الرؤى التشيخوفية بين درامية النص والبنية الإخراجية في عرض (بلا عنوان) باللاذقية
26 نيسان 2012
.
يتسرب العبث في كتابات تشيخوف من مسامات غاية في الدقة، حيث يجد المرء نفسه أمام حياة في منتهى البساطة. كل شيء فيها معقول ومقبول وممكن وواقع، ولكن ولو سبر المرء ما يراه يجعله يُذهل، ويرتجف، ويتعجب متسائلاً: «من أين تسرب هذا الكم من العبث أو اللامعقولية؟ فكل شيء كان طبيعياً وعادياً، فكيف نشأ هذا الجموح الإنساني الذي يمزق الروح، ومن المسؤول عما حدث؟ هل هي الظروف أم أن معطيات الحياة الحديثة التي تجعل المرء متشظياً إلى درجة العدمية؟».
الأسئلة المطروحة على الإنسان الحالي يقولبها المسرح القومي في اللاذقية بعرضه المسرحي «بلا عنوان» المستقى نصّه من قصص تشيخوف، من كتابة وإخراج المخرج لؤي جميل شانا.
«اكتشف سورية» التقى المؤلف والمخرج لؤي شانا الذي حدثنا عن العمل قائلاً: «حاولت من خلال النّص تسليط الضوء على مجموعة من الأفراد المغرقين في الوهم إلى درجة إصابتهم بالفصام الوسواسي، مما لا يجعلهم ينخرطون مع البني المجتمعية التي هي بالأساس ساهمت في دمارهم داخلياً لدرجة تصديقهم لأنفسهم، مما أدى لتعرضهم لصدمة نفسية فقرروا السفر إلى أي مكان بلا عنوان، أي خروجهم عن مفهوم الزمان والمكان الذي يقيد الماهيّة البشرية ضمن المفاهيم الاقتصاديّة السياسية والاجتماعية، فتوجهوا إلى مكان لا يشبه الأمكنة، وإلى الل ازمان سعيا وراء الكينونة، ويقررون الرحيل ولكن إلى أين؟! فينتظرون القطار في مكان لا قطار فيه ولا تعبره حافلة قطار أبداً، ولازالوا ينتظرون! هكذا أراد النص أن يقول. ومن المتعارف عليه أن الرؤى الإخراجية لا تكتمل ولا تعبر عن رؤية العرض إلا بالممثل الذي هو العنصر الرئيس في العرض المسرحي، حيث جاء عرض مسرحية (بلا عنوان) مرتكزا على ثلاث شخصيات هم: أم عادل التي أدت دورها (نغم نعيسة) وشخصية الشاعر التي أداها (نبيل مريش) وشخصية الموسيقي التي جسدها(خالد حمادة) بينما الشخصيات الأخرى هي تدور بفلك الشخصيات الثلاث إضافةً إلى المجموعة التي تم توظيفا مشهدياً اتسم بالتعبير والجمالية معاً وخاصة في المشهد الأول مشهد العزاء. بينما برز من الممثلين الذين يدورون في فلك الشخصيات الثلاث الممثل (بسام حسينه) الذي أدى دور الصياد بشكل جيد وملفت حيث أعطى أدائه للعرض بعدا كوميديا حرك الإيقاع الراكد للعرض, كذلك كان (وسام مهنا) في بعض مشاهده التي استطاع أن يخرج فيها عن الرتمية والرتابة التي وضع نفسه فيها كممثل، ومن المجموعة برز (فريد حداد) الذي أدى دور معاون الباص بشكل ينم عن موهبة مسرحية واعدة».
من جهته قال المخرج المسرحي فرحان خليل عن العرض: «قبل الولوج في البنية الإخراجية لا بد من الإضاءة على النص الدرامي الذي كتبه لؤي شانا ضمن بنى تجريبية أراد أن يقبض على ماهية الدمار التشيخوفي، حيث سعى النص لكي يتلازم بين ما يحدث من عدمية في أغوار النفس البشرية، وبين مفهوم معد الذي صاغ هذا النص المسرحي من الحياة المعاصرة والآنية التي تسحق الإنسان لدرجة الدمار الداخلي الذي أراده تشيخوف في أغلب كتاباته، فلم يكن اختيار معد النص خارج المفهوم التدميري للإنسان والذي كان سببه ما يحدث من تسارع تخطى العمق الوجداني لآدمية الكائن فينا. لكن النسيج النصي الذي قدمه شانا جاء من مجموعة الأفراد ومجموعة العلاقات المتشكلة بين الناس من جهة وبين محيطها الاجتماعي من الجهة الأخرى، إذ سعى النص جاهداً لكي يتلمس بنية الحياة التي هي بالحقيقة تلعب دوراً سحرياً في التأثير على الأفراد، لكن جاء هذا الدور قاصراً وعاجزاً عن القبض على بنية العذابات الإنسانية».
وتابع خليل: «لكن البنى الإخراجية التي اعتمدها المخرج "لؤي شانا" رؤية تتشابه إلى درجة كبيرة من مسرح اللامعقول، حيث أنّ هذه المسرحية يمكن أن تبدأ من حيث نهايتها، ولو جمعنا شخصيات هذه المسرحية وغيّرنا البنى الداخلية لشخوصوها لما تغير مسار أي شخصية أبداً، وهذا إن دلّ فإنه يدلّ على أن المخرج يعي ما يريد بدقة عالية من حيث الطرح الحكائي من جهة والبنى الإخراجية من الجهة الأخرى، بل وعمق عبر المشهدية البصرية عزلة المرء وعجزه عن التواصل حيث جعلنا المخرج من خلال عزل كل شخصية عبر عوالمها الذاتية والتي لا تستطيع الاستمرار في الحياة عبر ذاتيتها المغرقة لدرجة الوسواس الوهمي، بكونه وظف شخصياته توظيفاً دقيقاً ضمن المسار الدرامي لكل شخصية وفرغ العمق العدواني لهذه الشخصيات والتي تبدو للوهلة الأولى عدوانية لأن ذاتيتها طغت على الشمولية الإنسانية، لكن ومع التصاعد الدرامي لكل شخصية نجد بأن كل شخصية لها مشاعرها الخاصة والتي تعتبر قفصاً خاصاً لا يمكن أن يلمجه الآخرون. وتوضح ذلك عبر ما أراده مخرج العرض أن يبرز التلازم المشهدي بين الحركة المسرحية والمفهوم النصي، فالتلازم بين الحركة والمفهوم الذي أسس له المخرج شانا عبر التكريس المشهدي الذي لا يعتمد البعد الجمالي الذي يهدف إلى إبراز الحالة الجمالية فقط، بل أصاغ الحركة ومفهومها بقانون عكسي، بحيث أن بهتان المفهوم يستلزم حركة صاخبة، بينما يهدأ الصخب حين بغدو المفهوم أكثر نفاذاً، والمفهوم الذي أبرزه المخرج هو مفهوم الدمار الإنساني، عبر مشهديّات غاية في القسوة التي لازمت شخصيات هذه المسرحية، من خلال رؤى كوميدية سعى المخرج لأن تكون هذه الرؤى تتوافق مع طرحه للعبث الحياتي وما أفرزته الحياة العبثية».
يذكر أن العمل فريق العمل هم: «ناصر مرقبي، نغم نعيسة، وسام مهنا، نبيل مريش، بسام حسينه، وخالد حمادة، بالاشتراك مع طلاب معهد أبو خليل القباني للفنون المسرحية».
نينار الخطيب - اللاذقية
اكتشف سورية