفرح والسعادة التي عشتها».
بدأت صداقتنا الحميمة في لحظة لا تنسى إذ كنت قد أقمت معرضاً خاصاً لرسومي الزيتية وصوري الفوتوغرافية عن دمشق عام 1985، ووسط حشد من المهتمين لبحوث الفن والتراث فوجئت بالسيدة الدكتورة نجاح العطار وزير الثقافة -كانت تعرف عن مجموعتي الكبيرة من صور دمشق القديمة (الكارت بوستال) التي تعود إلى القرن التاسع ومطلع القرن العشرين، والتي جمعتها بصبر ودأب من بلدان كثيرة- تكلفني بتأليف كتاب عن دمشق القديمة وتراثها العريق، وقد فاجأني التكليف بالفعل وسهرت ليلة بطولها أقلب الفكرة، ومن هنا بدأت رحلتي مع حاضرة الأمويين دمشق: جمعت بمساعدة أصدقائي خرائط وصوراً قديمة لدمشق وحصلت على مؤلفات منسية على رفوف المساجد العتيقة مثل كتاب «الروضة البهية في فضائل دمشق الحميمة» لمحمد عز الدين عربي كاتبي الصيادي من عام 1912 و«منتخبات التواريخ لدمشق» لتقي الدين الحصني من عام 1927 وعشرات غيرها ثم التقيت كثيراً من المعمرين ونقلت عنهم معلومات سدت ثغرات عديدة في النصوص وصححت عبارات كان مسلماً بها ثم رحت أمسح الغبار بأناة وصبر عن اللوحات والكتابات والتواريخ وناقشت ذلك كله مع المتخصصين والمهتمين وكانت الحصيلة مجموعة المؤلفات العديدة التي صدرت تباعاً ولاتزال.
ما هو أول المؤلفات في ذلك؟
هو «دمشق... تاريخ وصور»، واعتبر الباحثون والمؤرخون هذا المؤلف بيبلوغرافيا مصورة لكل ركن وزاوية في مدينة دمشق، فقد ضم حوالي 500 صورة لمعالم دمشق قديمها وحديثها وعشرين خريطة توضح مواقع هذه المعالم إضافة إلى 50 صورة لشخصيات وطنية وأجنبية لها ارتباط بالمدينة وصور لأنشطة الحياة اليومية والاجتماعية في تلك الأيام، ولم يمر إلا سنوات قليلة حتى أتبعته بمؤلف آخر هو «معالم دمشق التاريخية» وثالث هو «أسواق دمشق القديمة ومشيداتها التاريخية» وبذلك أصبح لدى الناس مجموعة متكاملة تعرفهم بالمرافق والمباني والمشيدات والتطور الذي شهدته بمرور الزمن، وتحرر الدمشقي من جهله القديم بتاريخ الحي الذي يسكنه أو المسجد الذي يصلي فيه أو المدرسة التي تعلم فيها. والجديد في هذا كله أن الصورة هي الأساس في تلك المؤلفات، لأن المؤرخ قد يخطئ ولكن الصورة لا تخطئ وهو قد يسهو أو يمر على بعض التفاصيل مرور الكرام لكن الصورة لا تترك حتى الجزئيات الدقيقة وقد يكتب المؤرخ من وجهة نظره الخاصة ملتزماً بفكر مسبق لكن الصورة لا تعرف الالتزام ومن هنا كانت مصداقية العمل ومعها ينتهي الخطأ والشك إلى الأبد. ‏
مآذن دمشق طراز عريق:
خرجت الكتب إلى الناس واستقبلت بترحيب واسع وأعيدت طباعة بعضها مرات عديدة وترجم «أسواق دمشق» في الولايات المتحدة مما شجع المؤلف على التقدم خطوة جديدة في هذا المجال فعكف على موضوع جديد طالما تشوق اليه «مآذن دمشق.. تاريخ وطراز» وسألته لماذا المآذن بالذات؟
هذا الموضوع يلقي الضوء على معالم عمرانية لم تتوافر لها ظروف البحث على نحو علمي موثق، وبقدر يغطي دراستها من جوانب أربع: التاريخ، والطراز، ونسبة التسمية، والصورة. وفي دمشق تنتشر حتى اليوم أعداد كبيرة من المآذن القديمة والمعاصرة وتتوزع أساليب عمارتها في اتجاهات شتى كانتشار الضوء عن سطح كثير الانكسار، فمنها ماحافظ على طابعه الأصيل لخصائص العهد الذي أقيمت فيه ومنها ماتعرض للتجديد أو الترميم أو حتى إعادة البناء، الأمر الذي أدى إلى تغير معالمها الأصلية كلياً أو جزئياً وتهجن عناصرها المعمارية، ومنها أيضاً ما شيد بأساليب لا تلتزم بنهج محدد مما أفقدها هويتها الطرازية الخاصة.
