بين الفانتازيا البصرية الخفيفة والموروث الشعبي البصري

15 تموز 2012

حول معرض بطرس المعرّي في صالة تجليات بدمشق

ما بين تجليات الفنان بطرس المعري في أوقات فراغه والحكايات الشعبية التي يركـّز فيها على الحميمي من الأمكنة المنسية في خبايا الذاكرة البصرية وما تضمّ من تفاصيل تبدو مدهشة اليوم، مستحضراً جمالياتها التي تعكس ثقافة ذلك الزمان و المكان ومدى انسجامها مع متطلبات العصر اليوم لتبدو في لوحات الفنان على شكل مفردات لطيفة وممتعة بصرياً بعد أن أصبحت فولكلوراً للذكرى مثل: «الطربوش، الحكواتي رقصة المولوية والعراضة»، وغيرها من المظاهر الاجتماعية التي باتت من الماضي الجميل أمام تكنولجيا العصر وزمن المعلوماتية، مع مفاهيم جديدة ومعاصرة دخلت إلى حياتنا كالحداثة وما بعدها، وما إلى ذلك من نُظم وقواعد انسحبت على جميع صنوف العلوم والأدب والفن، دون أن تُفقد الأصالة دفأها ومعاني الأشياء مغناها رغم مرور مئات السنين عليها.

«تجليات في أوقات الفراغ» .. عنوان المعرض الشخصي الأحدث للفنان بطرس المعري المُنتهي مؤخـّراً في صالة تجليات بدمشق، والذي قدم فيه بحدود الخمسين لوحة تشكيلية تراوحت مساحاتها بين (21+21سم ) و (132+180سم)، والتي تجلى فيها الأدب بالموازاة مع التشكيل من خلال الكلمات التي زيّن فيها الفراغ شاغلاً معظم المساحة في بعض الكوادر ومشكّلاً عنصراً أساسياً يضمّ برغبة تلك الشخوص المتباينة في عكسها تلك اللحظة من التعبير عن الحدث أو الموضوع، ولو في أكثر من ركن على نفس الكادر في تأليف المشهد الذي احتفى بجميع العناصر بنفس الأهمية.


من أعمال التشكيلي بطرس المعري في غاليري تجليات بدمشق


لقد اجتمع في لوحات هذا المعرض مجموعة من الشخصيات المؤثـّرة في التاريخ القديم والمعاصر، فحضر أدونيس بشعره الحداثي إلى جانب أنسي الحاج، السيّاب، وعمر الخيام والماغوط، وفي الجهة المقابلة كان هناك شيبوب أو عنترة وعبلة مع الحكواتي في كادر واحد .. كما افترض في أحد مشاهده دعوة الفنان برهان كركوتلي إلى عشاء في منزل الفنان نزير نبعة .. إلخ ، ليبقى هذا التوصيف أدبياً لبعض لوحات المعرض وربما يصحّ أكثر كعناوين لها، فبدل أن تساعد المتلقي على الدخول إلى فضائها أرى أنها باعدت بينهما فزادت المشهد تجريداً من حيث المعنى على أقل تقدير، وهذا يعيدنا برأيي إلى طريقة الرسم التي اعتمدها الفنان والتي ينهل فيها من ذاكرة تنبض بتفاصيل متداخلة من يوميات سنوات تجربته الفنية لعقدين من الزمن كان أمضاه في كل من (دمشق، باريس، دمشق).

إذن من دمشق في العام 1991 كانت البداية بمشاركته في معرض اللوحة الصغيرة بصالة (وفاء)، وهو العام نفسه الذي تخرّج فيه من قسم الحفر بكلية الفنون الجميلة، عمل لسنوات كمعيد في نفس الكلية، سافر بعد ذلك إلى باريس التي حصل منها على درجة الدكتوراه في مجال فن الكتاب المصوُّر العام 2006، عاد بعدها إلى دمشق ليدرّس في قسم الحفر بكلية الفنون الجميلة.


من أعمال التشكيلي بطرس المعري


هذه الرحلة بين الدراسة والاشتغال تضمّنت مجموعة من المشاركات في معارض هامة بمجال تخصّصه بفن الكتاب، إضافة لمعارض فردية متنوعة في كل من باريس دمشق، بيروت، وكان الأحدث هذا في صالة تجليات بدمشق الذي كان ترتيبه الثامن في سلسة معارضه الخاصة (تجليات في أوقات الفراغ)، والذي تضمّن خبرة تلك السنوات من البحث ربما عن أشكال جديدة من التعبير أكثر ما تجلّت في الصياغة التي استندت على مفهوم ثقافة غربية وحداثية في شكلها العام، بينما اعتمدت في تأليفها على موضوعات أدبية توزعت على حقب زمنية مختلفة اختار منها أحداثاً ومحطات حفظتها الذاكرة الشعبية لأهل المنطقة، تعكسها مفردات أرادها الفنان هكذا بسيطة ومؤثـّرة من شدّة إفصاحها عن المتوهّج من الموروث الشعبي، والذي يستحضره بأسلوب شيّق ومكثّف للحدث المفترض بشكل إيمائي وغير مباشر خدمة للتشكيل على حساب الأدب، يقدمه الفنان على طريقته دون غيره من الذين تناولوه، وبرؤيته هو محاولاً الاستفادة قد المستطاع من جمالية التناقضات التي يعقدها على نفس السطح في لوحاته بين مجموعة من الثنائيات، فعلى مستوى الرسم هناك تناغم بين الخط المستقيم والمنحني وبين شكل المربع والدائرة في وجه شخوصه, والتناقض الآخر المشغول عليه هو اللون مابين الأسود والأبيض من جهة وبين الجزء الملوّن في كثير من المشاهد من جهة ثانية، والتأليف الذي شهد موضوعين مختلفين ومن زمنين متباينين على نفس السطح كما في لوحة (عبلة والحكواتي) مثلاً، وهناك أمثلة عديدة على نجاح الفنان في جمع أكثر من تناقض في نفس اللوحة مستفيداً من المقومات الإيجابية لهذا التناغم بين مكونات المشهد من عناصر جذب بصري مختلفة كالإضاءة واللون والتكوين بالإضافة إلى الرسم والقيم الغرافيكية في العمل التصويري، وشكل الصياغة أو الأسلوب الذي بات يميّز لوحات المعري كونه حفّاراً بالأصل قبل أن ينحاز في لوحته إلى التصوير بتقنياته المختلفة.

في هذا المعرض الشخصي الثامن للفنان بطرس المعري والذي ضمّ نماذج من تجربته التي عالج فيها أكثر من موضوع، نلاحظ فيه اعتماد الفنان على تقنية الأسود والأبيض وعنصر الرسم الذي كان أساسياً في تجسيد الحدث أو إعادة تركيز الإضاءة عليه، وبخاصة موضوع الدراويش الذي كان حضوره مميّزاً من حيث عدد اللوحات وما تضمّ من عناصر تألّقت من خلال تناغم كل من الأسود والأبيض وما بينهما من درجات رمادي ساهمت في توهّج اللون الأحمر أو الأصفر على الرغم من تواضع المساحة التي يشغلها أي منهما في الكادر أو الاثنين معاً في هذه المجموعة من اللوحات، أو حتى في غيرها من الأعمال التي يستخدم فيها الكولاج بإضافة بعض الأشياء إلى السطح مثل قصاصات مطبوعة من الجرائد عربية أو أجنبية يغني فيها بعض المناطق من اللوحة تقنياً بالدرجة الأولى وليزيد في نفس الوقت من حيوية المشهد من خلال إشغال الفراغ بعناصر لطيفة ومفيدة.


من أعمال التشكيلي بطرس المعري


إذن في بعض لوحات المعرض التي تتوزّع على أكثر من عشر سنوات، هناك ما ينتمي منها إلى زمن إقامته ودراسته في باريس 2004 وهي تتضمن بعض اليوميات على شكل فانتازيا بصرية خفيفة تحمل بعض التفاصيل والكتابات على بعض الجدران وفي أنفاق المترو وغيرها من الأماكن العامة التي تحتوي على شرائح مختلفة لثقافات المجتمع المتنوع الانتماءات، عزّز من حضور هذه المجموعة من اللوحات فضاء التجريد اللوني الذي اتسمت به معظم المساحة فيها، كما تضمّن المعرض أعمالاً جديدة من إنتاج الفنان 2012 والتي ركّز في معظمها على موضوع التشخيص و(البورتريه) الذي غالباً ما يبدأ فيه رسم اللوحة وبخاصة تلك التي جسّد فيها موضوع رقص المولوية، هذه المجموعة من اللوحات كان رسم الأحدث منها في مشغل الصديق النحات لطفي الرمحين والذي قاسمه الرسم في إحداها، بينما غيرها فكانت غالباً ما تنضج على إيقاع حوارات طويلة وكان الفنان المعري يرسم برغبة أمام من حضر من الزوار والفنانين، والذين لا شكّ تركوا بصماتهم في وجوه الدراويش التي ظهرت في تلك اللوحات لهذه المرحلة، كما لاحظنا إطلالاتها من معظم الكوادر في المعرض على اختلاف الموضوع، وبالتالي لابد هنا من ملاحظة أهمية ذلك الوجه المتنقل في أعماله ليساهم من خلال حضوره في كل مرة بشكل مختلف من التعبير في إيصال الفكرة أو الحكاية بمساعدة بعض العبارات أو الكلمات التي تضيف هي أيضاً قراءة أو توضيحاً لما يريد أن يقوله الفنان في تلك اللحظة من الرسم.


من معرض التشكيلي بطرس المعري


بقي أن نشير قبل أن نغادر المعرض إلى ما قدمه الفنان في موضوع فن الكتاب، حيث عرض نموذجين من هذا النوع فكان الأول (كتاب مدارات أدونيس) وهو مشغول بتقنيات مختلفة على الورق، وجاء على شكل نسق من الصفحات المطوية بطريقة (الزكزاك)، بينما كان الثاني (كتاب لأنسي الحاج)، وهو منفـّذ بتقنيات مختلفة على الورق على شكل دفتر رسم تضمّنت صفحاته مجموعة من الرسومات المختلفة في موضوعها وألوانها، عرض إلى جانب الكتاب صندوقاً من الخشب مرسوم عليه وملوّن بنفس الطريقة، وكانت الألوان الأكثر حضوراً وتنوعاً في هذه التجربة التي كان عرضها العام الماضي 2011 في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق.

بطرس المعري:
- مواليد دمشق 1968.
- ثمانية معارض فردية في كل من دمشق باريس ولبنان.
- شارك في معارض عديدة هامة داخل وخارج سورية.
- شارك في أكثر من ندوة ولقاء دولي حول فن الكتاب.
- تجليات أوقات الفراغ كان المعرض الأحدث للفنان بطرس المعري بصالة تجليات بدمشق 2012.


غازي عانا

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق