الذكرى الخامسة عشرة لرحيل الفنان فهد بلان

26 آب 2012

.

من بين عشرات الأصوات التي قدمتها سورية للساحة الغنائية العربية يكاد يكون المطرب الكبير الراحل فهد بلان الصوت السوري الوحيد الذي نقل تراث وبيئة بلاده إلى العالم الخارجي وجعل الأغنية السورية مألوفة لدى المستمع العربي من غير أن يجد نفسه مضطراً للابتعاد عن هويته المحلية.

ولد فهد بلان في شهر آذار من عام 1933 في قرية الكفر بمحافظة السويداء وكان أحد الأبناء الذكور الخمسة الذين أنجبهم حمود بلان المزارع الذي عمل فيما بعد في سلك الدرك وكان معروفاً في قريته بقوته البدنية وشهامته وكرمه وبإجادته العزف على آلة الربابة وامتلاكه صوتا قوياً جبلياً يطرب له أهالي القرية في أمسياتهم وجلساتهم.

عاش فهد طفولة صعبة إذ اضطرته الظروف إلى مساعدة أبيه في زراعة الأرض وعندما شب عن الطوق عمل جابي باص وحمالاً وغيرها من المهن الصعبة والتي لم يخجل من ذكرها لأنه كان يرى في العمل فخراً وشرفاً طوال حياته حتى أنه كان يحيي الأعراس والحفلات الشعبية الخاصة والعامة مقابل قروش قليلة لكنه وجد في ذلك فرصة لتدريب صوته وصقل موهبته وكسر جدار الخوف من الجمهور.

وعندما أعلنت الإذاعة السورية عن حاجتها لمرددين في جوقة الإذاعة عام 1957 تقدم فهد بلان لامتحان القبول ووقف أمام الموسيقيين يحيى السعودي ورياض البندك وغنى أمامهما أغنيات لفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب ولم يعجبا بأدائه ورفضا قبوله.

لم ييأس مطربنا الكبير من المحاولة الأولى بل تقدم للامتحان مجدداً ولكنه قرر هذه المرة أن يغني شيئاً من تراث منطقته وصدح أمام اللجنة بأغنية شعبية تراثية اسمها هين ضرب السيف ولم ينس كيف ارتسمت علائم الإعجاب على وجهي عضوي اللجنة بمجرد أن غنى مطلع الأغنية لأن ذلك النوع من الغناء ناسب صوته الجبلي ونجح في المسابقة وأصبح عضواً في جوقة الإذاعة التي كان يترأسها الموسيقي الراحل عبد الفتاح سكر.

وفي أقل من عام قدم بلان أولى أغانيه والتي حملت اسم يا بطل الأحرار احتفاء بالوحدة بين سورية ومصر عام 1958 وكانت في الوقت نفسه أول لحن صنعه الملحن المبدع سهيل عرفة تلتها أغنية مشغول بحبك التي لحنها له راشد الشيخ ثم أغنية لعينيك يا حرية تلحين عبد الفتاح سكر.

ولكن الأغنية التي اخترق بها مطربنا الكبير أسماع الجمهور السوري كانت آه يا قليبي التي غناها مع المطربة سحر التي ظهرت عام 1960 ولحنها لهما الفنان الراحل شاكر بريخان والتي حققت نجاحاً كبيراً وبنت شهرة فهد بلان داخل سورية وخارجها.

ولعل الجانب الأكثر إشراقا في حياة ابن السويداء الفنية هي تلك العلاقة الجميلة التي جمعته مع الملحن عبد الفتاح سكر الذي أعجب بصوته وأخلاقه وتواضعه منذ كان عضواً في جوقة الإذاعة فكان ذلك اللون الغنائي الفريد الذي أبدعاه سوية وكان أول عمل مشترك لهما أغنية لركب حدك يالموتور والتي مثلت حينذاك اتجاها جديداً في الأغنية الشعبية السورية وكانت فاتحة لأغان لا تنسى مثل ألفين سلام وتحت التفاحة وجس الطبيب واشرح لها ويا سالمة ويا بنات المكلا ويا حمام الدوح.

ومنذ العام 1963 حمل مطربنا الراحل لقب مطرب الرجولة الذي أطلقه عليه الإعلامي والفنان اللبناني نجيب حنكش بعد الحوار الإذاعي الذي أجراه معه في برنامجه ألوان الذي كان يعده ويقدمه في إذاعة لبنان ليصاحب هذا اللقب فهد بلان حتى آخر أيام حياته وليكون بحق كما قال هو نفسه لاحقاً أن الرجل المعتد بكرامته لا ينساق وراء عاطفته في غنائه ولا يصور الحب بروح العاشق الذليل بل يقنع الجمهور بغنائه بالمحافظة على تقاليد بلاده مع مراعاته للتطور.

وخلال تلك الفترة التقى بلان لأكثر من مرة مع الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي أعجب بصوته ودعاه لأن يجرب ألواناً أخرى من الغناء غير الطقاطيق والأغاني الشعبية واستجاب مطربنا الراحل لرغبة عبد الوهاب وغنى القصيدة الجميلة يا ساحر العينين يا أكحل من ألحان عبد الفتاح سكر.

ودفع النجاح الكبير الذي حققه هذا المطرب الساحر بالقائمين على مهرجان أضواء المدينة الذي كان يقام سنوياً بالقاهرة إلى دعوته للمشاركة كضيف شرف وهنالك أطرب الجمهور المصري بأغان جديدة على أذنه لم يسمع لها مثيلاً من قبل والذي أدرك أنه أمام مطرب غير المطربين الذين أعتاد الاستماع إليهم لينجح فهد بتلك الحفلة في الوقوف وحيداً أمام كبار المغنين المصريين أمثال عبد الحليم حافظ ومحمد عبد المطلب ومحمد رشدي بينما لم يكن يحمل بجعبته حينها سوى الأغاني التي كان غناها للملحنين السوريين.

وأقام فهد في مصر قرابة تسعة أعوام تعامل فيها مع كبار الملحنين واستطاع أن يسيطر على الساحة الغنائية سواء بألحانه السورية أو بالألحان التي قدمها له الملحنون اللبنانيون والمصريون وفتحت له القاهرة أبوابها ليكون نجماً من نجوم الغناء في مصر رغم أنه حافظ على أسلوبه المتفرد الذي لم يتأثر بأسلوب المدرسة المصرية ولم ينجرف إلى تقليد ما هو شائع في الغناء.

واستفادت شركات الإنتاج من الشعبية الكبيرة لمطربنا الكبير في إسناد دور البطولة في عدد من الأفلام التي حققت نجاحاً كبيراً في شباك التذاكر وبلغ عددها 14 فيلماً سينمائيا خلال مدة لم تتجاوز سبعة أعوام بداية بفيلم عقد اللولو الذي قدمه إلى جانب دريد لحام ونهاد قلعي وانتهاءً بفيلم لسنا ملائكة وشارك معه في هذه المسيرة السينمائية الحافلة مطربون وممثلون عرب أمثال وديع الصافي وصباح ونجاح سلام وطروب ونصري شمس الدين وسميرة توفيق وحسن المليجي وعبد السلام النابلسي وإحسان صادق وناديا جمال وإبراهيم خان ومريم فخر الدين ومديحة كامل وناهد يسري وإسماعيل ياسين واشرف عبد الغفور وعباس فارس وغيرهم الكثير.

وأثناء حرب تشرين التحريرية عاد فناننا الراحل إلى سورية ووضع صوته في خدمة المعركة وبثت له إذاعة دمشق عشرات الأغاني الوطنية التي كانت تدوي حماسة والتي قدمها من صميم قلبه وحبه لوطنه وانتمائه إليه ولعل أشهرها من يوم ولدنا يا بلدنا التي لحنها سهيل عرفة وموال من بلدي ليقدم تسعين أغنية شدا بها فهد بلان كلها في تسعين يوماً من تلحين الراحلين سمير حلمي وعبد الفتاح سكروكان يقال إن الملحنين كانا يلحنا الأغنية قبل أن يجف مداد كلماتها وإن فهد كان يغنيها قبل أن يستقيم لحنها الذي كان يعطيه هو بالذات صورته النهائية.

ومنذ أواخر السبعينيات عاد بلان إلى سورية بشكل نهائي وأصبح يقضي جل وقته في السويداء حيث ابتاع لنفسه أرضاً زراعية حولها مزرعة لأشجار التفاح وعمل على تأسيس فرع لنقابة الفنانين في المنطقة الجنوبية وكان ذلك على حساب ظهوره الفني وحفلاته وأغانيه التي أصبحت أقل شيئاً فشيئاً وليبدأ المرحلة الثالثة والأخيرة من مسيرته الفنية حيث التقى بالشاعر والموسيقي سعدو الذيب الذي قدم له واحدة من أجمل أغانيه وهي يوماً على يوم ثم أغنيتي سلامين وغالي علينا يا جبل.

ومع قدوم سنة 1997 أصيب فناننا الكبير بنزيف في الدماغ ونقل إلى المشفى وعندما عاد أخذ بأسلوبه الريفي البسيط يخفف من خوف الأقرباء والمعجبين ورجال الصحافة ويصف النزيف بالخثرة البسيطة ولكن الأعراض تفاقمت وأدت إلى جلطة دماغية حادة لم تمهله حيث توفي في 26 آب من نفس السنة عن عمر لم يتجاوز 64 عاماً.

يوجد في خزينة فهد بلان الغنائية نحو ألف أغنية حملت تواقيع كبار الملحنين العرب إذ لحن له ملحم بركات ما اشتقتيش وفيلمون وهبة يا خيال يا رايح على الجولان وعباية مقصبة وبليغ حمدي بحري الهوى وخالد الأمير ركبنا على الحصان و أهلانين وسهلانين وسيد مكاوي موشح مال واحتجب كما لحن له الحوارية الجميلة التي غناها مع الفنانة المصرية الراحلة هدى سلطان حبيبي زمانو عاد وقدم له الموسيقار السوري الراحل فريد الأطرش أشهر أغانيه التي قدمها في مصر وهي ما أقدرش على كده.

ولم يبالغ الفنانون العرب في كيل عبارات المديح لفناننا الراحل إذ قال فيه سيد مكاوي بأنه يعطي فهد بلان اللحن شجرة عارية ويسمع منه اللحن مزهوة بأجمل الأثمار وشهد رياض السنباطي بإنه المطرب الذي كنا بانتظاره واعتبر الموسيقار محمود الشريف أن فهد بلان أتى إلى مصر لكي يلقي حجراً في المياه الراكدة ورأى الملحن الكبير محمد الموجي في صوت فهد بلان صوتاً يمتاز بالقوة والجمال ووصفته سيدة الغناء العربي أم كلثوم بأنه صاحب لون وأداء ومغنى جديد في الغناء العربي وقال فيه الملحن نجيب السراج أنه لم تتبدل نفسه وحافظ على الطيبة والوفاء ورأى طلال مداح أن فهد بلان فتح الطريق للمطربين العرب أمام تجارب تختلف عن المطربين المصريين واللبنانيين ووصف الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي دخوله لمصر بدخول الفاتحين.

وحصل فهد على وسام الفنون من الدرجة الأولى في سورية وعلى وسام الاستحقاق للفنون في كل من من ليبيا والمغرب وإذا كان الشاعر الفلسطيني سميح القاسم وصف مطربنا الراحل بالظاهرة الفنية غير متكررة نزيد على ذلك أن الفن الذي قدمه وبقي مصراً عليه حتى النهاية لم يكن باستطاعة أي مطرب آخر تقليده أو الإتيان بمثله لأنه خاص جداً وملتصق بشخصية فهد بلان ويكفيه أن سمح له بمقارعة العمالقة وأن يحقق لصاحبه مكاناً في خريطة الغناء العربي فكان السفير الأول للأغنية السورية ورائد الأغنية الشعبية السورية التي حمل لواءها بإصرار ونقل معالم جمالها إلى أنحاء العالم.


سانا

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

ابراهيم جاد جرجس:

تحية لصوت وشخص المطرب السورى الجميل الراحل فهد بلان .

مصر