لقد كانت مآذن دمشق أمامه في الشوارع والأحياء يتفقدها ويصل إليها ولو في مناطق الجبل القصية ثم يضع المعلومات التي حصل عليها ضمن إطار علمي، فهو يتحدث أولاً عن نشوء المآذن والفترات التاريخية التي بنيت فيها ويعدد الطرز التي بلغت 19 طرازاً عمرانياً منذ العهد الأموي حتى يومنا، ويشرح أهميتها الأثرية ويفسر التسميات الفنية لتفاصيل المئذنة وعناصرها المعمارية (الجذوع والأقواس والنوافذ والرؤوس والمقرنصات وغيرها). وقام المؤلف بنفسه بإعداد الرسوم الموضحة لهذه العناصر ووضع خرائط المآذن في المدينة ومخططات لأماكن انتشار الطرز العمرانية المختلفة وكذلك جداول تبين خصائص ومميزات هذه المآذن ولم يترك واحدة منها دون أن يقدمها مصورة وبالألوان فاحتشدت كلها أمام القارئ في عمل فني وتقني غير مسبوق.
مشيدات دمشق:
اعتقد الدكتور قتيبة الشهابي أن مهمته لم تكتمل بعد، وأن عمله سيظل ناقصاً ما لم يوثق لمعالم أخرى من أبنية دمشق التاريخية، فكان مؤلفه الجديد «مشيدات دمشق ذوات الأضرحة وعناصرها الجمالية» ويبرز الباحث اهتمامه الجديد بقوله:
لقد أصبح كل معلم أثري في دمشق يشدني ويحثني على رفع الستار عن صوره الجميلة، ومثلت لي «مشيدات دمشق ذوات الأضرحة» دافعاً جديداً لمتابعة العمل الذي بدأت به منذ سنوات، وهذه المشيدات تنتشر في حارات المدينة ودروبها وتتمثل في الأضرحة المبنية لتضم بين جنباتها مقامات الصالحين وأضرحة المشاهير ومنها ما أقيم أصلاً للعبادة أو للتدريس ومنها ما شيد لتخليد ذكرى معينة والكثير منها اندثر.
كانت فكرة بناء التربة أو المدفن قد نشأت بنشوء الحضارات القديمة تخليداً للملوك والقادة والكهنة، وما أهرام الفراعنة ومدافن الحيثيين وقبور الأنباط والتدمريين إلا شواهد على أن فكرة التخليد كانت عقيدة راسخة لدى الشعوب، ويرجح أن أول تربة هي التي أقامها المنذر بن امرئ القيس بظاهر الكوفة بالعراق، كما تذكر المصادر أن أول قبة في الإسلام هي تلك التي بناها الخليفة العباسي هارون الرشيد فوق ضريح الإمام علي رضي الله عنه بالنجف وذلك بعد عام 170 للهجرة، وقد ظهرت عمارة الأتابكة والزنكيين، وشهدت عمائر الترب والقباب أوج ازدهارها في العصرين الأيوبي والمملوكي وصارت أكثر غنى وترفاً نتيجة الاستقرار الذي ساد إبان هذين العهدين، بسبب ولع السلاطين ونوابهم بإضفاء لمسة العظمة على أنظمتهم.
تواصلت رحلات الدكتور الشهابي بين هذه المشيدات وعكف شهوراً على دراسة تواريخها والترميمات التي أجريت لها وصور زخارفها ونقوشها وكتاباتها لتكون هذه الصور وثيقة حقيقية لا جدال فيها لبيان الشكل الواقعي للعمائر التي استمر وجودها حتى اليوم.
جاء الكتاب في 678 صفحة من القطع الكبير وضمت فصوله تاريخ الترب عبر العصور وخصائص عمارتها في كل عصر منذ الأمويين حتى عصرنا واشتمل الكتاب على صور ملونة تخص 160 تربة وضريحاً ومدرسة مشيدة بالإضافة إلى 17 تربة مجهولة لم تتوافر لها المصادر والمعلومات، وألحق ذلك بتسعة مخططات توضح مواقع هذه المشيدات في المدينة.
بوابات دمشق:
  يتابع الدكتور الشهابي حكايته الممتعة بانفعال جلي:
لقد ظل شعور عجيب مفعم بالخشوع والإجلال يمور في داخلي بعد صدور هذا الكتاب وكنت أحس كلما مررت بأبواب دمشق المهيبة أني أعبر من بوابات التاريخ وأسمع صهيل الخيول وقرع الطبول وصليل السيوف وأشهد بعيني تقدم الغزاة وصمود الفاتحين، وتدافع أقوام وتنوع أعراق وغرابة ألسن وتناقض أنساب، بلى وأشهد ملاحم وأساطير وأهازيج انتصار، ولقد اختصرت لي أبواب دمشق التاريخية حكاية صمودها ودفاع رجالها الميامين عن حياضها ورأيت بأم عيني -كأني أقرأ في كتاب مفتوح- خالد وأبو عبيدة ويزيد وشرحبيل وهم يدخلون دمشق تحت رايات التوحيد وكنت أتساءل بعجب: لماذا لم تنل هذه البوابات حقها من اهتمام المؤرخين ولماذا مروا عليها مرور الكرام ولم يلحظوا أهمية دورها في حماية وجودهم أيام الحملات والشدائد والغزوات؟ وأدركت أن المهمة تناديني فتأبطت أدواتي مرة أخرى وقضيت سنتين في عمل دؤوب كنت أثناءهما مقيماً عند تلك الأبواب أصور كل نقطة وفاصلة وأدرس كل حرف وكلمة خطت عليها، ورسمت مخططات وخرائط وصورت التفاصيل الدقيقة ونقلت التواريخ حتى أنجزت كتاب «أبواب دمشق وأحداثها التاريخية». ‏
زخارف العمارة الإسلامية:
يقول الدكتور الشهابي حول بحثه «زخارف العمارة الإسلامية في دمشق»:
إن الفنان المسلم اتجه إلى رسم الطبيعة التزاماً منه بمبدأ منع تصوير كل ذي روح فكانت الأشجار والنباتات والأزهار مصدر إلهامه لإبداع تكوينات تجريدية وجمالية وزخرفية من تشجير وتوريق وتزهير وكذلك الأشكال الهندسية والخط العربي، وقد برع هذا الفنان في إخضاع تشكيلات الزخارف وتطويعها لتتلاءم مع حسه الجمالي، ولم تطوعه هي، فأقيمت مدرسة الرقش العربي أو فن الزخرفة العربي الذي يعتمد على توازن عناصر المساحة واللون والخط، وترابطها وانسجامها والذي يطلق عليه في أوروبا اسم الأرابيسك.
انتشرت الزخرفة كوسيلة وهدف في عمارات العصر الأموي مثل جامع بني أمية الكبير ثم ظهرت جلية في العهدين السلجوقي والمملوكي وبلغت أوجها في الأشكال والتكوينات المتنوعة بين قباب مقرنصة وحجارة مزركشة ومداميك حجرية متناوبة الألوان وتيجان الأعمدة والفسيفساء الرخامي المشقف والملون وكذلك الرنوك واستخدام الجص والخشب والرخام والحجر والحشو بالصدف.
أوابد دمشق:
لا أحد في دمشق يعرف على وجه التأكيد ماذا تخبئ جعبة المؤلف من حكايات وأخبار تاريخ مدينة دمشق ولكنني عرفت مؤخراً أن المطبعة تدور الآن لتخرج مؤلفه الجديد «النقوش الكتابية في أوابد دمشق» لينضم بدوره إلى قائمة مؤلفاته الجميلة.
طويت أوراقي مستعداً لوداع الشهابي ولكن سؤالاً أخيراً ظل يلح على خاطري فأطلقته على عجل: أنت طبيب ورسام ومصور وباحث ومحقق، وكل واحد من ذلك عالم قائم بذاته، فكيف تستطيع أن توائم بين هذه العوالم كلها دفعة واحدة؟
رد الشهابي بابتسامة رضى:
سئل «روبنس» سفير بريطانيا في باريس وكان فناناً شهيراً «هل يلهو سيدي السفير بالرسم؟»، فأجاب «لا ولكنني ألهو بالسفارة.» والحقيقة هي أن كوني طبيباً وفناناً وباحثاً أمر يقع في إطار العطاء الإنساني الفكري، وإن الطبيب بحاجة إلى الفن لينتج ويعالج بطريقة سليمة ويحتاج الفنان كذلك إلى الطب لأن الفن عمل فكري قبل أن يكون إبداعاً عاطفياً كما يروجون، والفنان الذي يملك الثقافة قادر على معالجة الأمور لونياً وشكلياً أكثر ممن لا يملكها.
يرحل الدكتور قتيبة الشهابي بعد مسيرة حافلة بالنشاط الصادق لإضاءة وجه المدينة الغالية، وتفتقد دمشق مؤرخها القدير في احتفاليتها المشهودة، لكن قسمات وجهه تبقى مضيئة في واجهة كل معلم من معالم المدينة ويبقى عطاؤه الخلاق سطوراً مشرقة في سجل الوطن الذي يذكره بالخير ويدرج اسمه في عداد الأوفياء الخالدين مثالاً للوطنية الصادقة والعاملين المخلصين.


تشرين

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق