طلال معلا و حكيم غزالي في الأرت هاوس

06/شباط/2008


حيث تتعدد الثقافات وتتلاقح تولد الحضارات الغنية بمفرداتها وخصوصياتها القائمة على الرأي والرأي الآخر، ماينعكس على حياة الإنسان ونظرته المختلفة للأمور، وفي الجانب الفني ينطبق ما ذكرناه على بلاد المغرب العربي، انطلاقاً من موقعها الجغرافي، فمن الثقافة الإفريقية إلى الثقافة البربرية والفرنسية والإيطالية، إلى البرتغالية والإسبانية، إضافةً إلى الثقافة العربية. ما ساهم في إغناء الحركة الفنية التشكيلية في بلاد المغرب العربي والتي أتت منفصلة عن مادة المكان إلى عوالم الزمان حيث اللانهاية، ومن خصوصيات التشخيص والتعبير إلى خصوصيات مجردة من كل الحيثيات، بمعنى آخر إلى التجريد المطلق.

في صالة أرت هاوس التقى الزمان والمكان في معرض تشكيلي مشترك ما بين الفنان السوري طلال معلا والفنان المغربي حكيم غزالي في 6/2/2008. حيث يجد الفنان غزالي في معرضه-وهو الأول له في سورية- مغامرة وصفها بالخائفة والمترددة، ويقول: "رؤيتنا الفنية تختلف كثيراً عن الرؤية الفنية السورية، فثقافتنا الفنية تعتمد على الزمان أكثر من المكان، وعلى الجزئيات أكثر من الشكل، حيث لا يوجد توازن في اللوحة وهو منعدم تماماً واللوحة تجدها في كل الزوايا حيث لا ألوان، ما يعني أننا نتكلم هنا عن التجريد المطلق في الفن. في حين تقوم الثقافة السورية على الشكل والتشخيص واللون، وهذا أمر طبيعي وجزء من الثقافة المحلية. ما ذكرت جعلني أتردد كثيرا قبل المجيء إلى هنا كفنان مع أنني ومنذ سبع سنوات أفكر في أقامة معرض في سورية، وحقيقة شكل هذا المعرض تحدياً كبيراً لذاتي من حيث مدى استطاعتي في كسب المتلقي في بلد آخر، ثقافته بعيدة كل البعد عن ثقافتنا الفنية التي اكتسبت خصوصيات مكنتنا من الخروج عن إطار العربية إلى أوروبا وأمريكا واليابان وبالتالي بات الفن البصري المغربي مختلفاً تماما عن الفن البصري الموجود في المشرق".

ويضيف الفنان المغربي غزالي "أنطلق في لوحتي من فضاء أبيض وأعود إليه وأنا لا أراه أبيض فهو بالنسبة لي مجموعة ألوان ويختزل الحالة اللونية بأكملها وبالتالي يصبح لدي مد وجزر في بعض الألوان أو بشكل عام معظم الألوان بحيث يصبح لديها خضوع، سجود وركوع للون الأبيض/ وعندما أجمعها فيما بعد تعطيني اللون الأبيض، البعض يقول لي أين اللون وأين المفردات فما أمامنا ليس إلا فضاء فارغ وأنا أؤكد لك أن اللوحة غنية جداً بمفرداتها، فلا يوجد فن من فراغ ولكن ما تحتاجه اللوحة منك الوقت و أن تتقرب منها أكثر فأكثر وستجد فيها كل يوم شيئاً جديداً من فكر وحكاية وجمال وكلما اقتربت أكثر اكتشفت أكثر بحيث تغدو زبوناً لها، أما اللون فهو موجود وأيضاً يحتاج فقط إلى وقتك وستجد في كل زاوية لوناً بل طبقات لونية فيها حس صوفي ولعلك عندما تشاهدها على ضوء النهار سيكون اللون مغايراً عن مشاهدتها في الليل.

يبدو أن الإنسان سجين طفولته، وطفولة الغزالي لم تشاهد الألوان ولعلها أول مايلفت انتباه الطفل عند نمو حواسه، ويقول الفنان: " تربيت في أسرة محافظة حيث لا ألوان، وعندما كبرت أرسلت إلى كتاب القرآنية، وهناك كل شيء أبيض وبقي عندي هاجس اكتشاف اللون وعندما أغرقت في البحث وصلت إلى نتيجة أنني أدور في حلقة مفرغة، ففي خبايا اللون الأبيض مجموعة ألوان وكل يوم أكتشف فيه لونا جديداً ".

الفنان حكيم وعلى حد قوله لا يرسم اللوحة وإنما يكتبها كتابة دون فرشاة أو أية أدوات رسم أخرى، وإنما فضاءه الأبيض هو فرشاته وأدواته وكل شيء حوله يصبح جزءاً من اللوحة إن كان كوب شاي أو قهوة أو صحيفة وقد يستهويه نص فيطبعه بالمقلوب لأنه يشعر بأن هناك جمالية أكثر للشيء التناظري المعكوس، ويضيف: "أنا أتعامل مع فراغ له علاقة بالزمن ووراء هذا الفراغ عالم صوفي فلسفي، فكر وعقل وأسرار موجودة في كل جزء من اللوحة وهي تقول لك أن حكيم هنا موجود فقط اكتشفه، فلوحاتي وبمصداقية تشبهني من الداخل".

هو لا يؤمن بالمدارس الجاهزة ويرى أن التكوين شيء والممارسة شيء آخر وهو مع مبدأ الممارسة، وينظر إلى التجربة السورية على أنها امتداد لتجربة قوية جداً ولكن مأخذه الوحيد كمتلقي هو تأثير المكان على العمل الفني، ويقول: "الزمن غير موجود، وأعني به النهاية ونحن نبحث عنها لكونها مرتبطة بالحقيقة، ومن هنا يأتي الفراغ ونعود إليه وهذا شيء فيه الكثير من المعاناة مع الذات أن تبدأ من اللاشيء وتعود إلى اللاشيء، علماً أنك بحثت وأحرقت مراحل ولكن وجدت نفسك تعود إلى اللون الأبيض سر الإنسان الذي نبحث عنه، على أن ما ذكرته لا يعتبر نقصاً في الفن السوري حتى لا أُفهم خطأً، وإنما هذا التناظر يغني لو أن هناك جسور تواصل بين البلدان العربية بحيث يصبح لدينا فن متكامل مكون من زمان ومكان وهذا يوصلنا إلى الوعي ويخلق نوعاً من الجدال بين العقل والفكر وتقبل الآخر كما هو وهذا المطلوب".

يذكر أن الفنان حكيم قرر أن يمدد إقامته في سورية وأن يرسم لوحات من مخزون البيئة السورية وجدها قريبة منه على أنه وحسب قوله لن يعرضها في سورية وإنما في مكان ما من العالم.



رياض أحمد


اكتشف سورية


مواضيع ذات صلة
- جديد أحمد معلا.. الحيوية المستحدثة من المكان الأول
- طلال معلا ووجوهه في عمّان وباريس
سفير الفن التشكيلي السوري حول العالم


تعليقات القراء

المشاركة في التعليقات:

*اسمك:
الدولة:
بريدك الإلكتروني:
*تعليقك:

الحقول المشار إليها بـ (*) ضرورية

عبد الله:

الفنان التشكيلي السوري (طلال معلا) من مواليد سوريا عام 1952، تخرج من كلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، تابع دراسته الخاصة بتاريخ الفن المعاصر بإيطاليا. عضو في العديد من الاتحادات والهيئات النقابية الأكاديمية للفنون والنقد والأدب عربياُ ودولياً، شغل منصب مدير تحرير مجلة الرافد الثقافية ما بين 1992-1997، وعضو في هيئة تحرير مجلة الصورة، له العديد من الكتب والمقالات المتصلة بالفنون والنقد الفني التشكيلي والأدب، أقام مجموعة من المعارض الفردية ومُشارك في كثير من المعارض الجماعية داخل الوطن العربي وخارجه، يشغل وظيفة مدير المركز العربي للفنون، ومشرف معهد الشارقة للفنون بإمارة الشارقة التابعين لدائرة الثقافة والإعلام فيها. يُعد بحق ظاهرة ثقافية عربية واسعة الطيف، مُتنقلة ما بين العواصم العربية والأعجمية، تحمل في طياتها معالم شخصية متفردة، ومتمايزة في عوالم الفن والكتابة والصحافة والملتقيات الفنية والمهرجانات. تراه في الفن والشعر والنقد والصحافة المرئية والمسموعة والمكتوبة، كما في العروض الفنية التشكيلية والندوات يمتلك ناصية ( قول المقال)، لما لديه من موهبة مُعمدة بالخبرة والثقافة البصرية والفكرية متنوعة المناهل والمصادر. وقدرة ثقافية فائقة على أسر قارئه أو مُحاوره طيلة الموقف التفاعلي لهذا المشهد الثقافي أو ذاك. متوحد مع ذاته صانعاً لها حضوراً لافتاً و(كاريزما) مُحببة في عالم الفن والأدب والثقافة. هو نسيج ذاته الباحثة في ميادين الذاكرة المفتوحة على عبق التاريخ والأمكنة، مُرتحل على الدوام ما بين مساحات الحلم والأسطورة وسمو النفس والتأملات الصوفية، المعشبة في حبر الكلام وتواشيح الخط واللون وعناق المساحة في مقامات بصرية تنهل من أشعة الشمس حضورها، ومن نورانية الشرق العربي جمالها. تعرف حدودها المعرفية، ومقاماتها البصرية المسرودة في مختبرات تجاربه الذاتية المرصوفة فوق خامات بيئية وصناعية متعددة، جامعة لتجلياته التعبيرية ومسارات عراكه التقني، والبوح بأسرار نفسه المنسوجة من مخيلة مُتفكر فيها. لوحاته الفنية التشكيلية لا تلتزم مدرسة فنية بعينها، خارجة من مناهل ذاكرته البصرية وحدس مُخيلته وحساسيته الذوقية المُفكرة. تؤرخ لمراحل ابتكاره متنوعة الوجوه والتي لها من العمر أكثر من ثلاثة عقود، يدخل في طياتها بمساحة السرد البصري والعزف التقني بمواده وخاماته البسيطة غير المتكلفة، قوامها الأحبار والصبغة الطبيعية تارة، وملونات الأكرليك في نهاية المطاف. مُشكلة مادته الرئيسة لرصف نصوصه وبيانه البصري، من كونها مجاله الحيوي لقول مقولته الفنية المُفرخة لعشرات الصور المعقولة والمرئيات، من يد ماهرة تُحسن صنيعها في بلورة أفكاره. تجمع مقامات سرده اللوني في جمل تشكيلية متآلفة، وتشي بقُدرته التعبيرية على بناء مكوناته، بناءاً جمالياً مُغايراً للاتجاهات التقليدية بالفن. كل لوحة من لوحاته مرهقة بمقامات بصرية تُقرب المتلقي إلى واحة الفطرة وتلقائية العبث العقلاني المقصود فوق سطوح الخامة. لا تُغادر خياله ومساحة تفكيره الحافلة بالرمز ودلالات الأمكنة والتعبيرات مُتعددة الثقافات. لوحاته عوالم مسكونة بمتعة التجريب والعزف التقني، تُغازل عقله الباطن محاورة لونية في إحالات المعنى، حرية تعبيرية مفتوحة على إنسانية الإنسان، تُبرر وسائط العقل في الرؤى. تنفث عطرها الجمالي ومتعته الشخصية في مقامات السرد البصري، المُنفلتة على الدوام من عِقال المدارس الأكاديمية النمطية والقيود المدرسية المفروضة، ولا شيء آخر. تروم مسك ناصية الحرية المتسعة لحيز الكتلة والفراغ وفضاء اللون، ومدارات الفكرة المُسطرة في متن نصوصه كمدونات حسيّة منثورة فوق سطوح الخامات، تُحاول فتح سجل فتنتها التعبيرية المفتوحة على الشخوص عموماً، ووجوه النسوة المتناسلات من واحة مُخيلة وفطرة مرتسمة في متواليات النصوص خصوصاً. وجوه نسوة غير معنية بمدارات الزمن المتعاقب ولا بالأمكنة، متباينة الملامح. خارجة عن سرب الواقعية التشخيصية لمصلحة التعبيرية المُغرقة في تعبيريتها، مُتدثرة بجماليات الفطرة تارة والقلق تارة والحيرة في كثير من الأحوال. وجوه مأخوذة بمفاعيل الصورة الحسيّة العاكسة لوعي الفنان ونشوته العابرة في لحظة حدس تأملي، تجود مضامينها بمُضمرات النص وخلفيات الصور المُستعارة. تكشف دواخلنا النفسية ومساحة عرينا الروحي كمرايا مُحدبة تشوه ملامحنا الواقعية بلمسات تعبيرية كاشفة لواقع حالنا الإنساني، والبحث عن منافذ تعبير وتوصيل وقول مُباح. لوحات تشدو بغواية التجريب جامعة لوحدتها العضوية، المتناثرة في جميع شخوصه وملوناته المتناسلة من دائرة الألوان الرئيسية (الخمسة) في الطبيعة، داخلة في مجرة الاشتقاق وثنائيات الألوان المُتناسبة. لوحات عامرة بتضاريس الوجوه الإنسانية، تنوء في بوحها الشكلي أنين حُزن قديم وصمت مُحيّر، تغرق في مسارات المشابهة الشكلية، موسيقى حسيّة مبنية على التراكم المعرفي بالأشياء، وعجينة لونية تعرف طريقها لنشر تقاسيمها دسامة وشفافية، توافقاً وتعارضاً، مُشرعة صدرها لعين المتلقي وعقله بما فيها من تواتر وتناغم تقني، وما تبقى في جعبتها من ملامح إنسانية، عِبر وجوه مسطحة متخندقة في مساحات هندسية متكررة والمربع على وجه التحديد، مُتداعية في خطوط ومساحات لونية غارقة في دثار الفوضى المُنظمة.
الامارات

فاروق يوسف ناقدعراقي - السويد :

في وجوهه التي تفارقه طلال معلا ينشئ كائناته من مادة رخاء متخيلة 1 لا أحد في إمكانه أن يخمن السبب الذي دفع برسام بحجم السوري طلال معلا إلى أن يجعل من الوجه أيقونته الوحيدة التي يستخرج منها ويستعرض من خلالها أفكاره عن الجمال. لا تختصر المجازفة التقنية، وهي موجودة بقوة، كل شيء. كذلك فان الرغبة في الإسهاب الحكائي يردعه اقتضاب واضح على مستوى الشكل، وهو شكل يحضر بطريقة استفهامية، يزيده الأسى البادي على الوجوه توترا. وكما أرى فان معلا وهو الذي خبر التجريدية جيدا، قرر في لحظة الهام أن يعيد اكتشاف ذلك الجذر المقيم في أعماقه بقلق، ليستعيد من خلال ذلك الاكتشاف صلته بالمحترف الفني السوري، لكن بأدوات قياس جديدة. وهو حكم قد لا يكون عادلا، ذلك لانه يستقوي برؤية تاريخية لا تصمد دلالاتها التأويلية الحائرة أمام خبرة فنان جرب الكتابة النقدية، باعتباره واحدا من أهم صناعها في العالم العربي. ربما العودة إلى كتابه "جسد" الصادر عام 1999 وهو كتاب تجريبي نادر في الثقافة العربية (من جهة تمرده على كل جنس أدبي ممكن) تعيننا على استيعاب هذا التحول الفني. وهو تحول طغت عليه غزارة في النتاج الفني مدعومة بنضج تأملي يواجهنا بسعة غير متوقعة على مستوى التعبير. وهو ما يؤكد أن الرسام قد استخرج تلك الوجوه من أعماق منجم روحي هو في حقيقته مختبر تجليات، امتزج من خلالها الجسدي بمادته الشفافة التي تفارقه في كل لحظة وحي. ومثلما صار معلا مع الزمن نتاجا لفكره الصوفي فان وجوهه تنسج مسافاتها بمشيئة قدر يعلي من شأن ما لا تظهره، وما لا تتبرج به. هل أتحدث عن معنى غامض، تستفزنا لغزيته؟ ما لم نألفه في نتاج المحترف السوري نراه في الوجوه التي صار معلا يستجير بها للتعبير عن أزمة الإنسان المعاصر. كانت لدى فاتح المدرس لمسة شعرية سعى معلا إلى إحراجها واستفزازها بل ونفيها من خلال وحشية وجوهه وبريتها وقسوة المعاني التي تختزنها. وبالطريقة نفسها يمكننا أن نهتدي إلى المسافة التي تفصل بين تجربة معلا وتجارب فنانين سوريين قضيا شوطا طويلا في ارتياد الوجه البشري هما مروان ونذير نبعة. طلال معلا في وجوهه هو كل الفنانين الذين التهمهم نقديا غير أنه لا يشبه أحدا منهم. هو صنيع فكرته عن الجسد، حيث تنبثق الشهوة من مكان خفي، لا تيسر الحواس المحتملة إمكانية القبض عليه. ذلك لأنه يقيم في فقده وخذلانه وخيبته وانكساره ورعشته الخالدة. 2 لا تخذله المرآة، وهو الذي لا يستعين بها. فطلال معلا (مولود عام 1952) لا يرغب في أن يقول شيئا بعينه. يكفيه أنه يكتب نقديا بغزارة عن آخر متخيل. رسومه هي مرآة لما لم يعثر عليه في تلك اللغة المتاحة عبر الكلمات. وجوهه التي تتخلى فجأة عن صلابتها لتسيل على القماشة كما على الورق هي نوع من التفكير بما يمكن أن تنتجه أية لغة لا يلهمها معيار واقعي بلاغتها. توحي تلك الوجوه بانسحابها لا لكي تترك أثرا صادما يصدر عن فراغها بل لكي تتأكد من وجودها الذي يقع خارج كل وجود. فهي تحضر كما لو أنها تغيب. يصنع معلا بتلذذ لحظة وداع تذكرنا بكليمنته، الرسام الإيطالي الذي هو ليس من صناع الوجوه المحترفين. مزيج من الخفة والرخاء الداخلي والشظف والمكابدة والشقاء يضع كل وجه يرسمه معلا في ميزان حقيقته، حيث الواقعة التي تعجز عن وصف ذهولها إزاء ما تنطوي عليه من معجزات صغيرة. ما لا يخفيه الوجه هنا درايته بصنعته: أن يكون هدفا صامتا لما لا يمكن التعبير من خلاله. فهو الفكرة التي تؤلف نغمها من فتات أوهامها. في حقيقته فان طلال معلا لا يستعير وجوها بل يعير وجوها أقنعة يستدرجها لتشكل فضاء لنقائضه: في الحب والكراهية، في البعد والقرب، في النعيم والجحيم، في الغياب والحضور. وهي في كل ما ترتجي قيامته إنما تمهد لغيابها بذلك الحضور الذي يفصح عن تعففها. لغة الشكر لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها. وجوه منسية تنظر إلينا كما لو أنها تستقرأ مستقبلها. ترى فينا مرآة ساحرها. هذا الرسام لا يكتب سيرته من خلال وجوهه كما فعل العراقي إسماعيل فتاح من قبل، ووجوهه من جهتها لا تهتدي إلى مفردات لغتها من خلال يديه كما يحدث في رسوم المصري عادل السيوي. وجوهه تجرنا إلى منطقة منسية من عالم الرسم، تتساوى فيها قوة التقنية وإرادة الفكر، من غير أن يتوسطهما أي معنى مسبق. اللوحة هي ضالة هذا الرسام المؤكدة الوحيدة. 3 ليس لدي طلال معلا ما يخفيه، فيدا الرسام منه ليستا كيدي الناقد. وكما يبدو لي فان معلا قد درب يديه على أن تستجيبا لقوة الوهم التي تتألف منها بداهته الجمالية. لذلك قد لا يكون غريبا أن يستحضر في رسومه كل الرسامين العالميين الذين رسموا وجوها، من خلال تناص إلهامي مشدود البناء . وهو فعل يهبه نوعا من التميز، ذلك لأنه يعين رسومه على الانتساب إلى عالم الرسم أكثر بعيدا عن كل مقاربة واقعية. غير أنه يفعل بأولئك الرسامين ما يفعله بالمواد التي يستعملها: يمزجهم وينقيهم من حكاياتهم، كما لو أنهم مواد سائلة، فلا يتضح منهم سوى شيء من ذلك البريق الذي لا تراه سوى العين الخبيرة. وهي عين شبيهة بعيني الرسام الذي خبر الرسم ناقدا. إن ما يحضر من إشعاعات أولئك الرسامين لا يتخطى فعل النظر لذاته، وهو فعل يشذ عن القاعدة دائما. ذلك لأنه غالبا ما يؤسس إنشاءاته بمعزل عما تجلبه حاسة البصر من تكوينات. لقد نظر معلا إلى الوجوه التي اجترحها من سبقوه من جهة كونها تمرينات أولية، يعينه النظر إليها على ارتكاب معصيته الفذة. والتي هي ليست سوى استخراج كائنات من العدم، لينشئ منها أسطورته الشخصية. فالرسام في نهاية الأمر هو رسومه. ولا أبالغ إذا ما قلت أنني رأيت شيئا من طلال معلا في كل وجه من تلك الوجوه التي اخترعها. ولكنني أعتقد في الوقت نفسه أن كل وجه من تلك الوجوه إنما يشير إلى نبوءة ممكنة، هي ما يختزنه فعل بصري لا يزال في إمكان الرسم أن يخلقه، نبرة صوت شاذة تنحرف باللغة عن مسارها. لا يرسم طلال معلا وجها بل يقترح حياة هي في طريقها إلى أن تفارق وجودها، مستعينا بلغة صوفية تزهد بمفرداتها.

ضيف اكتشف سورية
أنطون مقدسي
أنطون مقدسي
حصاد عام 2008
حصاد عام 2008
دمشق القديمة
غاليري اكتشف سورية
غاليري اكتشف سورية
 

 


هذا الموقع برعاية
MTN Syria

بعض الحقوق محفوظة © اكتشف سورية 2008
Google وGoogle Maps وشعار Google هي علامات مسجلة لشركةGoogle
info@discover-syria.com

إعداد وتنفيذ الأوس للنشر
الأوس للنشر