دراماتورجيا بيكيت
14 تشرين الثاني 2011
عرض مسرحي يحتفي بنمطية المتحف على حساب المعاصرة الفنية
تشكل الأسئلة التي طرحها عرض دراماتورجيا بيكيت لكل من الكاتبين الشابين وائل قدور ومضر الحجي في شغلهما على نصي الكاتب الإيرلندي صموئيل بيكيت "وقع الخطا" و"ارتجالية أوهايو" العديد من الإشارات التي عبرت عنها كل من التجربتين السابقتين واللتين تنزعان إلى الاختباء خلف مهمة الدراماتورج من أجل إسقاط أي مسؤولية تتعلق بغياب وظيفة المخرج المسرحي.
ويمضي كل من قدور والحجي إلى توصيف عمليهما الذي يختتم عروضه مساء اليوم في مدرسة الفن المسرحي الحديث بدمشق بأن مجموعة العمل لاتفصل كثيراً بين العمليتين الدراماتورجية والإخراجية في حالة نصوص بيكيت المختارة إذ تبدو العملية الإخراجية متضمنة تلقائياً في الدراماتورجيا الجماعية ومفرزاً طبيعياً لها حيث يوحي هذا الكلام بأننا أمام مختبر حقيقي لصياغة عمل مسرحي تكون فيه للدراماتورجيا مكانتها الخاصة لإدارة اللعبة المسرحية وذلك وفق معطى جماعي يبنى على تشاركية اللعب وديمقراطية الحلول والاقتراحات الفنية المقدمة من جميع صناع العرض.
وتكمن المشكلة الأساسية في التنظير المكتوب على بروشور العرض لتصدير صياغة أو تصور عن شكل العلاقات الفنية أثناء زمن البروفا فهذه يمكن فهمها والتقاطها بعد مشاهدة الصيغة النهائية لعرض آثر أن يقدم بيكيت في عبثه ولا معقوليته باللغة العربية ووفق تصور ذهني يضع الجمهور أمام جهد دراماتورجي عالي المستوى إلا أن الجمهور كان أمام صيغة مترجمة لم تستند في حدها الأدنى إلى مقاربة إبداعية لنصوص بيكيت بل أبقت النصين اللذين اشتغلت عليهما خارج التاريخ المصادف لفرصة عرضهما على مسارح العاصمة السورية.
و لم يتعرض كل من قدور والحجي لأي جهد له علاقة بالدراماتورجيا التي صدراها على ملصق العرض الممول من معهد استوكهولم السويدي للمسرح وذلك كصيغة لاحتفال بنوع مسرحي خاص يحتفي بمهمة الدراماتورج جاعلاً منها صميم خلق مسرحية مؤثرة.
ويتعارض الطرح الفني لعرض دراماتورجيا بيكيت مع اسمه من خلال فهم جزئي لوظيفة الفن المسرحي عموماً من حيث ان المسرح ظاهرة اجتماعية لا يمكن تحويلها إلى مستوصفات أكاديمية وكوابيس وجودية كون الجمهور المسرحي أولاً وأخيراً كائنا جغرافياً وتاريخياً تعمل الدراماتورجيا أصلاً على إعداد النص له ومفاضلة ترجمات النص العديدة إن وجدت من أجل التواؤم مع اتجاهاته وميوله فالدراماتورجيا كفن للإنشاء الدرامي أولاً لم تذهب نحو أبجدية إمكانياتها الأولية عبر النظرة التأويلية للنصوص المختارة و الجهد الجماعي لتحويل نص الكاتب الإيرلندي من صيغته المتفاصحة إلى شكل فني قادر على مخاطبة جمهور دمشق2011 .
ولم يسع العرض إلى خلق سياقات تاريخية واجتماعية وثقافية للنص كمهمة أولى من مهام الدراماتورج بل إن أطروحة كل من صاحبي المشروع انضوت تحت نوع من عروض القراءة دون اللجوء إلى مستويات لغوية جديدة للنص تخضعه لمحاكمة أو مناقشة فنية جادة مرسخاً بذلك فكرتنا القديمة عن مسرح بيكيت المتشائم كما في مسرحيته "كوميديا" التي جعل فيها كلاً من الشخصيات الثلاث للمسرحية "الزوج الزوجة العشيقة" تؤدي أدوارها في جرار فخارية لا يظهر منهم إلا وجوههم دلالة على توابيت ورحم الأرض الهائل في احتضان بشرية مذنبة بعد الحرب العالمية الثانية وما خلفته من دمار وملايين القتلى.
ولا يظهر العرض جهداً دراماتورجياً استطاع أن ينقل النص من صيغته المترجمة إلى صيغ راهنة وطازجة تشتبك مع واقع المتفرج وهواجسه حيث كان من الجميل أن نعد لصيغة سورية بامتياز تنتقل من بيكيت الإيرلندي إلى بيكيت محلي ينسى آلامه مع جيمس جويس وكراهية كل منهما للبشر ففي عرض ارتجالية أوهايو التي كتبها صاحب "نهاية اللعبة" تظهر مشهدية لا يمكن شطبها من ذاكرة الكاتب المسرحي الشهير عبر مشهدية صديقه جويس وهو يملي على بيكيت جمله الصامتة المتبادلة بين الكاتب وأستاذه فيما تعود بنا مسرحية "وقع الخطا" إلى ذاكرة بيكيت المتورمة عن "لوسيا" ابنة جيمس جويس التي وقعت في غرام الكاتب لتنتهي بها الحياة إلى فصام وهستيريا في مصحها النفسي الأخير فكانت تحسب الموتى أحياء تخاطبهم بعد صدود بيكيت عنها وموت أبيها المفجع.
وينحو العرض إلى إنجاز فضاء شبه تقليدي للخشبة متجاهلاً فضاء اللعب وفضاء الفرجة، و فضاء الجمهور فالجمل المكتوبة للشخصيات لا تتعدى كونها جملاً إخبارية محضة تغيب شعريتها لصالح وهم متحفي لتتصادى أصوات كل من الممثلين: فاتنة ليلى-رنا كرم-حمد ديبو-محمد زرزور في قاعة معدنية بعيداً عن الإثراء الجمالي والفكري المطلوبين من أجل الايحاء ولو لمرة أننا أمام اختزال إبداعي لمهمة كل من الممثل والسينوغراف الواقفين في صلب العملية الدراماتورجية.
ويعتبر وعي البطل المسرحي مفقودا في العرض لحساب نمذجة شكل من الكوابيس والهذيانات الإنسانية المقتلعة من تاريخها وسياقاتها الاجتماعية لمرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية بالاعتماد على حفيف اللغة التي عول عليها بيكيت في هذا النوع من المسرح فالكلمات متخشبة نتيجة فهم لممثلين غريبي الأطوار يؤدون أدوارهم دون أي علاقة مع الجمهور، باستثناء أنهم يقفون على مرأى من كراسي الصالة فالمتفرج في هذه الحالة غير قادر على التواصل إلا من خلال معطى لغوي متداخل ومركب على نحو شعري باهظ.
واعتمدت مسرحية دراماتورجيا بيكيت على إزاء نصوص قصيرة مليئة بالتجريد والهلوسة واستبعاد اللغة كوسيط تقليدي للتعبير نحو رحابة تركيب الأصوات وتعددها و حضورها وغيابها، والأهم من ذلك كراهيتها وانعزاليتها إضافة الى عدميتها في مناقشة صراعاتها الداخلية الحادة التي تركن في النهاية إلى فهم فلسفي خاص لطالما استقاه بيكيت من فلسفة الشك الديكارتية التي كان مفتوناً بها طوال حياته التي انتهت عام 1989 بعد عشرات النصوص المسرحية والإذاعية والشعرية والروائية مهدت بدورها مع كل من أداموف الروسي ويوجين يونيسكو البلغاري و بيتر هاندكه الألماني إلى تأسيس ماعرف بعدها بمسرح اللامعقول.
يذكر أن عرض ارتجالية بيكيت من سينوغرافيا وسام درويش وزكريا الطيان أزياء كريستينا طنوس إدارة ثقافية كوثر سليماني متابعة إعلامية راما نجمة تصوير فوتوغرافي خالد عيد.
سامر إسماعيل - سانا